مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة
نَبَأُ الأحرف السبعة في إلمامات شتّى
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛فهذا ذَرْوٌ متَّسعٌ من البيان القرائي وألفافُ غُرَرٍ من أنحاء أوضاعه وفنون أدائه وما إليه، قد من أُوقدتْ من مشكاة تنزل القرآن على أحرفه السبعة، وبُعثت مِن مرقد حسن التأويل وبلاغة التنزيل ودفْع إشكاله حتى يُتَذرَّعَ بمَثابتها في تقْريب مُراد الله سبحانه وتلقُّف أوضاعه وأنساقه، ثم يُتوسَّل بأسبابها في جِلاء روْنق المعاني المتراكمة المركوزة في تصاريف الأبنية، والمُدرَجة بين تقلبات الصيغ الإعرابية، والتركيبات البيانية المتصلة بالكتاب العزيز في لحنه ووضعه ونظمه وما إليه، وما أريد لذلك من الترسُّل في عرض خاصّ المعلوم (أوجه القرآن ولحونه) وتنويع موادِّه ورافده، ابتغاء توصيل الرحمة للعالمين واستجلاب التَّوسعة على السَّائرين المتعبّدين، اعتماداً أواستيثاقاً بما أَوْدع ربنا جل وعلا في كيان المتعبد المتشرِّع من مُمْهدات الإدراك الأَيِّد الصـريح وأَلهمه من مُمْسكات الاستنباط القريح، الصادرة عن خَفَقان الفكر المسترشد بمسارب التبصير والتيسير تردُّداً وانبعاثاً وذلك بتصوُّر حقائق الماهيّات والجواهر بدْءا، ثم برعْي النِّسبة التصديقية بينها وبين مدارج التصوير والتنزيل والتحويل ... وما إليه، مع درْء غواشي المضارّ الفكرية والتجانف بمادّتها عن حيِّز عَزيمة الشبيبة وزكائها في حالها ومنقلب أمرها، ثم الصيانة لها من طوارق المروق وعوادي الشذوذ (عقلا وروحا وسلوكا ...) والحماية لها من آفات التطرف والتحيُّز في الفهم والتمثُّل ... أو الغلوّ في ذلك، وعليه؛ فالإنسان النافذ مهما أوتي من حيلة سَيْب المدد في الحمل والرواية لأوضاع الكتاب العزيز، أو أُعطي من الاستيلاء على آماد الدراية ومسارح النظر ومدارج التدبّر والحيازة للأغلب الممكن من ذلك وما إليه؛ فإنَّ آلات الإدراك فيه وأحوال أصول التفكر لديه، مهما كَمُلت أو امتلأتْ أو تمَّت؛ فإنه لا يسلم في تصـرّفاته واستدلالاته وتردُّد فكره – إلا مَن اصطُفي - من مغبّة اختلال البدْء والأصل أو قُصور التصور والنظر أوالحمْل وما إليه، إذ الرّعاية للكتاب العزيز من هذه الأنحاء والجوانب وتثمير ظواهره وصيْد فرائده، وكدّ القلب لاقتناص ما انطوت عليه آيه من لطيف مُفاد الأحكام الشـرعية، وبَثِّ ما تفنَّن منه من كريم الأوصاف التكليفية العملية والعقدية والخلقية ...؛ قال ابن قتيبة (ت 276 ه): وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام، وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيُحدث الله إليه من ذلك ما يشاء وينسخ ما يشاء وييسِّر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بان يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم ... ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا؛ لاشتدَّ ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعات في اللغات ومتصرفات في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين حين أجاز لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر دينهم [تأويل المشكل 1/32]، على أنه من بديع صنع الله في الخلق وتمام منته عليهم أن قد تقع خواطر الناس على ساق اتفاق وتقف أفهامهم على قدم التوارد في اتساق، فتْحا من الله وفيْضا، فقد وجدنا خاتمة القراء المحققين الشمس ابن الجزري يعرب عن مكنون صدره إزاء تأويل حديث الأحرف السبعة، إذ يقول: (ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيّف وثلاثين سنة؛ حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها ) النشر 1/26، فعدَّد رؤوسا سبعة من الاختلاف مصورة بأمثلتها وشواهدها بما يجعلها متفقة مع ما ذكره ابن قتيبة رحم الله الجميع، قال الحافظ الداني (ت 444ه): (فكلّ قارئ أو مقرئ أهمل العرض واجتزأ بمعرفته، أو بما تعلم في المكتب من معلِّمه الذي اعتماده على المصحف أو على الصحائف دون العرض، أو تمسّك فيما يأخذ به ويعلّمه بما يظهر له فيه من جهة إعراب أو معنى أو لغة، دون المرويّ عن أئمة الأمصار؛ فمبتدع مذموم مخالف لما عليه الجماعة من المسلمين، تارك لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءَ القرآن من تلاوته بما عُلّمه وأُقرئ به ...) [شرح الخاقانية 2/37]، فالاستواء بأفنية الصيانة القرائية والتروّي في تتبع أوضاع المتلو المنزل دليل على سبيل العصمة الأدائية التي تمثَّلها الحافظ الداني وجاهر بموجَبها في مؤلفاته وأوضاعه أثناء الاختيار المقيّد والانتصار المرشّد للأنهض الأقوى من أوجه التلاوة دون غيرها مما ندر أو عزَّ ...، دفعا لمثْلبة الشذوذ أو البعد عن المستعمل المؤيَّد الجاري من الأوجه القرائية، ولأجل ذلك نجد الحافظ الداني رحمه الله شديد الحراسة من تطرُّق النازل عن رتبة الاعتبار (قوة إعراب، وثاقة نقل)، دون إغفال مزيّة الشاذ الفصيح من الأوجه والنازل عن رتبة المشهور المستفيض من أحرف التلاوة، ورعْي أثره في درك المفاد وكشف محجَّة السياق، في مثل صنَع الإمام المهدوي (ت 440 ه) رحمه الله عند تجريد الخلاف بين الناس في تحقيق ثاني الهمز وتخفيفه من (أئمة) في سورة التوبة إذ قال: وقد عاب سيبويه والخليل تحقيق الهمزتين وجعلا ذلك من الشذوذ الذي لا يعول عليه، والقراء أحذق بنقل هذه الأشياء من النحويين، وأعلم بالآثار ولا يلتفت إلى قول من قال إن تحقيق الهمزتين في لغة العرب شاذ قليل؛ لأن لغة العرب أوسع من أن يحيط بها. قائل هذا القول، وقد أسمع على تحقيق الهمزتين أكثر القراء وهم أهل الكوفة وأهل الشام وجماعة من أهل البصرة وببعضهم تقوم الحجة [شرح الهداية 376]، ومثل ذلك ما صدع به الحافظ الداني رحمه فقال: ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء إلا من شذّ منهم في ترك همز الذّئب حيث وقع، وبه كان يأخذ ابن مجاهد وأصحابه ولم يجمعوا على ترك همزه إلا للذي ورد عن أبي عمرو من كونه عنده من المهموز لا غير، ولو كان أيضا من غير المهموز كالفيل والنيل وشبههما مما لا أصل له في الهمز يجري مجرى ما فيه لغتان؛ لوجب همزه للدلالة على أصله، على أن إبراهيم بن اليزيدي وأبا حمدون وأبا خلاد وأبا شعيب، وغيرهم قد نصّوا عليه عن اليزيدي عن أبي عمرو، وبذلك كان يأخذ أحمد ابن فرح، ويرويه عن أبي عمر عن اليزيدي [الجامع 2/572]، قال الباقلاني (ت 403 ه): [الأمر في القراءات يجب أن يكون أضيق من مسائل الاجتهاد، لأن مسائل الاجتهاد لا نص من النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وما من القرآن كلمة ولا حرف إلا عليه نص] الانتصار 415، فالقراءة سنة متبعة ونقل محضٌ، ولا مجال للاجتهاد فيها بمجرد القياس، إلا أن يأتي من وراء وراء [البرهان 1/322]، ثم الاجتهاد المُعتمل بالنظر وأدبياته الشهير بالاختيار في الوسط القرائي؛ فإنما هو نخْل واستصفاء من دائرة المروي وحيّزه، مُنبنٍ على معايير من النظر معروفة متعلقة باكتمال الأهلية وتحصيل المَلاءة بثقافة الصنعة [البرهان 1/331، الإبانة لمكي ص 49]، قال اليزيدي (ت 202 ه): (كان أبو عمرو قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة أحسنها وبما يختار العرب، وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله عز وجل) [المفردات للداني ص 113] ثم القراء عند نقلهم أوجه الأداء عن أئمتهم ومشايخهم؛ فإنهم كانوا يفرّقون بين ما رواه الناقل وبين ما خرَّجه بفقهه ورآه، مع اشتهاره بالثقة والأمانة والضبط والعدالة والصيانة وتوابعها، وهو ما يَنْمي وجه إضافة كل حرف إلى أحد قراء الأمصار، في مثل قول الداني (ت 444 ه): (إن معنى إضافة كل حرف مما أنزل الله تعالى إلى من أضيف من الصحابة كأُبيّ وعبد الله وزيد وغيرهم؛ من قبَل أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة بالأمصار؛ المراد بها أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة وآثره على غيره وداوم عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد) جامع البيان 1/129، على أن كثرة الوجوه في تلاوة ألفاظ القرآن وتعدادها لا يمكن أن يحمل إلا على أن ذلك؛ خاصة عند المتأخرين دون المتقدمين، لأنهم (المتقدمين) كانوا يقرأون القراءات طريقا طريقا، فلا يقع لهم إلا القليل من الأوجه، وأما المتأخرون فقرأوها رواية رواية، بل قراءة قراءة بل أكثر، حتى صاروا يقرؤون الختمة الواحدة للسبعة أو العشرة؛ فتشعبت معهم الطرق وكثرت الأوجه [إتحاف فضلاء البشـر 1/126]، ولعل في الذي ذكر كفاية ومقنع لمن رام تبيُّنَ معالم الفرق بين اختلاف القراء واختلاف الفقهاء، وذلك أنه إنما افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء، لأن اختلاف القراء كله حق وصواب، نزل من عند الله وهو كلامه لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر فيه واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك ونؤمن به [النشر 1/52]، ولا يضير هذا ما يُحَسّ من قول ابن مجاهد (ت 324 ه) في السبعة : اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام ... ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين؛ توسعة ورحمة للمسلمين، وبعض ذلك قريب من بعض [السبعة ص 45]، ولكنه عند الاكتناه والتأمل يلفى وجه الشبه بين الاختلافين ببعد ما بين المنزلتين، لانفكاك الجهتين وبُعْد ما بين الواديين، إذ إن الخلاف في أوجه القراءات غيرُ ما في اختلاف الفروع الفقهية وتباين أحكامها، لأن الأول حق في واقع الأمر ونفسه، تكْنِزه عبارته صلى الله عليه وسلم: (شاف كاف) وأما الخلاف الفروعي؛ فحقٌّ باعتبار الاجتهاد، وفي واقع الأمر الحق ليس إلا واحدا، لعدم جواز العمل بالمقابل، قال الجعبري (ت 732 ه): معنى قول ابن مجاهد (ت 324 ه): اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام ...؛ التشبيه في التعدد لا في المأخذ [كنز المعاني 1/80 [(فصل في معرفة منشإ الخلاف)، رسالة جامعية تح شفيع]، إذ إن كلام الله تعالى واحد بالذات لا يتعدد، وإنما شرف الله القرآن على سائر الكتب المنزلة بكثرة الأحكام واتساع اللغات، [الجعبري 1/60، السبب الموجب لاختلاف القراء ص 143]، ففي الاختلاف توسعة ويسـر ورحمة على الخلق، خاصة في الفروع والفتاوى والأقضية، لأن القراءات وأوجه الأداء قد ثبت الدليل والبرهان على توقيفيتها واتباع ما اشتملت عليه من المعاني (علما وعملا)، فلا يحلُّ ترك موجب إحداها لأجل الأخرى ظنا أن مثل ذلك تعارض أو تضاد أو ما أشبه [النشر 1/51]، وعليه؛ فالأداء القرآني لا يتحقق إلا في رواياته المشهورة التي نزل عليها في أحرفه السبعة، قال العلامة مكي (ت 437 ه) في الإبانة: [إن هذه القراءات كلها التي يقرأ الناس بها اليوم وصحت روايتها عن الأئمة؛ إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان رضي الله، الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه واطّرح ما سواه مما يخالف خطه] [ص 32، تح عبد الفتاح شلبي]، فيبقى النص القرآني وحيا منزلا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا على وجه التواتر ثبوتا باتا قاطعا من تطرق الريبة أو الشك أو ما شابه، خلافا للقراءات التي هي طرائق في التأدية وأوجه في التبيلغ يعتريها المتواتر والمشهور والصحيح والشاذ وما إليه، لتعلقها باللفظ والنطق لا بالتركيب والنظم، فكل من يقرأ بقراءة معتبرة فإنه يجري عليه أنه يتلو القرآن وَفق مذهب إمام معين في نظام الأداء ذي ملامح لهجية كُسيتْ من سَمْت القرشية التي يستحسنها كل قبيل عربي من إمالة أو إدغام أو تخفيف همز أو ما شابه، فهو كلام الله ووحيه تأدّى إلينا وتُلقي بأداء نبوي مصطفوي مصفّى صلوت ربنا وسلامه عليه وعلى آله، التنوع الدلالي المنفك عن تقلبات الصيغ الأدائية لألفاظ القرآن الكريم وتعداد صور تنزلاته، ومستتبَعات تراكيبه وجُمله المنشقّة عن مِيسَم الإعجاز وبلاغة ذُرى الأَلَق البياني القرآني، المبلَّغ بالأداء النبوي المشـرق صلوات ربنا وسلامه عليه، إذ إنَّ تكاثر المحامل وتنوع الاعتبارات التي تسمح بها كلم القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته من اشتراك وحقيقة ومجاز وكناية ... وغيرها من طرائق الاستعمال التي يشتمل عليها النمط العثماني اشتمال احتمال، ك وكل هذه الحروف كلام الله وكل هذه الحروف كلام الله لها وغيرها؛ إذا لم تُفْضِ إلى خلاف المقصود أو الغرض من سياقة النظم ومآل قصَّته؛ حُمل الكلام على جميعا حتى يكون أحسنَ ويستوي أنبل من أن يكون بَبّاناً واحدا، والقراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني؛ لممّا يرجع إلى هذا الأصل [التحرير والتنوير 1/96]وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع