مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

هل يصام عاشوراء منفردا؟

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين

   لقد شرف الله تعالى شهر محرم بيوم عظيم؛ هو اليوم العاشر منه، وقد ثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان يصومه، ويحث الناس على صيامه، للواقعة العظيمة التي حدثت فيه؛ وهو إنجاء الله تعالى لموسى عليه السلام وقومه من بطش فرعون وجنوده ، فيستحب لكل مسلم ومسلمة صيام هذا اليوم شكرًا لله عز وجل، ولأهمية هذا الموضوع ارتأيت أن أخصه بهذا المقال الذي سأتحدث فيه عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صيام هذا اليوم ، وانطلاقا من ذلك سأتناول حُكم صيامه منفردا ، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء:

    لقد كان من هدي النبي صلى الله تحري صيام يوم عاشوراء ؛ حيث كان يصومه مع أهل الجاهلية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم كما في حديث صحيح مسلم : " إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صامه، والمسلمون قبل أن يفترض رمضان "([1]). قال القرطبي : "لعل قريشا  تصوم عاشوراء في الجاهلية يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، ولعلهم كانوا يستندون  في صومه إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما   " ([2])،  وقال ابن القيم الجوزية: "فلا ريب أن قريشا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه "([3]) ، وقال النووي: "يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكدا"([4])، ثم استمر في صيامه بعد قدومه المدينة؛ لكن لما رأى صيام اليهود له، سألهم عن سبب صيامهم له، فأجابوه بأنه يوم عظيم، فيه نجى الله تعالى نبيه موسى عليه السلام من فرعون فصامه شكرا لله تعالى، ودليل ذلك حديث  ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال ما هذا: قالوا هذا يوم صالحٌ، هذا يومٌ نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال : فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر بصيامه"([5])؛ قال القرطبي: "فلم يصم  النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء اقتداء باليهود؛ فإنه كان يصومه قبل قدومه عليهم، وقبل علمه بحالهم، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه استئلافا لليهود، واستدراجا لهم ، كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم ،  وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان  النبي صلى الله عليه وسلم يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه"([6])، وقال العيني في شرح صحيح البخاري : "وظاهر حديث ابن عباس يدل على الوجوب؛ لأنه صام وأمر بصيامه"([7])، وهذا كان قبل فرض رمضان،  في السنة الثانية من الهجرة النبوية؛ حيث خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بعده –أي بعد فرض رمضان-، بين صيام عاشوراء من عدمه،  فقال عليه الصلاة والسلام: " إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" ([8])، وعن جابر بن سمرة رضي اللَّه عنه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان، لم يأمرنا، ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده"([9])،  وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب اللَّه عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" ([10]).

ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان في آخر أمره هَمَّ بصيام اليوم التاسع منه ؛ لكن وافته المنية قبل صيامه ، ويؤكده حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"  ([11])، وعنه كذلك قال:  "صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه           وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم".([12]) ، قال الحافظ ابن حجر: " ثم ما هَمَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه: أنه لا يقتصر عليه؛ بل يضيفه إلى اليوم العاشر، إما احتياطا له ، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح"([13]).

حُكم صيام عاشوراء منفردا

    من خلال ما تقدم  عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على صيامه لِما له من الأجر العظيم، ولم يرد عنه نهي عن صيامه منفردا؛ بل كان يصومه كذلك إلى قبيل وفاته ؛حيث همَّ بإضافة صيام التاسع -كما تقدم-([14])، أو بإضافة صيام يوم قبله، أو بعده كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود؛ صوموا قبله يوما، أو بعده يوما" ([15])، هذا ولم ترد كراهية صيامه منفردا إلا  عند الحنفية مع حصول الأجر المترتب على صومه([16]).

وبناء على ذلك فإن بعض من أجاز صيام عاشوراء منفردا ذكروه في   المرتبة الدنيا من مراتب صيام عاشوراء؛ ومن هؤلاء أذكر:  العلامة ابن القيم الجوزية حيث قال: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم"([17]).

وتبعه ابن حجر حيث قال في معرض تفسيره لحديث: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع"([18]): "يحتمل أمرين أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع، والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفي صلى الله عليه و سلم قبل بيان ذلك، كان الاحتياط صوم اليومين، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها: أن يصام وحده، وفوقه: أن يصام التاسع معه، وفوقه: أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم"([19]).

والمناوي في التيسير -وبه أختم الكلام- قال: " صيام عاشوراء على ثلاث مراتب أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام معه التاسع، وفوقه أن يصام معه التاسع والحادي عشر "([20]).

الخاتمة

ومن خلال ما تقدم يمكن أن أخلص إلى الآتي:

 1- من هدي النبي صلى الله عليه وسلم: صيامه ليوم عاشوراء مع قريش قبل البعثة واستمراره  في صيامه له بعد البعثة دون أن يأمر به.

2-أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء بعد الهجرة إلى المدينة، لما وجد اليهود يصومونه.

3-التخيير بين صيامه وبين عدمه بعد فرض شهر رمضان على المسلمين.

4-استحباب صوم يوم آخر إما قبله، أو بعده لمخالفة اليهود الذين كانوا يصومونه منفردا.

5-جواز  صيامه  منفردا باستثناء الحنفية الذين كرهوا ذلك.

6-إيراد بعض العلماء مرتبة صيام عاشوراء  وحده  في المرتبة الدنيا بعد مرتبتي صيامه بضم التاسع معه ، وصيامه بضم التاسع والحادي عشر معه.

وآخر كلامنا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

******************

هوامش المقال: 

([1]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /502)، كتاب: الصيام، باب: صوم عاشوراء، برقم: (1126).

([2])  المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (190-191).

([3])  زاد المعاد (2 /67).

([4]) صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 265).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 58-59)، كتاب: الصيام، باب: صيام يوم عاشوراء، برقم: (2004)، ومسلم في صحيحه (1 /504) كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم: (1130) واللفظ للبخاري.

([6]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (192).

([7]) عمدة القارئ (11/ 172).

([8]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 502)، كتاب: الصيام، باب:  صوم عاشوراء، برقم: (1126).

([9]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 503)، كتاب:  الصيام، باب: صوم عاشوراء، برقم: (1128).

([10]) أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 58)، كتاب:  الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، برقم: (2003).

([11])أخرجه مسلم في صحيحه (1 /505)، كتاب: الصيام، باب:  في أي يوم يصام في عاشوراء  ، برقم: (134)(1133).

([12]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /505)، كتاب: الصيام، باب: في أي يوم يصام في عاشوراء، برقم: (133)(1134).

([13])  فتح الباري (4/ 311).

([14])  تقدم ذكر الحديث.

([15])  أخرجه أحمد في مسنده (4/ 52)، برقم: (2154)، والبيهقي في سننه الكبرى (4 /475)، برقم: (8406)، وقال ابن البوصيري بعد أن أورده  : رواه أحمد والبيهقي بسند ضعيف لضعف محمد بن أبي ليلى لكنه لم ينفرد به فقد تابعه عليه صالح بن أبي صالح بن حي. إتحاف الخيرة المهرة (3/ 419).

([16])  ينظر: حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 640).

([17])  زاد المعاد (2/ 72).

([18])  تقدم تخريجه.

([19])  فتح الباري (4/ 311-312).

([20])  التيسير بشرح الجامع الصغير (2/442).

*****************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

  1. إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة. لأحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري. تحقيق: أبو عبد الرحمن عادل بن سعد- أبو إسحاق السيد بن محمود بن إسماعيل. مكتبة الرشد الرياض. ط1/ 1419هـ- 1998مـ
  2. التيسير بشرح الجامع الصغير. لمحمد عبد الرؤوف المناوي. تحقيق: محمد العزازي. دار الكتب العلمية 2014مـ.
  3. الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1 /1400هـ.
  4. حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح للشرنبلالي. لأحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي الحنفي . ضبطه وصححه: محمد عبد العزيز الخالدي. منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت لبنان. ط1/ 1418هـ- 1997مـ.
  5. زاد المعاد في هدي خير العباد . لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة بيروتط3/ 1418هـ- 1998مـ
  6. السنن الكبرى. لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. تحقيق: محمد عبد القادر عطا. منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت لبنان. ط3/ 1424هـ- 2003مـ.
  7. صحيح مسلم بشرح النووي. حققه وخرجه وفهرسه: حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد - عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط1/ 1415هـ- 1994مـ
  8. صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.
  9. عمدة القارئ شرح صحيح البخاري. لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. ضبطه وصححه: عبد الله محمود محمد عمر. منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت لبنان . ط1/ 1421هـ- 2001مـ
  10. فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: محمد فؤاد عبد الباقي. دار السلام الرياض. ط1/ 1421هـ- 2000مـ.
  11. مسند أحمد (ج 4) . لأحمد بن حنبل. أشرف على تحقيقه: شعيب الأرنؤوط- حقق عذا الجزء: شعيب الأرنؤوط- عادل مرشد. مؤسسة الرسالة بيروت ط1/ 1416هـ- 1996مـ.
  12. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم. لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي. حققه وعلق عليه وقدم له : محيي الدين ديب ميستو- أحمد محمد السيد- يوسف علي بدوي – محمود إبراهيم بزال. دار ابن كثير دمشق بيروت- دار الكلم الطيب دمشق بيروت. ط 1/ 1417هـ- 1996مـ.

راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق