مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نيران العرب (الحلقة الرابعة)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّه محمد، وعلى آله الكرام وصحابته الأعلام، أما بعدُ:

فهذه تتمّة القول نورأنوالحمالييييفي نيران العرب، وبالله التوفيق.

قلت:

ثُمَّ الْمُسَافِرِ الَّتِي لِلطَّرْدِ === ثُمَّ التَّحَالُفِ وَنَارُ الصَّيْدِ

1- نار المسافر:

وتُسمى أيضا نار الزائر ونار الطّرد(1). وهذه هي النار التي كانوا يوقدونها خلفَ مَن لا يُحبون رجوعه، وهو غريب جدا عن العرب، فظاهره أنه مُخَالِفٌ لِمَا تَوَاتَرَ عنهم من إكرام الضيف وإنزاله أحسنَ منزل. على أنهم لم يذكروا عن هذه النار شيئا كثيرا فيما وقفت عليه، قال العسكري: «وأما نار الطرد فإنهم كانوا يُوقِدونها خلفَ مَن يمضى ولا يشتهون رجوعه»(2).

وقد أنشدوا في ذلك قول بشّار بن برد(3):

صَحَوْتَ وَأَوْقَدْتَ لِلْجَهْلِ نَارَا === وَرَدَّ عَلَيْكَ الصِّبَا مَا اسْتَعَارَا

وأنشدوا أيضا لشاعر قديم(4):

وَجَمَّةِ أَقْوَامٍ حَمَلْتَ وَلَمْ تَكُنْ === لِتُوقِدَ نَارًا خَلْفَهُمْ لِلتَّنَدُّمِ

وعند الجاحظ أنهم كانوا يَدْعُونَ أيضا، فيقولون: «أبعده الله وأسحقه، وأوقد نارا خلفه وفي إثره»(5).

2- نار التحالف:

وتُسمى أيضا نار الحِلف، وهي نار كانوا يوقِدونها إذا أرادوا أن يتحالفوا على أمر، قال البغدادي: «كانُوا إذا أَرَادوا الحلف أوقدوا نَارا وعقدوا حلفهم عِنْدهَا ودَعَوا بالحِرمان والمَنع مِن خَيرهَا على مَن ينقض العَهْد ويحل العقد»(6).

وأنشد العسكري لأوس بن حجر(7):

إِذَا اسْتَقْبَلَتْهُ الشَّمْسُ صَدَّ بِوَجْهِهِ === كَمَا صَدَّ عَنْ نَارِ الْمُهَوِّلِ حَالِفُ

وههنا أمر يحسُن التنبيه عليه، وهو أنهم ذكروا هذه النار وسموها نار التحالف أو نار الحلف، وقد تكون نارين لا نارا واحدة. ومنشأ ذلك فيما أرى أن نار التحالف هي كما أشرنا إليه آنفا من إيقادهم نارا إذا أرادوا التحالف على أمر. وأما نار الحلف فقد ذكرها ابن قتيبة في بعض مؤلفاته، قال: «كانوا يحلفون بالنار، وكانت لهم نار يقال إنها كانت بأشراف اليمن، لها سَدنة، فإذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها انقطع بينهم، وكان اسمها هولة والمهولة، وكان سادنها إذا أُتِيَ برجُل هيّبه من الحلف بها، ولها قَيّم يطرح فيها الملح والكبريت، فإذا وقع فيها استشاطت وتنقضت، فيقول: هذه النار قد تهددتك. فإن كان مُريبا نكل، وإن كان بريئا حلف»(8).

وهذه هي النارُ التي يقول فيها الكُميت(9):

كَهُولَةِ مَا أَوْقَدَ الْمُحْلِفُو === نَ لِلْحَالِفِينَ وَمَا هَوَّلُوا

وقال أيضا(10):

هُمُ خَوَّفُونِي بِالْعَمَى هُوَّةَ الرَّدَى === كَمَا شَبَّ نَارَ الْحَالِفِينَ الْمُهَوِّلُ

فتبيّن أنها كانت نارا معينة في موضع باليمن، فنخرج بذلك بنارين اثنتين: إحداهما نار التحالف، والأخرى نار الحلف، وقد تكون نارا واحدة توقد عند التحالف أينما اتفق ذلك، والله أعلم.

3- نار الصيد:

أما هذه النار ففيها تفصيل يسير، ذلك أنها أشبَهت في عِلّتها التي أوقدوها لأجلها نارَ الأسد التي يذكرونها، وإنما لم أذكر نار الأسد في النظم لِما رأيتُ من أنهما قريبتان في أصلهما وعلّتهما، وقد أومأ إلى ذلك الجاحظ في الحيوان حيث ذكر نار الأسد إثرَ نارِ الصيد، فدلّ بذلك على اجتماعهما في أصل مخرجهما، قال عند حديثه عن نار الصيد: وهذه النار هي النار التي يُصطاد بها الظباء والرِّئلان وبيض النعام؛ لأن هذه كلها تعشى إذا رأت نارا ويحدث لها فِكرة فيها ونظر. اهـ

ثم قال: وقد يعتري مثل ذلك الأسد(12).

 وهذا بيان ذلك:

أما نار الأسد فيُسَمِّيها الثعالبي نار التهويل(11)، أي: التخويف أو التعظيم. يريدون إعظام هذه النار التي يُشاهدها الأسدُ وإكثارها في عينه ليخافها فينصرف عن تعرّضه للناس في طريقهم. وأما نار الصيد فهي التي تُوقد لصيد الظباء لِتَعْشَى بها إذا هي رأتها، ويُطلب بها أيضا بيض النعام في الأفاحيص.

فعلمتَ بذلك صحة ما ذهبنا إليه من جعلهما نارا واحدة تصلح لهذا وذاك، فهي تشغل الأسد عن السابلة إذا رآها، وتشغل الظباء وتعشى عينُها بها إذا نظرت إليها.

وأرى أن تسميتها بنار التهويل كما فعل الثعالبي أنسبُ بها وأليقُ، لجمع هذه التسمية بين الصيد وإرادة صرف ما يعترض السابلة من كل شر أَنَّى كَانَ مَأْتَاه.

والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه، وعلى وآله وصحبه جميعا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر: نهاية الأرب: 1/103.

(2) الأوائل: (ص: 37).

(3) الحيوان: 4/474.

(4) الحيوان: 4/474.

(5) الحيوان: 4/474.

(6) خزانة الأدب للبغدادي: 7/147.

(7) الأوئل للعسكري: (ص: 36)، وانظر ديوانه: (ص: 69).

(8) المعاني الكبير: 1/434.

(9) الحيوان: 4/471، وخزانة الأدب: 7/152.

(10) نهاية الأرب: 1/103، وخزانة الأدب: 7/152.

(11) ثمار القلوب: (ص: 580).

(12) الحيوان: 4/349.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

  • الأوائل لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد السيد الوكيل، دار البشير.
  • ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لأبي منصور الثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
  • الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • خزانة الأدب ولُبُّ لُبَابِ لسانِ العرب، لعبد القادر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.
  • ديوان أوس بن حجر، تحقيق محمد يوسف نجم، دار صادر.
  • المعاني الكبير في أبيات المعاني، لابن قتيبة الدينوري، دار الكتب العلمي.
  • نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق