مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

وليسعك بيتك (3) من مستفاد الحجر المنزلي : إحياء مغفلات وظائف الدور

من المستقر المعلوم أن المصلحة المحضة معدومة عند حذاق النظار، كما هو الحال في المفسدة، فالخالص من الشوائب المشوشة سلبا أو إيجابا لا وجود له، ولذلك فالمعول عليه في استصدار الأحكام إنما هو الغالب، وهذا منهج القرآن، فعندما استشكل الصحابة حكم الخمر بداءة نحا بهم هذا المنحى، -قبل أن يبين لهم حكمها بما يزيل الريبة عن النفوس- فقال تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمـَيْسرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبيرٌ و مَنفِعُ للنَّاسِ وإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا”[البقرة:219].
ولسنا هنا بصدد تقرير هذا الأصل، وإنما مهدنا به للتدليل على أن هذا الحجر الصحي ينبغي أن ينظر إليه بهذا المنظور، نعم هو أمر لم تعهده الناس من ذي قبل، وحال بينهم وبين كثير من المصالح، و شلت بسببه حركة الاقتصاد، وتعطلت به كثير من المرافق الحيوية في معظم البلدان، وهي آثار لا يتريث الناظر فيها أن يعدها مفاسد، وأنها شرور ترتبت عن هذه الجائحة العامة، لكن لو نظر إلى الأمر من زاوية أخرى، ورمنا استبانة انعكاساته الحميدة على العلائق الأسرية، وعلى إحياء وظائف البيت المغفلة، بل وعلى نظام حياة المرء نفسه، للاح لنا حقا وصدقا مفاد القاعدة المصدر بها المقال، فلا مصلحة خالصة ولا مفسدة صافية، فرب ضارة نافعة.
إن المتأمل في أحوال الناس اليوم، ليلحظ بجلاء مدى طغيان التيار المادي على طرائق معايشهم، و تمكن النزعة الاستهلاكية المتوحشة من أنماط حياتهم، و بدهي أنه لن تنقضـي متطلبات النفس إن تمت الاستجابة لها دون ضوابط، وتسورع لتحقيقها بلا قيود وشرائط، فالانفتاح المشرَع على ما تهوى الأنفس يؤثر سلبا على حقوق أخرى، ويجحف بكثير من الواجبات والالتزامات، فيسعى المرء لتلبية حاجة وهو مقصر في حوائج، واستجلاب جزئي بنسف كلي، فيكون حاله كمن شمر لبناء بيت فهدم مصرا، أومن رغب في جني ثمرة فأتلف جنة، وهذا واقع أغلب رعاة البيوت زمن المسالمة والرخاء، هم في شغل دائم، وارتباطات دؤوبة، والتزامات لا متناهية، لا يقتطعون للبيت من وقتهم إلا ظرف الاستراحة والنوم، أما حقوق من بداخل البيت فمهدرة مهضومة، فيكونون بذلك مضيعين لآكد الحقوق، مفرطين في أولاها بالصون والاعتبار، لاهين عن ما يتمحور حوله موضوع المساءلة، ألم يقل نبينا فيما رواه أنَس بنِ مَالِكٍ: أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ” إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ أمْ ضَيَّعَ، حَتى يسْألَ الرَّجُلَ عَنْ أهْلِ بَيْتِهِ “.
وإذا كانت المساءلة منصرفة إلى يقوم به الأود، ويحصل به قوام العيش، فإنها بالأحرى متجهة إلى ما تحفظ به الفطر، و ييمم به القصد إلى ناهج الوجهة، وتضييع هذا الحق تفريط لا يغتفر، و خلل لا يجبر، ولهذا الحديث شبه بقوله صلى الله عليه وسلم «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ »، فإنه وإن كان المتبادر إلى الفهم تضييع النفقة، فإن تضييع التوجيه والترشيد داخل في الوعيد من أوسع أبوابه، إذ له يساق ما يساق من الاعتناء المعيشي.
وهذا أمر مطرح من واقع الناس، قصارى ما يفعله اليقظان، توكيل من ينوب عنه في هذه المسؤولية، وليست المباشرة الفعلية كالاستنابة، وقد قالت العرب: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، إن حضور ولي الأمر في محيطه الذي ينبغي أن يتواجد فيه وحده كاف في إعطاء أكله، فكيف إذا كان هو الموجه والمقوم، والمتتبع والملاحظ، والمربي والمعلم.
إن من حسنات هذا الحجر الصحي أن نبه الأولياء إلى دورهم الريادي في الأسرة، وحسسهم بكبير المهمة المنوطة بهم، وأوقفهم على كثير من الجبهات العارية عن الحصانة اللازمة، التي تهدد كيان الأسرة، وتجعل تماسكها عرضة في مهب الرياح العاتية، فالأولاد لا يحتاجون فقط إلى توفير المادي من الحاجيات، وإنما يحتاجون بالأساس إلى الحاضن الشفيق، والمربي الحكيم، والمعلم الرحيم، يحتاجون إلى علاقة أسرية ملؤها الود والعطف، يحس فيها أفرادها بوليجة التراحم، و يشعرون بوشيجة الارتباط والتلاحم، يستشعر فيها المسؤول ثقل المسؤولية، فيبذل وسعه لإبراء ذمته، والقيام بمهمته، ونحل الأبناء من كريم الأخلاق، وجميل الصفات، ما يجعلهم أفرادا مصلحين في مجتمعاتهم، يعول عليهم في النائبات المدلهمات، وهذه الهبة من أجزل الهبات التي يمكن للوالد أن يهبها فلذات أكباده، عن أيوب بنِ موسى بنِ عَمْرِو بنِ سعِيدِ بنِ العاصِ عن أبِيهِ عن جَدِّهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَا نَحل والدٌ وَلَدَهُ مِنْ نحْلٍ أفضلَ من أدبٍ حسَنٍ ”
فجاءت هذه المفسدة –باعتبار- مُزجية في طياتها مصالح كبار، معيدة الأمور إلى نصابها، معلمة بالمضيع من الحقوق، والمهدر من الواجبات، فأقامت العوج، ونبهت إلى ضرورة التوازن في المسير، وأوقفت الناس على ما حقه التأخير، وما هو أولى بالتقديم، ملفتة الأنظار إلى ضرورة العدل في تقسيم الوقت بين الأشغال، تسترشد في هديها الجماء الغفير بوصية سلمان الفارسي لأخيه أبي الدرداء لما قال له: “إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”، فلما أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهما جاء تقريره موافقا لمقالة سلمان فقال: “صدق سلمان. “
إنها سماحة الإسلام ويسره، جاء الوباء لينفض عنها الغبار، ويرجع الناس إلى زلال نبعهم الرقراق.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق