مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

وسطية الإمام أبي الحسن الأشعري بين مجسمة الحنابلة والمعتزلة

في مقدمة  مداخلته تحت عنوان: “وسطية الإمام أبي الحسن الأشعري بين مجسمة الحنابلة والمعتزلة”، التي شارك بها في أعمال مؤتمر الرابطة العالمية لخريجي الأزهر الذي انعقد بمصر في ماي 2011 ، في موضوع:”الإمام أبو الحسن الأشعري، إمام أهل السنة والجماعة، نحو وسطية إسلامية تواجه الغلو والتطرف” ، يقول عمر عبد الله كامل من السعودية:
 « نشأ الإسلام وترعرع في ربوع جزيرة العرب، واستمر بعقيدته النقية الخالصة حتى خرجت الفتوحات تجوب أرض المعمورة لنشره في ربوعها، فاصطدم الفاتحون بكثير من المعتقدات التي كانت سائدة في تلك الديار البعيدة، وهذا مما أدخل على عقيدة الإسلام الكثير من الشوائب التي عكرت صفوه.
ولعل دخول الإسرائيليات إلى التفاسير القرآنية والأحاديث النبوية هو أخطر ما واجه العقيدة الإسلامية، فانبرى من بين صفوف الموحدين من ينافح عن عقيدة الإسلام ويذود عنها..
من أبرز هؤلاء كان المعتزلة التي تعتبر [مدرستهم] من أهم مدارس الفكر والكلام التي عرفها الإسلام، فقد ظهرت في بداية القرن الثاني للهجرة الذي كان مشبعا بآثار الثقافات الأجنبية، حيث التقى فيه أتباع الأديان المختلفة المنتشرة آنذاك. فكانت جهود أفراد مدرسة المعتزلة تتجه إلى الدفاع عن عقيدة الإسلام وتنقيته مما دخله من أتباع الأديان الأخرى. ولكنهم بالغوا في مكانة العقل بجعله ميزانا لصحة النقل..
وفي الوقت ذاته؛ تأثرت عقيدة الإسلام تأثرا قويا ببعض الديانات الفارسية القديمة والتي عرفها المسلمون من خلال الغنوصية، ولقد كانت لبعض تلك العقائد كالمانوية والديصانية وغيرها أثر واضح في آراء الكرامية..
وبظهور الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ) الذي كان من كبار المحدثين الفقهاء في عصره، وكان من جملة من عانى من ظلم واضطهاد المعتزلة، ولكنه ابتلي من أصحابه الذين كانوا يحمّلون آراءه ما لا تحتمل ويكذبون عليه. وغلاة الحنابلة من هؤلاء لم يبتدعوا التجسيم والتشبيه وإنما جمعوا ما تفرق من ذلك وزادوا عليه ونشروه ودافعوا عنه نتيجة للخصومة مع المعتزلة وغيرهم ممن يبالغ في نفي الصفات..
في هذه الأجواء المشحونة ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله بوسطيته، فلم يمل إلى الحشوية المجسمة ولا إلى المعتزلة، وكان من أجلِّ الأصول التي اعتمد عليها القول بأن الله فاعل مختار ، وأن العبد كاسب لفعله لا خالق له. وأثبت الصفات القديمة وفرق بينها وبين صفات الأفعال. فالمعتزلة شبهوا أفعال العباد بفعل الله فهم مشبهة في الأفعال، والمجسمة شبهوا الله تعالى من حيث الذات بالمخلوقات، فأثبتت المجسمة لله حداً وجهة وحلول الحوادث في ذاته.
وهكذا نجد أن الأشاعرة أخذوا طريقا وسطا بين السنة والاعتزال.
فالأشاعرة نجحوا في أن ينتزعوا فكرة التشبيه من أذهان الناس، كما أنهم أعادوا تنظيم علم الكلام على قاعدة أن النقل هو الأساس وأن العقل خادم للنقل ووسيلة لإثباته والبرهان على صحته.
ولا ننسى أن الإمام أبا الحسن لم يبتدع مذهبا جديدا ، وإنما جمع ما تفرق من كلام علماء أهل السنة ، وأيد النقل بالعقل».
[ثم انتقل المحاضر في فصل لاحق إلى البحث في موضوع: “وسطية الإمام أبي الحسن الأشعري بين مجسمة الحنابلة والمعتزلة” قائلا] :
 « أهل السنة هم الذين أحسنوا فهم الشريعة، وتمكنوا من حقيقة أصولها، ولم يقطعوا إلا بما قطع به الشرع في المنقولات، ولم يجزموا إلا بما لا تتردد به العقول، بل هي الطائفة الغالبة؛ بحيث إذا قورنوا بغيرهم من الفرق اضمحلّ الآخرون، وأهم ما يتميز به أهل السنة عن غيرهم علم التوحيد؛ وهو علم أصول الدين، فتجنب أهل السنة [بذلك] الضلال والغلط، ولذلك لا ترى لهم أصلاً اعتمدوه مخالفاً لقطعي شرعي أو عقلي.
[و] من أجلِّ أصولهم [في هذا الباب] القول بأن الله فاعل مختار، وبهذا تميزوا عن المعتزلة القائلين بالوجوب على الله تعالى، وبلزوم كون فعله على مقتضى الصلاح أو الأصلح، فخالفوا المجسمة عندما شبهوا الله تعالى من حيث الذات بالمخلوقات، [حيث] أثبتت المجسمة لله حداً وجهة وحلول الحوادث في ذاته، ونفى أهل السنة ذلك كله. وخالف أهل السنة المعتزلة في أفعال الله تعالى وصفاته، حيث أثبت المعتزلة خلق الأفعال. وخالفهم أهل السنة لأن أفعال الله خلقٌ لا من شيء، وأفعال الإنسان تصرفٌ فيما خلق الله بالكسب، ففعل الإنسان قائم به، وفعل الله غير قائم بذاته، وفعل الإنسان يزيده نقصاً أو كمالاً، ولكن الله تعالى لا يتكمل بأفعاله..وخالفوا من ادعى من الفلاسفة أن العالم بعد صدوره عن الله فهو قائم بنفسه، أي أنه يستغنى بعد وجوده عن الله وإمداده للبقاء.[1]كان المعتزلة الأولون يفهمون من علم الكلام أنه وسيلة لتأييد العقائد الإيمانية. بيد أن المعتزلة لم يقفوا عند هذا الحد, ولم يكتفوا بهذا العمل, بل إنهم تجاوزوه، وكانوا كلما ازدادوا تعمقاً في الفلسفة وتعلقا بالعلوم يبتعدون على الدين إلى حدّ أن نسوا غايتهم التي بدأوا من أجلها, وصاروا يجربون أن يخضعوا النقل للعقل ويحوروا العقائد الدينية بحيث توافق التعاليم الفلسفية. وقد ذهب المعتزلة في تقدير العقل بعيداًَ فقالوا: إذا تعارض النقل والعقل وجب تقديم العقل لأنه أساس النقل وإذا أجمع العقلاء على شيء أنه حسن أو قبيح كان إجماعهم حجة[2] .
ثم تزايدت جرأة المعتزلة فصاروا يهاجمون النقل. ولهذا اشتغل عدد كبير منهم في وضع التفاسير القرآنية، وأما الحديث فإنهم شنوا عليه وعلى المحدثين غارة شعواء وهاجموهم هجوماً عنيفاً. هذا وقد حاول المعتزلة أن يبطلوا الحديث كله من أساسه فقالوا إن خبر الواحد العدل لا يوجب العلم[3] ذلك بأن الأحاديث كلها أخبار آحاد فإذا كانت أخبار الآحاد لا توجب العلم بطل الاستدلال بشيء من الحديث.
وأخيراً تمادى المعتزلة في تهجمهم على المحدثين فلما انتهت إليهم السلطة في زمن المأمون وما بعد المأمون لم يتورعوا عن اضطهادهم بقطع أرزاقهم وحملهم على الأخذ بآرائهم وأقوالهم بالقوة. فكان ذلك كما رأينا أعظم خطأ ارتكبوه في حياتهم وأهم سبب من أسباب سقوطهم.
ونحن نعلم أن السلف كانوا يمتنعون عن الخوض في المسائل التي جاءت بها الفلسفة فلما وجدوا المتكلمين من المعتزلة يفعلون ذلك استفظعوا عملهم وهاجموهم.
أية غلطة فاحشة ارتكبها المعتزلة بإعلانهم المحنة واضطهادهم علماء الأمة..! وأعطوا أعداءهم غلاة الحنابلة سلاحاً يقاومونهم به.. فقد نُهبت مكتبة الكندي الفيلسوف واضطُر المحاسبي أن يختفي، ولما مات لم يصلّ عليه سوى أربعة نفر وهو الرجل الصالح العابد![4] ولُعن الكرابيسي في جنازة ابن حنبل بأصوات عالية، وأكره على أن يلتزم بيته حتى مات[5]. ولم يقتصر ضرر غلاة الحنبلية على مهاجمة المتكلمين والفلاسفة بل إنه جعل غلاة الحنابلة يتطرفون في أقوالهم تطرفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه».
[ثم انتقل المحاضر إلى ذكر  مذهب أبي الحسن الأشعري قائلا] :
«كان الأشعري معتزلياًً ولكنه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح حقيقة الوضع.. رأى الهوة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال في اتساع، فأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنة[6], واتخذ طريقا وسطاً بينها وبين مذهب المعتزلة[7]. وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس ما عدا غلاة الحنابلة.
وهذا ما بدأه الأشعري وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه وساروا على طريقة وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم وخيرة رجاله؛ كالقاضي أبي بكر الباقلاني (ت403هـ), وابن فورك (ت406هـ)، وأبي إسحق الإسفرايني (ت418هـ), وعبدالقاهر البغدادي (ت429هـ)، والقاضي أبي الطيب الطبري (ت450هـ), وأبي بكر البيهقي (ت458هـ), وأبي القاسم القشيري (ت465هـ) وأبي إسحق الشيرازي (ت476هـ) رئيس المدرسة النظامية ببغداد, وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت478هـ) والإمام الغزالي (ت505هـ) الذي أصبحت الأشعرية بجهوده كلاماً مقبولاً في الإسلام، وابن تومرت (ت524هـ) المغربي؛ تلميذ الغزالي الذي نشر الأشعرية في بلاد المغرب والشهرستاني (ت548هـ), وغيرهم كثير شرحوا عقائد الأشعري ونظموها وزادوا عليها ودافعوا عنها بالأدلة والبراهين العقلية, فكان لهم أكبر الفضل وأعظم الأثر في نجاح المذهب الأشعري وانتشاره[8].
فلما قام الأشاعرة أعادوا تنظيم علم الكلام على قاعدة أن النقل هو الأساس، وأن العقل خادم للنقل ووسيلة لإثباته والبرهان على صحته.
فالعقل على رأي الغزالي هو الأداة التي يمكن أن نعرف بواسطتها صدق النقل وهو أيضاً السلاح الذي يدافع به عن الشرع ولذلك فإنه عرّف الكلام بقوله: (علم مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة)[9].
وأورد ابن خلدون تعريفاً آخر لعلم الكلام فقال: (هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة)[10]، وأخذ بعد ذلك يشرح هذا التعريف بقوله إن علم الكلام إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه عن تلك العقائد. ويقول ابن خلدون إن الأشاعرة نظروا في مقدمات علم الكلام القديمة فتركوا ماله اختلاط بالفلسفة وكانت مسائل الكلام قد اختلطت بمسائل الفلسفة  بحيث لا يمكن التمييز بينها, وصاروا في الطريقة الجديدة – أي الأشعرية – يردون على مسائل الفلسفة التي لا تتفق مع العقائد الدينية[11].
من غير العسير علينا بعد هذا أن ندرك أن ذلك المذهب الكلامي الجديد (الأشعرية) والذي حاز رضى أهل السنة وقبولهم هو ثمرة من ثمار الوسطية وأثر حسن من آثاره فالأشاعرة نجحوا في أن ينتزعوا فكرة التشبيه من أذهان الناس. فقد جعلوا المسلمين رغم عدائهم الشديد للكلام والمتكلمين يعودون فيقبلون أساليب الكلام ويستخدمونها في الدفاع عن الدين. ولهذا فإن الأشعرية عالجوا نفس المسائل التي كان المعتزلة من قبل يعالجونها وأصدروا فيها أحكاماً توافق السنة. وقد كان هذا هو السبب الذي جعل غلاة الحنابلة لا يرضون عن الأشعرية ودفعهم إلى مقاومتهم بنفس القوة التي كانوا يقاومون بها المعتزلة؛ وانبرى أحد أئمتهم ابن تيمية الحرّاني (ت728هـ) للرد عليهم على الطريقة الحنبلية».
[ بعد هذا أورد المحاضر بعض الأدلة للتمثيل بها على وسطية المذهب الأشعري بين أهل السنة والمعتزلة، وذكر معلقا من كتاب المعتزلة-زهدي حسن جار الله قائلا] :
«ومن الأمثلة الدالة على أن الأشاعرة أخذوا طريقا وسطا بين السنة والاعتزال:
1. الصفات الأزلية:
يرى ابن تيمية أن في كلام بعض الأشاعرة شيئا من نفي الصفات الذي أخذوه عن المعتزلة[12]. ومع أن الأشاعرة رجعوا إلى قول السلف في إثبات الصفات إلا أنهم اختصروها وردّوها إلى سبع صفات أزلية فقط؛ وهي القدرة والعلم والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وقالوا إن الأسماء مشتقة من هذه الصفات السبع أزلية وأما الأسماء المشتقة من صفات أفعاله كالخالق والرزاق والمعز والمذلّ فغير أزلية[13].
قلت: وتعامى ابن تيمية عن أن الأشاعرة وإن حصروا الصفات في هذه السبع، إلا أنهم لم ينكروا شيئا من صفات الأفعال، وذلك حتى لا يشتبه على الناس الأمر، فيعتقدون قدم متعلقات صفات الأفعال، بمعنى أن فعل التخليق يقتضي مخلوقا، وبالتالي نسبة القدم إلى المخلوق، كما تورط ابن تيمية ذاته في القول بقدم العالم.
2. كلام الله تعالى:
قال الحنابلة: إن كلامه تعالى أزليّ حتى حروف القرآن اعتبرها الحنابلة قديمة غير مخلوقة. والمعتزلة قالوا إن كلام الله حادث في محل ولذلك فالقرآن حادث. أما الأشعري فقد أبدع كما يقول الشهرستاني قولاً ثالثاً وسطاً بين القولين الأولين؛ وحكم بأن ما نقرؤه من القرآن كلام الله على المجاز لا على الحقيقة. أما كلام الله نفسه فقديم غير مخلوق[14]. ولإثبات صحة هذا الموقف الذي اتخذه الأشاعرة حيال مسألة الكلام رفضوا تعريف المعتزلة للكلام وقالوا إن حقيقة الكلام ليست الحروف والأصوات: بل هي الكلام النفسي القائم بالنفس الإنسانية. فكلام الله النفسي قديم والقرآن لذلك قديم أما الحروف والأصوات– أو القراءة– التي هي دلالة على الكلام النفسي والتي هي فعل القارئ فمخلوقة[15].
3. التشبيه والتجسيم:
كان الحنابلة يتمسكون بآيات التشبيه والتجسيم ويأخذونها على الظاهر على حين كان المعتزلة يرفضونها على علاتها ويعمدون إلى تأويلها.
أما الأشاعرة فقد أقرُّوا الحنابلة على قولهم بالرؤية السعيدة، وخالفوهم في باقي مسائل التشبيه والتجسيم، وتأوَّلوا الآيات الواردة فيها كما يتأوَّلها المعتزلة، فقالوا في وجه الله تعالى إنه الله وفي يده أنها قدرته وفي عينه تعالى إنها رؤيته للأشياء[16]. ومنعوا أن يوصف الله بالاستقرار على العرش ونزهوه تعالى عن ذلك لأنه لا يستقر على جسم إلا جسم ولا يحل فيه إلا عرض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض[17]. وتأول البغدادي كلمة ((العرش)) في الآية: (على العرش استوى)[طه: ٥] على أنها (الملك)، فكأنه تعالى أراد أن يقول أن الملك لم يستو لأحد غيره.
ونفى الأشاعرة الجهة أيضا فإذا اختصصنا الله (فوق) بجهة فلأنها أشرف الجهات وليس لأنه تعالى حقيقة فوق وإذا  رفعنا[18] أيدينا إلى السماء في الدعاء فذلك زيادة في الاحترام لله وليس معناه أنه تعالى في السماء[19].
4. الكسب:
غلاة الحنابلة كانوا يعتقدون أن الله خالق أفعال العباد والعباد لا صنع لهم في أفعالهم ولا تقدير، والمعتزلة كانوا يرون أن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم والله تعالى لا صنع له في أفعال عباده ولا تقدير. فلما قام الأشاعرة سلكوا بين ذينك القولين المتناقضين طريقا وسطاً أيضاً، فاعترضوا على الحنابلة لأنه يلزمهم إنكار ضرورة التفرقة بين الحركة الضرورية – الرعدة – وبين الحركة الاختيارية واعترضوا على المعتزلة لأنهم نسبوا الخلق إلى من لا يعلم حقيقة ما يخلقه من الحركات. فالقول بالجبر على رأي الأشاعرة محال باطل, ونسبة الخلق إلى العباد اقتحام هائل.[20-21] ).
[ وبعد ذكر هذه الأدلة على وسطية مذهب أبي الحسن -الأشعري، خلص المحاضر إلى القول بأنه] :« لمّا غاص الإمام الأشعريّ في المذهب الاعتزاليّ، وسبر مسائلـه على ما هو المشهور، وكان من صفات الإنسان المخلص النيّة للـه تعالى أنّه لا ينجرف وراء التقليد، ولو كان الذي يقلّده هو إمام العلماء جميعاً، بل لا بد أن يعمل فكره، وينظر في الفكر الذي يتبناه ويدافع من أجلـه، ولا عيب على الإنسان أن يظن الحق في قول ثم إذا تبين لـه بالدليل القويم اعوجاج أمره، تراجع عنه إلى غيره مما ينكشف لـه، بل هذا يدل على صفاء جوهره، وهمّته العالية وإخلاصه العميق.
 قلنا: لما جعل الإمام الأشعري ينظر في مسائل المعتزلة مسألةً مسألةً، بانَ لـه خطؤهم في كثير منها، فجعل يناقش مشايخهم مرة تلو الأخرى حتى يتبين ما هو الحق، وكان يتقصَّد الاعتراض عليهم وتوجيه الإيرادات الواردة عليهم كما هو معلوم. ثم مع تكاثُرِ المسائل التي تبيّن لـه رحمه اللـه غلطهم فيها؛ كان لابد لـه أن يفهم أن الأصول التي بنوا عليها مذهبهم، يلزم إعادة النظر فيها، وهذا أنتج عنده حصيلة من الأفكار والمعاني دفعته لكي ينعزل بنفسه فترة كانت بالنسبة إليه كافية للوصول إلى منهج عقلي متكامل يمكن به الوصول إلى المعاني الصحيحة من القرآن والسنة، وإلى بناء فهم عميق من الأخبار والنصوص الواردة في الشريعة الكاملة، بحيث لا يكون هذا الفهم متعارضاً مع أمر يؤيده العقل، ولا يؤدّي إلى تضارب بين ذات النصوص حتى لا يكون فيه إسقاطها، ويكون منسجماً ومفسراً وموضحاً في نفس الوقت لأقوال السلف المشهود لـهم من صاحب الشريعة بالصلاح والتقوى.
ثم إنه دوّن ما وصل إليه في كتب، هذه الكتب هي التي أخرجها إلى الناس، ثم دعاهم إليها وصار يناظر المخالفين بناء على القواعد التي وصل إليها أو اختارها. ولما أشهر هذه الأقوال والقواعد ونظر فيها علماء الشريعة بطبيعة الحال، ورأوها مطابقة لما يفهمونه هم، وما كان قد وصل إليهم من أقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، والقرآن الكريم والسنة المشرّفة، اتفقوا بعد هذا النظر والاجتهاد على أن الإمام أبا الحسن الأشعري هو الممثّل الحقيقي لأهل السنة والجماعة، وأنه هو الذي أظهر طريقتهم وردّ على المخالفين.
ويُفْهَمُ من هذا العرض المجمل، أن الإمام الأشعريّ لم ينتقل من مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة بين يوم وليلة، كما يفهم الكثير من عوامّ الناس، بل اللاّئق بحال الإمام كما ورد في سيرته من أخبار، والمناسب لما جرت عليه أحوال بني آدم عامة هو التكامل التدريجي الذي لابد أن يمرَّ به كل إنسان يحاول الوصول إلى المذهب الحق، والمعاناة التامة من التفكير والمناضلة للمخالفين التي لا بدّ أن يتعرض لـها أي إنسان.
ولم يبتدع الإمام الأشعريّ مذهبه ابتداعاً، بل كان عملـه كما قلنا عبارة عن شرح وتدعيم لأقوال أهل السنة»..

  [من أعمال مؤتمر الرابطة العالمية لخريجي الأزهر في موضوع: “الإمام أبو الحسن الأشعري، إمام أهل السنة والجماعة، نحو وسطية إسلامية تواجه الغلو والتطرف” الذي انعقد بمصر في ماي 2011]-الرابط: http://www.nokhbah.net/vb/showthread.php?t=6333

                                         
                                                                            إعداد: الباحث منتصر الخطيب

الهوامش:

 [1] – مسائل الاختلاف بين الأشاعرة والماتريدية – لابن كمال باشا- تحقيق: سعيد فودة-دار الفتح للدراسات والنشر
 [2]-  المستصفى من علوم الأصول أبي حامد الغزالي -تحقيق:محمد سليمان الأشقر-مؤسسة الرسالة/سوريا-الطبعة الثانية-ج/1-ص:57
[3]-  كتاب الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد -عبد الرحيم الخياط-مع مقدمة وتحقيق وتعليقات: الدكتور نيبرج/السويد-مكتبة الدار العربية للكتاب-الطبعة الثانية/1993- ص 68
[4]- الكامل في التاريخ لابن الأثير-طبعة دار الكتب العلمية/بيروت-ج/7-ص:55-وانظر كذلك: كتاب: المعتزلة-زهدي حسن جار الله-الأهلية للنشر والتوزيع/لبنان-طبعة/1974- ص: 247 – 262
[5]-مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي-دار ابن خلدون- ص 417
[6]-  الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري-دار النفائس/لبنان-الطبعة الأولى/1994- ص: 8
[7]- مقدمة ابن خلدون ص 406
[8]- انظر طبقات الشافعية للسبكي (3/4-52-89-111-176-238-250) (4/71-79)
[9]-  المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي-تقديم وعناية:أسعد السحمراني-دار النفائس/لبنان-الطبعة الأولى/2009- ص: 18
[10]- مقدمة ابن خلدون –ص: 400
[11]- مقدمة ابن خلدون- ص: 406
[12]-  بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية – ابن تيمية-طبع بمطبعة كردستان العلمية/مصر سنة1329هـ- ص: 108
[13]-أصول الدين -عبد القاهر البغدادي-طبعة دار الفنون التركية/استنبول-الطبعة الأولى/1924- ص: 116
[14]- نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني-حرره وصححه: ألفرد جيوم-د.ت- ص: 313
[15]-  الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي-دار الكتب العلمية/بيروت-الطبعة الأولى/2004-ص: 49-53
[16]-أصول الدين -عبد القاهر البغدادي- ص: 110
[17]-الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي-ص: 24
[18]-أصول الدين -عبد القاهر البغدادي- ص: 113
[19]- الاقتصاد في الاعتقاد-ص: 21
[20]- الاقتصاد في الاعتقاد-ص:37- 39
[21]- انظر كتاب: المعتزلة-زهدي حسن جار الله-الأهلية للنشر والتوزيع/لبنان-طبعة/1974- ص: 247 – 262

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق