مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

نفحات روحية من خلال السيرة النبوية (1)

د. مصطفى بوزغيبة 

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة وجدة

     تعتبر السيرة النبوية تجسيدا لحياة أعظم إنسان على وجه الأرض، وأكرم مخلوق عند الله، إنه سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن فهم الحياة وتلوناتها بدون الرجوع إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن عيش حياة سعيدة بدون الرجوع إلى من كان سببا في سعادتنا، وسببا في خروج الإنسانية من غياهب الشقاء والتعاسة، إلى رحاب الأنس والفرح والسعادة. كما لا يمكن أن نشعر بقيمة الحياة بدون الوقوف على تفاصيل قيمة الحياة عند النبي صلى الله عليه وسلم.

     ليس الغرض هو دراسة الوقائع التاريخية للسيرة النبوية، وحكاية قصصها، وإنما الهدف هو أن نجد ذاتنا في السيرة النبوية، أن نجد الإجابات على أسئلة عصرنا من خلالها، أو بمعنى آخر أن نعيش السيرة النبوية كما عاشها النبي صلى الله عليه وسلم.

     لقد تم تقديم السيرة النبوية في أغلب الكتب والبرامج على أنها سيرة كلها غزوات وسرايا وحروب، ولم يتم تقديم النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان، أي لم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم، لم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه القرآن الكريم، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾. [سورة الأنبياء/107]، ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. [سورة التوبة/128]، فمثلا خذ أي كتاب وسترى أن السمة الغالبة على العهد المكي هي صراع  كفار قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتعذيب الصحابة والقتل والمكائد، وفي العهد المدني أول ما يطالعك وأنت تقرأ السيرة غزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق وصلح الحديبية، وغزوة خيبر، وفتح مكة، ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

     هذا العرض وهذه الطريقة التي تم تقديم السيرة بها، ولدت متطرفين ينظرون إلى السيرة النبوية على أنها قتل وحروب ودماء، ومما زاد الطينة بلة خروج العديد من الطوائف من أبناء جلدتنا، رفعوا يد البطش باسم الدين لقتل مخالفيهم في العقيدة والانتقام من الغير مهما كان، لا لشيء سوى أنه مخالف لهم، هذا الفهم الشنيع ناتج عن عدم الفهم السليم والدقيق لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جعل الكثير من الناس يتساءلون، أين موقعي من السيرة النبوية؟ وهل لي علاقة بالسيرة النبوية؟ ولم لم أجد نفسي في السيرة النبوية؟ من هنا تكمن مسؤوليتنا في تبيين وتقديم السيرة النبوية في أبهى حلة وأجمل وصف، وأرفع مكانة، حتى يجد الأطفال متنفسهم في السيرة العطرة، وحتى ينعم الشباب بضلال السيرة، وحتى يرتع الكبار في جنان السيرة، وحتى يرى الكل مثلهم الأعلى وقدوتهم الفضلى سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.

     إذن فليس من المعقول أن نقدم السيرة النبوية بهذا الشكل الجاف الخالي من المعاني والقيم، بل لابد من التركيز على الجوانب الأخلاقية والروحية التي تمثل السمة البارزة في السيرة النبوية، فالله تبارك وتعالى عندما أراد أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم وصف، وأجل صفة، وأكمل منزلة، وصفه بأنه أعظم من تحقق بوصف الأخلاق، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ). [سورة القلم/4].

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عاش في المدينة عشر سنين، فعدد الغزوات التي حصلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة 27 غزوة، فلو قلنا أن متوسط الغزوة 20 يوما تقريبا، ف 27 غزوة في 20 يوما يساوي 540 يوما أي سنة وخمسة أشهر. وهنا نتساءل أين هي بقية عشر سنين؟

     الإجابة أنها كلها إعمار وبناء وحياة ورحمة وتعليم وإصلاح وهداية ومحبة…، فهل يعقل أن نختزل عشر سنين في سنة وخمسة أشهر؟ بل وأكثر من هذا، رسالة النبي صلى الله عليه وسلم 23 سنة، إذا استثنينا منها سنة وخمسة أشهر فستمثل نسبة المعارك والحروب من مجموع الرسالة 7 في المائة، فلم التركيز على 7 في المائة وترك 93 في المائة؟ الهدف واضح من هذا الأمر وهو ترك انطباع لدى الناس على أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها دماء وحروب وأن الدين انتشر بالسيف والترهيب، وكل هذا يساهم في تعزيز الحملات المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، لذلك سنحاول من خلال الدروس الآتية إن شاء الله أن نرى السيرة النبوية رؤية جديدة، رؤية تقوم على أن السيرة حياة، يعني: روح، رحمة، محبة، معاني، عاطفة، إصلاح، وتعايش…

 وفيما يلي بعض الأهداف الأساسية من دراسة السيرة النبوية:

– أن نعيش الحياة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه السلام حيّ معنا، كيف يكون حيّا معنا وقد انتقل إلى جوار ربه؟ نقول: أجل إنه معنا، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) [سورة الحجرات/7]،  يقول الشيخ ابن حجر الهيثمي:

تواتـــرت الأدلـــة والنقـــول      فما يحصي المصنف ما يقول
بأن المصطفى حـي طري      هلال ليــــس يلحـــــقه أفـــــول
وأن الجسم منه بقاع لحد     كـــورد لا يــــــــدنسه الذبـــــــول
وأن الهاشمي بكل وصف     جميـــــــــــل لا يغيــــــــره الحلـول

     لكن السؤال الأهم الذي يجب طرحه: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معنا، فهل نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل نحن متعلقين بجنابه الشريف؟ وهل نحن متفانين في محبته؟

     – أن نجعل النبي صلى الله عليه وسلم القدوة المثالية لنا، سواء كنا صغارا أو شبانا أو كبارا، تجارا، أغنياء أو فقراء، حكاما أو محكومين، لذلك جعل الله تبارك وتعالى حبيبه الكريم صلى الله عليه وسلم قدوة للإنسانية جمعاء، قال الله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). [سورة الأحزاب/ 21]، فليس في البشرية جمعاء إنسان جمع الله له في حياته التي عاشها كل ما تحتاجه الإنسانية إلى يوم القيامة إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه إحدى المعجزات النبوية، لذلك أمرنا الله تبارك وتعالى باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومحبته، ولا اتباع ولا محبة إلا بمعرفة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فكل ما تحتاجه كإنسان ستجده مبثوثا في سيرة المصطفى عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم، فليس هناك نبي يمكن أن تقتدي به في كل شيء في حياته، إلا واحد وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مثلا سيدنا عيسى عليه السلام، يمكن أن تقتدي به كشاب أعزب عفيف، لكن هل يمكن أن تقتدي به كزوج أو كأب أسرة له أولاد؟ لا يمكن لأنه لم يتزوج، والمثال الثاني سيدنا سليمان عليه السلام، يمكن أن تقتدي به كحاكم عادل، وكغني شاكر، لكن هل يمكن أن تقتدي به كمحكوم أو كفقير؟ لا يمكن لأنه كان حاكما وغنيا، لكن من هو الوحيد الذي يمكن أن تقتدي به في كل حياتك؟ إنه النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش فقيرا وغنيا، عاش محكوما وحاكما، عاش أعزب، وعاش متزوجا من امرأة واحدة، وعاش من غير امرأة وعاش متزوجا من عدة نساء، زوج بناته، ودفن أولاده، اشتغل أجيرا عند الناس، واشتغل في نفس الوقت كصاحب عمل، وغير مهنته ثلاث مرات.

     – السيرة النبوية منهج حياة: السيرة حياة، لأن المتأمل فيها سيجد فيها اهتماماته واحتياجاته، إن النبي صلى الله عليه وسلم معنا في حياتنا، كيف هو معنا وبيننا وبينه أزيد من 1438 سنة؟ موجود فينا بسيرته، بسنته، بمحبته، بمن حمل لنا حاله صلى الله عليه وسلم من شيوخ التربية الصوفية، ففي السيرة النبوية حل لجميع اهتماماتنا وأوجاعنا وهمومنا وطموحاتنا، وكأنك بقراءة السيرة النبوية ترى النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذ بيدك ويقول لك: حل مشكلتك كذا، واجه همك بكذا، حقق طموحك بكذا، فالسيرة النبوية منهج حياة، ولم تسم السيرة سيرة إلا لأنها تسير بك في حياتك بشكل سلس رباني روحي عميق، وتسمت السيرة سيرة كذلك لأنك تسير بها إلى الله تعالى.

     – قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودراستها علامة على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره، ولأن السيرة النبوية ترسخ معاني القرب في نفس الإنسان، وتجعله يعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث يكون ماتعا عندما يتعلق بالجناب الشريف العلم المفرد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالحديث عنه صلى الله عليه وسلم إذا لازمه العبد قربه الله تعالى من حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأدخله في زمرة من يتحدث مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، فمتى لازم الحديث معه صلى الله عليه وسلم أكرمه الله تعالى بمقام شريف ومنزلة كريمة وهي التمتع بالنظر إلى وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، يقول سلطان العاشقين ابن الفارض:

حديثه أو حديث عنه يُطربنــــي   هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا

كلاهـمــــا حســن عــــنـدي   لكن أحـلاهمــا ما وافق النظــــرا

     ولنتأمل قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ). [سورة التوبة/ 128] لهذه الآية مجموعة من الدلالات، قالت العرب: النبي صلى الله عليه وسلم، من أنفسنا، وقالت قريش: النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، وقال العلماء: النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، لأنه سيد العلماء، فهذه الآية تكتنز معاني سامية: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ )، نعم من أنفسنا نحن، كقارئ وكمستمع الآن، من أنفسكم يعني قريب منا أكثر مما نتخيل، فهو يحس بنا يستشعرنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم في أعماقنا، فهل نحن حقا نشعر بهذا القرب العظيم؟

– يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق