وحدة الإحياءشذور

يوميات مغربية للأديب الأستاذ عمار محمد جحيدر

كتابُ “يوميات مغربية” للمؤرخ الليبي الثَّبت الأستاذ عمار جحيدر صورةٌ عاكسة لطريقة المؤلف في الكتابة الجامعة بين الإتقان المنهجي والفائدة العلمية، وهو يتضمن إلى جانب ذلك دفقاً من مشاعره الصادقة نحو المغرب الأقصى، ويعرضُ في تسجيلٍ يوميٍّ لمشاهداته ولقاءاته مع أعلام الفكر والعلم والثقافة المغاربة، من أساتذة الجامعات والمفكرين والمحققين.

وقد أسهم الأستاذ عمار جحيدر مؤلف هذا الكتاب في إثراء المكتبة العربية بعدد من المؤلفات التي تمتاز بدقة البحث وتوثيقه، وبقيمتها الخاصة في دراسة العلاقة بين التاريخ الثقافي الليبي والتاريخ الثقافي في المغرب الكبير[1].

 وإلى جانب التأليف والتحقيق يعدُّ الأستاذ عمار جحيدر من الشعراء الذين يكبحون جماح هذه الموهبة الشعرية ميلاً منهم إلى جادة البحث العلمي، ولكن تأبى هذه الموهبة إلا الظهور بين الفينة والأخرى، ولم يخدشها ما عبر عنه عبد الرحمن بن خلدون “بأظفار التأديب والحِكم”، فلئن أخذته الدراسات التاريخية من مجالِ الأدب إلى مجال البحث، فقد غدتْ كتاباته التاريخية بفضل ميوله الأدبية لوحاتٍ نثريةً ممتعة، تجمع بين الجديد من المعلومات والتحليلات المسوغة في حلة بيانية رائقة دون إغراق في الصنعة والخيال. وقد استهل مقدمة كتابه “اليوميات المغربية” الذي نعرضه اليوم ببيت من إنشائه يقول فيه:

بُشْرَى لِقَلبِي المُتْعَبِ *** في شَوقِهِ لِلْمَغْرِبِ

 تعود البداية الفعلية للأستاذ جحيدر في كتابة الشعر إلى أيام دراسته الجامعية بالقاهرة خلال السبعينيات من القرن الماضي، وقد نشر فيما بعد عدداً من قصائده في المجلات الثقافية المحلية والعربية، ومال إلى  الشعر الحديث، وفيه تعلق بروائع أبي القاسم الشابي، والتيجاني البشير، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وعمر أبو ريشة، ومحمود حسن إسماعيل[2]، وأثمر ذلك واحدة من أبرز روائعه الشعرية التي صاغها في ابنه الأول نزار بمناسبة عيد ميلاده الثالث، منها قوله:

ما كنتُ أعرف فلذة الكبدِ *** حتى أتيـتَ إليَّ يا ولدي

ورأيتُ فيكَ طُفولتي ألَقاً *** يَنْدَاحُ مِنْ أبوينِ في جَسَدِ

وتناغمَ الإحساسُ في خَلَدِي *** بِوصَالِنَا المُمْتَدِّ في الأَبَدِ

اسْتَلْهَمَتْكَ عَطَاءَهَا رَحِمٌ *** مِنْ كُلّ مَنْ حَبَلَتْ وَلَمْ تَلِدِ

فَكَأنَّكَ الأطفالُ فِي نَسَبِي *** وَكَأَنَّكَ الإغْرَاقُ فِي العَدَدِ

أَحْسَسْتُ أنَّكَ رَائعٌ وَكَفَى *** بِالرَّوْعَةِ المُلْقَاةِ في خَلَدِي

ويشاءُ القدر أن يختطف الموتُ هذا الطفل في عامه السابع، فيصوغ فيه الشاعر مرثية رائعة كذلك، وقد عوَّضه الله بنزار آخر أخذ اسم أخيه ومكانه في قلب الأسرة الكبير، وكان مسيرة متصلة مع الحياة والشعر.

وللشاعر نصوصٌ أخرى ناطقة بالحياة والجمال، يحار المرءُ في ما  يختار منها لهذه العجالة وماذا يدع، منها قصيدته الإنسانية الرائعة بعنوان: “خرساء” التي تعود إلى سنوات السبعينات وتصور مأساة فتاة تحبس كلَّ مشاعرها وأفكارها وراء جدران الصمت الدائم والرهيب، وله بائية جميلة بعنوان:  “فارس الخُلق الجميل”، في رثاء العلامة الأستاذ عبد الله الهوني، رحمه الله ، يقول فيها:

لا زِلْتُ أَحْتَمِلُ العَذابا *** وأمدُّ مِنْ حُزْنِي السَّــحَابَا

لا زالَ في قَلبي اللَّظَى *** يَغْلِي وَيَضْطَرِبُ اضْطِرَابَا

لا زالَ في نفسي الأَسَى *** كالمَــوْج يَغْمُرُها اكْتِئَابَا

لا زالَ مِلْءَ خَواطِري *** شبحٌ يُغــالِبُنِي غـِـلابا

فإذا ابتسمتُ بوجهـهِ *** شهَرَ الأسنَّةَ والحـــِرَابا

الحُزْنُ جَلَّلَ هَامَتِـي *** واغْتَالَ خِنْـــجَرُهُ الشَّبَابَا

وهي طويلة مفعمة بالصور والمعاني الجميلة، والتراكيب والألفاظ المنتقاة، وأروعُ ما فيها تصوير المشاعر في أحوالها المتنوعة، فهو شاعر العاطفة المميز في معظم قصائده، وفيها تجدُ شدة العاطفة، وتنوعها، وصدقها، أما إلقاؤها فيعطيها دفقة شعورية إضافية مؤثرة.

 وأكثر ما يُبدع فيه هذا الشاعر تصويرُ مشاعر الحزن والمعاناة التي لوَّن بها شعره، فكانت ملمحاً بارزاً في خصائصه الأدبية، وعكست حالة التذمر من الضغط السياسي والثقافي الذي عانته ليبيا طيلة الربع الأخير من القرن الماضي، ولذلك يستخدم الأستاذ عمار هذه الأيام عبارة “المنشقين القدامى” للتعريف بأمثاله من المثقفين الذين رفضوا التجاوب مع النظام وتجاهلوه في كتبهم ومقالاتهم وأعمالهم الأدبية، حتى لكأنها لم تكتب في ذلك العصر، ولم تنغمس في وسطه الفكري والسياسي، وقد كتب إليَّ قصيدة تُعتصر كآبةً حزناً وأسفاً على ضياع الأدباء والعلماء في حقبة الجفوة هذه:

مَاذا أَخِي عَبدَ الحَمِيدِ *** ماذا تُكسرُ مِنْ قيُـــودِي

مَاذا تُحَاورُ مِنْ خَيَالي*** أو تُلاحقُ مِنْ شُـرودِي

إنِّي، لَعَمْرُكَ، مُتْعَبٌ *** ويَكَادُ يَخْذِلُني صُمُـودِي

وتنالُ مني الحادثاتُ *** وقد عَجَمْتُ بهنَّ عُـودي

أينَ الطموحُ المستبدُّ *** ودفــقة العَزْم العَنيـدِ

أين الخطاطاتُ التي *** خُطَّتْ على الأَمَدِ البَعيدِ

وكأنَّ في العُمْرِ القَصِير *** مِسَاحَةٌ فوقَ الحُــدودِ

يَنتابُنِي الألمُ المُمِضُّ *** كَنَوْبَةِ الوَجْدِ الشَّــديدِ

وأكادُ أَضْحَكُ بَاكِيــاً *** وأكادُ أَبْكِي كَالسَّعِــيدِ

إنَّ الأديبَ مُضيَّــعٌ *** كَضَيَاعِ صَالحَ في ثَمُـودِ

وكنتُ تشرفتُ بالتعاون مع الأستاذ جحيدر في اختيار النصوص الشعرية الليبية التي نُشر بعضُها مع التعليق عليها والتقديم لها ضمن كتاب “مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين“، الذي أصدرتْه مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري بالكويت سنة 2001، ثم نُشرتْ هذه المختارات مع إضافات أخرى في كتاب “الشعر الليبي في القرن العشرين[3]“، وقد تجاهلنا في هذا الكتاب كلَّ ما يمتُّ إلى العصر السياسي الذي كنا نعيش فيه ودون اتفاق مسبق.

 وكانت الأيامُ التي جمعتني مع الأستاذ عمار في جلسات الاختيار هذه فرصة لأعرف عن قرب براعة الرجل في الاختيار والنقد، وهي صفة تدلَّ على تميز في المجالين، وعلى إحاطة بنتاج الأدباء وقدرة على تقييمها، ووقفتُ كذلك على طبيعة التمازج الشديد بين الذاتية والموضوعية في اختياراته الشعرية، فهو لا يلتفت إلى الشكل كثيراً، ولكنه مشدودٌ إلى التراكيب التي تؤثر عاطفياً في المتلقي بصورة لافتة، وإلى المعاني التي تحرك أحاسيسه بشكل واضح.

 غير أن هذا الأديب المُمَيَّز يكاد يتفرغُ الآن للبحث التاريخي، ويستأنس بالتحقيق، والتراجم، وتلتفتُ عنايتُه في دراساته وتحقيقاته إلى الحواشي المضيئة والفهارس المتنوعة، فيجد الباحثون في فهارسه غاياتهم ومطالبهم، حيث يجدون في كتبه فهارس للأعلام، والجماعات، والأماكن، والبلدان، والمؤسسات، والمصطلحات، والموضوعات العامة، والوثائق والمخطوطات، وهي توليفة مفيدة من الفهارس التي يسمِّيها بـمرآة النص”، ويضمُّ إليها ملاحق للصور، إذا لم يكن قد وضعها في أماكنها من النص.

 وفي كتابه “يوميات مغربية” صورة من هذه الفهارس التي تعكس خاصية جمالية في بحثه كما هي في شعره، ففي هذا الاستغراق في خدمة النص أجدُ شخصية عمار المخلص والجاد في بحوثه العلمية، وأجدُ إلى جانبها شخصية الفنان الذي يَنْشُدُ الجمال والكمال، ويَسْعَدُ بتقديمهما إلى الناس في أبهى الحُلل، سواءٌ أكان ذلك في صورة عمل أدبي أو علمي.

نعود إلى اليوميات المغربية حيث تتصاعد أحداثها منذ يومها الأول الموافق 25-5-1989 إلى 19-6-1989، مدفوعة بولع شديد وتطلعٍ صادقٍ لزيارة هذا البلد الجميل والغني بعبق التاريخ، والذي تعلق به وتواصل معه من خلال مصادر دراساته التاريخية المتنوعة. وتعتمد يومياته هذه على التسجيل المنتظم الذي يجد في كلِّ مساء مساحة زمنية كافية لتوثيق تلك الأحداث وترتيبها، في متابعة دقيقة للتفاصيل المهمة، وعناية متميزة باللغة والأسلوب، واهتمام خاص بالمخطوطات والوثائق المتعلقة بالتراجم والسير، والتاريخ، والتراث الليبي بصفة عامة، أو المغربي المتصل بليبيا بصفة خاصة، وعلى الأخصِّ منه الرحلات، وكتب الفهارس التي تعرضت للمعالم والأعلام في ليبيا عبر لقاءات طرق قوافل الحج، فقراءة هذه اليوميات تقف بك على كنوز كانت مخطوطة في ثنايا الأضابير، أو غير محققة ولا مُعتنى بها في الدراسات السابقة.

وفي اليوميات المغربية علاقة حميمية تربطه بعلماء المغرب المعاصرين، وإفادات وأخبار تزيد من معرفتنا بهؤلاء الأعلام ومزاياهم الخلقية والعلمية، وفيها تركيز على اهتمامات الناس وانشغالاتهم خلال فترة زمنية باتت من التاريخ بالنسبة للأجيال الناشئة بعد الألفين.

 ولما كان الإلمام بمحتوى اليوميات متعذراً في هذه العجالة، وذلك لتنوع ما تحتويه من معلوماتٍ، ومشاعرَ، وذكرياتٍ، وأساليبَ نثرية رائقة، فإننا نكتفي بعرض فقرة من بدايتها ليأخذ القارئ فكرةً عن وأسلوبها وقبساً من مضامينها الشعورية، مع إلمامة عجلى بملامح هذه اليوميات وجمالياتها. يقول الأستاذ عمار في بداية رحلته المغربية:

“لقد كانت زيارةُ المغرب حُلماً عزيزاً يملأُ نفسي منذ سنوات، وها أنا الآن أخطُّ هذه الأسطر الأولى من دفتر رحلتي إليه، من كرسي الطائرة المحلِّقة بأحلامي النبيلة في آفاق الفضاء، وقد نكون في هذه اللحظات في منتصفِ المسافةِ بين البلدين الشقيقين.. اشتدَّ بي الحنينُ إلى هذه الزيارة المرتقبة منذ أن استغرقتُ في البحث التاريخي، وبخاصة في الحياة الثقافية والعلاقات الفكرية بين البلدين، وكنتُ أرصدُ كثيراً من عناوين المخطوطات وأرقامها في الخزائن المغربية، وأُمَنِّي النفسَ بالاطلاع عليها، ولكنَّ الظروف حالت دون الزيارة…”.

ليس هذه الفقرة بأفضل ما في اليوميات من أساليب، ولكنها تصور المدخل العاطفي لتفاصيل هذه الرحلة، وتحسُّ منها بأثر المشاعر في تسجيل هذه اليوميات منذ يومها الأول، ثم تتوالى اليوميات في سلاسة تجمع بين المتعة والفائدة، حيث تزدحم بالفوائد واللقاءات العلمية والأدبية عبر ما يزيد عن ثلاثة أسابيع من صيف عام 1989 لتسير على النحو الآتي:

 ففي يوم الخميس 25-5-1989 التقى الكاتب بالأستاذ المؤرخ الدكتور محمد بن عبود، وهو صديق قديم عرفه قبل هذه الزيارة، واطَّلع على مؤلفاته، وأشار إلى نقاشهما في قضايا البحث التاريخي، حيث إن بين اهتمامات الرجلين الأندلسية والمغاربية وشائجَ كثيرةً تسمح بالعديد من النقاش في الموضوعات المشتركة، وقد أنهى الأول دراسته في بريطانيا، فأتقن الإنجليزية إلى جانب لغات أخرى يتقنها منها الإسبانية والفرنسية، وهو ما وفَّر لهما مجالاً آخر للبحث في المصادر والمراجع التي كتبت بهذه اللغات عن الأندلس والمغرب.

وفي يوم الجمعة كان للمؤلف لقاءٌ مع الأستاذ الناقد الدكتور علال الغازي الذي عرَّف بأخلاقه وعلمه، ومشاركاته العلمية، وكان قد عرفه قبل زيارته هذه للمغرب من خلال حضوره لأعمال المؤتمر الأول للمخطوطات الليبية الذي عقد في مدينة زليطن الليبية (1988). كما عرف في المؤتمر نفسه الأستاذ الدكتور حسن الوراكلي الذي يشاطره الاهتمام بالدراسات المغاربية. وأشار في ذكريات هذا اليوم إلى الأديب الكبير الدكتور عباس الجراري وإلى ناديه الشهير وجلساته الثقافية المفيدة، وللأستاذ الجراري فكرةٌ مسبقة عن هذه الحياة الثقافية في ليبيا تكوَّنت في بدايتها من بعض رحلات والده الفقيه عبد الله الجراري إلى هذه البلاد خلال الخمسينات من القرن الماضي، وتطوَّرت بعد تواصله مع عدد من المثقفين الليبيين والباحثين الذين أشرف على أطروحاتهم أو ناقشها.

وقد سجل في اليومين التاليين إشاراتٍ مهمةً عن المكتبات والكتب، وبعض الزيارات الخاصة، وفي تسجيلاته حديثٌ عن بعض الكتب والمكتبيين القدامى، وعن الدوريات، والرحلات، وحديثٌ عن المطبوعات النادرة والمخطوطات النفيسة التي له معها قصة وإليها شوق، حيث اقتنى بعضها، وتابع يوم الاثنين جولته في مكتبات المخطوطات، وملاحقته لنفائسها التي كان يُمنِّي نفسه بالاطلاع عليها، وكانت تستهويه، على وجه الخصوص، المخطوطات المتعلقة بالتاريخ الثقافي الليبي، وفي وصفه للمخطوطات تشويقٌ للقارئ وتلبية لرغبته في الحصول على معلومات جديدة عن المخطوط قد لا تجدها عند غيره.

كما كانت له يوم الثلاثاء 30-5-1989 جولة أخرى في  المكتبات الخطية، واطلاعٌ على بعض نفائسها، وحضورٌ لمناقشة رسالة جامعية في كلية الآداب، ولقاءات مع أساتذة وباحثين، على رأسهم العلامة الأستاذ محمد المنوني الذي وصفه بما يستحق من التنويه والتوقير، وفي اليومية ذكرٌ لأهم ما قرأ له من مؤلفات، وما وجَّه إليه من أسئلة، وما أخذ عنه من انطباعات، وفي سجل هذا اليوم أيضاً إشارات إلى بعض أعلام الفكر والثقافة في المغرب وغيره. وفي الغد زار الخزانة الحسنية، والتقى بأمينها السابق الأستاذ محمد العربي الخطابي صاحب الفهارس الدقيقة للمخطوطات العلمية في هذه الخزانة، واطلع على بعض الرحلات المخطوطة المتعلقة بتاريخ ليبيا الثقافي.وكانت له يوم الخميس جولة في الخزانة العامة التي تحتوي على أهم مخطوطات ووثائق المغرب، وبينها مخطوطات ليبية أو ذات علاقة بالتاريخ الليبي.

 وتوجه في هذا اليوم إلى زيارة المؤرخ الكبير الدكتور عبد الهادي التازي، وهو شخصية ذاتُ مكانةٍ مقدَّرةٍ بين المتخصصين في التاريخ الثقافي بعامة والليبي بخاصة؛ لأنَّ عمله سفيراً لبلاده في طرابلس خلال الستينات قد وثق علاقته بالتاريخ الثقافي المشترك، فنشر ما سجَّله الوزير الإسحاقي الشرقي في رحلته عبر الأراضي الليبية، وقدَّم له بتمهيد مهم عن العلاقات الثقافية بين البلدين، وكَتب مقالة مهمة عن مخطوطة أبي على الصدفي من صحيح البخاري، تلك المخطوطة التي نالت شهرتها من كونها نسخة علماء في روايتها وضبطها، وكانت تحظى باهتمام ملوك المغرب وعلمائه، حتى ذهبتْ إلى الأستانة، وهناك بيعت إلى السيد أبو طبل أحد العلماء الليبيين الذين كانوا في زيارة للأسِتانة[4]، فمكثتْ في ليبيا مدة سجلها الرحالة والعلماء في مدوناتهم، وكان فيمن ذكرها القادري في رحلته، وعبد الحي الكتاني في فهرس الفهارس، والدكتور عبد الهادي التازي في مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة وغيرهم، وقد علمتُ في خبر غير أكيد أنَّها استقرت في الرباط مرة أخرى، في انتظار أن تتم العناية بها حفظاً وتحقيقاً ودراسة بعد غيبتها الطويلة، وأن لا تنال مزيداً من العزلة في أضابير المخطوطات المنسية[5]. وقد تشعَّب حوار المؤلف معه إلى مسائل تاريخية مهمة تتعلق بهذا الحقل المشترك في دراستهما التاريخية.

وكان يوم الجمعة 2-6-1989 يوماً آخرَ مع المخطوطات النفيسة في الخزانة العامة، حيث سجل المؤلف بعضها بتعريف دقيق ومعلومات إضافية مهمة جعلت توصيفها مفيداً للباحثين. أما يوما السبت والأحد فكانا يومي عطلةٍ رسمية، ومع ذلك وجد الكاتبُ ملاحظاتٍ سجلها في يومياته، وخصص يوم الاثنين لجولة في خزانة القرويين بمدينة فاس التي استهل زيارته لها بالاطلاع على فهرسها المخطوط والمطبوع، كما تجول بين أزقة المدينة ومحتوياتها المعمارية والأثرية، واتصل مباشرة أو عن طريق الهاتف ببعض أعلامها، ومنهم الأستاذ الدكتور عبد السلام الهراس الذي تجمعه ذكرياتٌ مهمة مع أعلام من المثقفين الليبيين، منهم الأستاذ علي وريث والأستاذ إبراهيم الغويل خلال الستينات من القرن الماضي، حيث تعرفوا عن طريقه بالأستاذ مالك بن نبي الذي أقام عندهم في تلك الفترة، وجرى بين المؤلف والدكتور الهراس في اليوم التالي حديث علمي، فيه معلوماتٌ عن رسائل جامعية شارك الدكتور الهراس في مناقشتها.

وفي يوم الثلاثاء 6-6-1989 كان حدثُ وفاة الخميني طاغياً على الصحافة المغربية والعالمية، فلم يكن للكاتب بدٌ من الإشارة إليه وهو يطالع الصحف في انتظار قدوم الأستاذ عبد القادر زمامة إلى المقهى التي يجلس فيها، وكان قد عرفه من خلال ما قرأه من كتبه ومقالاته التاريخية، ثم جرى حوارٌ لطيف بين الرجلين أنصح بقراءته. وبلقاء المؤلف مع الأستاذ هاشم العلوي القاسمي تنتهي رحلته الفاسية ليعود إلى الرباط، حيث اطلع في اليوم التالي على المكتبة الكتانية في الخزانة العامة، وما كتب في بعض مخطوطاتها عن حسونة الدغيس المثقف الليبي الذي ساح في أوروبا في القرن التاسع عشر، وعن ابن رحمون الذي أجازه الدغيس، وابن طوير الجنة الشنقيطي الذي مرَّ في رحلته بليبيا وسجل ذكرياته فيها، وللكاتب مع هذه الرحلة علاقة وطيدة، فقد كتب عنها وعرَّف بها قبل أن تتناولها أيادي المحققين والدارسين فيما بعد.

 وفي يومي الجمعة والسبت 9 و10-6-1989 عودة إلى المخطوطات، ولقاء ببعض الدارسين، وموضوعات طريفة أخرى، توجه بعدها الكاتب صحبة صديقه الأستاذ اللغوي المرحوم عمران شعيب إلى الدار البيضاء لغرض يتصل بالعلاقات الثقافية بين البلدين الشقيقين، حيث يسَّرا زيارة أستاذين إلى ليبيا للمشاركة في ندوة علمية هناك، وزارا مكتبة آل سعود الغنية بالمصادر والمراجع.

أما الأحد  فكان مغريًا بالجلوس في المقهى وقراءة الصحف، كما كان فرصة للقاء الأصدقاء الليبيين، غير أن هذا اليوم لم يخلُ من فائدة علمية أيضاً، حيث كان عمل الخزانة الصبيحية في هذا اليوم فرصة للاطلاع على فهرسها المطبوع والمخطوط، وما أروع أن تخصِّص بعضُ المؤسسات الثقافية عملها في يوم العطلة حتى يفد إليها الموظفُ المشغول عنها في ضياء أيام الأسبوع الأخرى. ويصرف المؤلف اهتمامه ما بين يوم الاثنين 12-6-1989 إلى الاثنين الموالي 19-6-1989 للقاءات شخصية وعلمية مختلفة، كما وقف على مخطوطاتٍ أخرى كان ينتظر العثور عليها بين كنوز المغرب المخطوطة.

ثم ختم يومياته بفهارس مفصلة، جرى فيها على عادته التي أشرنا إليها من الاهتمام المميز بالتفاصيل، وألحقها بصور شخصية لمن لقيه من العلماء والباحثين. ولم يكن غريباً أن نجد الفائدة والمتعة في هذه اليوميات، فكاتبها معروف بحرصه على تقديم طرائف المعلومات في أسلوب جميل، وفي الأمرين ما يفيد ويمتع.

وأخيرًا فإن المساحة التي أتاحتها مجلة “الإحياء” الموقرة للكتابة عن هذا القلم المميز في زاوية “جماليات” تحثني لأستلهم من هذا الشاعر وأقول في حقها:

كَمْ ذَا تَفَيَّأتُ الظِّلالَ بها *** بالوَارِفِ المُخْضَلِّ في العُمْرِ

مِنْ كُلِّ رَائعةٍ مُحَلّـقَةٍ *** لِمَدىً بَعِيدِ الشَّأوِ كَالــنَّسْرِ

  بِمَقَالَةٍ تَسْمُو بِجِــدَّتِها *** وقَصِيـدةٍ مِنْ أنبلِ الشـِعْرِ

وَبِقصَّةٍ كَمْ عِشْتُ (حَبْكَتَها) *** وكَأنَّـنِي المَـعْنيُّ بالأمْـرِ

  وَبِلَمْحَةٍ (عِلميةٍ) كَشَفَـتْ *** أَسْرَارَ مَا في الكَوْنِ مِنْ سِرِّ

وبلوحـةٍ فنيَّـةٍ جمـعتْ *** أطرافَ ما في اللونِ من سِحْرِ

 أَكْرِمْ بِذَاكَ العَقْلِ مُعْتَصِـراً *** ذَوْبَ الشُّعورِ ويَانِــعَ الفِكْرِ

الهوامش


[1]. الأستاذ عمار جحيدر من المؤرخين الأثبات في ميدان التاريخ الثقافي، ولد سنة 1953 في تاجوراء بليبيا، وتخرج في جامعة الأزهر، وحصل على الماجستير في التاريخ الحديث من جامعة استانبول سنة 1996، ويعمل حاليا في المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية، وهو عضو مراسل بمجمع اللغة العربية الليبي. وقد شارك في من المؤتمرات والندوات العلمية في داخل بلده وخارجها، وكتب في العديد من المجلات والصحف المحلية والعربية، وله مؤلفات في متنوعة بين التحقيق والدراسة والنقد في مجالات الأدب والتاريخ الثقافي والاجتماعي. وله مشاركة في التدريس الجامعي في كلية الدعوة الإسلامية وجامعة الفاتح.

[2]. ومن هذه المؤلفات:

ـ آفاق ووثائق في تاريخ ليبيا الحديث.

ـ مصادر دراسة الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي.

ـ المخطوطات العربية في ليبيا.

ـ ترجمة المؤرخ أحمد النائب الأنصاري.

ـ تراجم علماء طرابلس وصلحائها في رحلة التجاني.

ـ أطياف من تاريخ ليبيا الحديث ومؤرخيه.

 كما أنه حقق أعمالا قيمة منها:

أ. المشاركة في تحقيق اليوميات الليبية لحسن الفقيه حسن.

ب. وحملة نابولي على طرابلس (1244ﻫ/1828م).

ج. واليوميات الليبية لحسن الفقيه حسن (ج 1 و2).

وشارك في تأليف أو تحرير عدد من الأعمال الأخرى مثل كتاب:

ـ الشعر الليبي في القرن العشرين.

ـ وكتاب المؤرخ أحمد النائب الأنصاري.

ـ وكتاب المؤرخ مصطفى بازاما.

ـ وكتاب توثيقي عن مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية بمدينة طرابلس في مائة عام.

 وأعمال المؤتمر الأول للوثائق والمخطوطات في ليبيا: واقعها وآفاق العمل حولها.

[3]. عمار جحيدر، معجم البابطين للشعراء المعاصرين.

[4]. صدر عن دار الكتاب الجديد المتحدة سنة 2001.

[5]. هو الشيخ أحمد أبو طبل الذي أهداها إلى السيد محمد علي السنوسي في الجغبوب، ومكثت فيه حتى أواخر الستينات في العصر الحديث.

[6]. انظر مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، العدد الثاني.

د. عبد الحميد عبد الله الهرامة

ـ ماجستير في الأدب الأندلسي من جامعة طرابلس عام 1982، ودكتوراه في التخصص نفسه من المغرب عام 1994.

ـ أستاذ الأدب والبحث العلمي في كلية التربية وكلية الدعوة الإسلامية بطرابلس ليبيا.

ـ درس في وحدة تحقيق المخطوطات في كلية الأداب بالرباط عام 2002، وأشرف على عدد من بحوث الماجستير والدكتوراه أو ناقشها في ليبيا والمغرب.

ـ عضو مجمع اللغة العربية وخبير سابق بالإيسيسكو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق