د. مصطفى بوزغيبة
باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة
فضل ليلة مولده صلى الله عليه وسلم
إن ليلة مولد خير الأنام وسيد ولد آدم لا تعتبر ليلة عادية، كما يعتقد البعض أو يريد البعض أن يمر عليها مرور الكرام، بل تعتبر من أجل الليالي، وأعظمها منزلة وأكرمها فضلا، إنه ميلاد الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حبيب الرحمان، فمن كانت في قلبه محبة النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعين بصيرته الخير المتدفق والنور الباهر الساري في ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، لذلك نجد أكثر العلماء المتأخرين ذهبوا إلى تفضيل ليلة المولد النبوي الشريف على ليلة القدر وعلى سائر الليالي، لأن الزمان إنما يشرف ويعظم قدره بشرف وقدر ما يقع فيه من الحوادث، ولا خلاف أن أعظم حدث في الدنيا هو مولده عليه الصلاة والسلام، فمن هنا شرف وعظم قدر ليلة المولد وفاق فضلها سائر الليالي، كما قال ابن الخديم:
حمداً لـمُعلي ليلة الميلادِ عن ليلة القدر لفضل الهادي
صــلى وسلـــم عليـــه وعـــلى جميع آله وصـــحبـــــه عــلا
مـــا دام مـــــولد النبي عيــدا مُعظّماً محــــــــترماً سعـــــيدا
حديثُه أو الحـــــديثُ عـــــــنهُ يُطرب من يهيج شوقاً منهُ
وكيف لا والله موتي النعمةِ أبرز في اليوم نبيَّ الرحمةِ
وتلك نعـــــــمةٌ يجـــــــلّ قدرها فحقٌ أنْ يظهر فيه شُكــرها
لذاك قد عظّم شهرَ المولدِ أهلُ محبةِ الـــهدى مـــــــحمدِ
وقد ذكر القسطلاني وجوه تفضيل ليلة المولد النبوي على ليلة القدر في كتابه: "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية"من وجوه ثلاثة:
"أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع في ذلك، فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر.
الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم، ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر، على الأصح المرتضى، فتكون ليلة المولد أفضل.
الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وليلة المولد الشريف وقع التفضل فيها على سائر الموجودات، فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعا، فكانت أفضل."[1]
وقد زاد العلامة أبو عبد الله بن مرزوق التلمساني على القسطلاني في وجود تفضيل ليلة المولد على ليلة القدر في رسالة خاصة سماها: (جنى الجنتين في المفاضلة بين الليلتين)، رجح فيها فضل ليلة المولد على ليلة القدر من نحو عشرين وجهاً، وقد نقل عنه الونشريسي في "المعيار" مذهبه هذا وأقره عليه، وذكر الأوجه التي اعتمدها في التفضيل بين الليلتين فقال: "واحتج لمختاره في كتابة: (جنى الجنتين في فضل الليلتين) بإحدى وعشرين وجها.
وها أنا أسردها بعون الله، قال:
الأول: إن الشرف هو العلو والرفعة، وهما نسبتان إضافيتان، وشرف كل ليلة بحسب ما شرفت به، وليلة المولد شرفت بولادة خير خلق الله عز وجل، فثبتت لذلك أفضليتها بهذا الاعتبار.
الثاني: إن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له حسبما قدمناه، وما شرف بظهور ذات المشرف أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع في ذلك، فكانت ليلة المولد بهذا الاعتبار أشرف.
الثالث: إن ليلة القدر أحد ما منحه من شرفت ليلة المولد بوجوده من المواهب والمزايا وهي لا تحصى كثرة، وما شرفت بإحدى خصائص من ثبت له الشرف المطلق، ولا يتنازل منزلة المشـرف بوجوده، فظهر أن ليلة المولد أشرف بهذا الاعتبار وهو المطلوب.
الرابع: إن ليلة القدر شرفت باعتبار ما خصت به، وهو منقض بانقضائها إلى مثلها من السنة المقبلة على الأرجح من القولين، وليلة المولد شرفت بمن ظهرت آثاره، وبهرت أنواره أبدا في كل فرد من أفراد الزمان إلى انقضاء الدنيا.
الخامس: إن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ومن تشرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت به ليلة القدر على الأصح المرتضى، فتكون ليلة المولد أفضل من هذا الوجه وهو المطلوب.
السادس: الأفضلية عبارة عن ظهور فضل زائد في الأفضل، والليلتان معا اشتركتا في الفضل بتنزل الملائكة فيهما معا، حسبما سبق، مع زيادة ظهور خير الخلق صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المولد، ففضلت من هذا الوجه على القولين جميعا في المفاضلة بين الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
السابع: إن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة عليهم الصلاة والسلام وانتقالهم في محلهم من الأعلى إلى الأرض، وليلة المولد شرفت بوجوده صلى الله عليه وآله وسلم وظهوره، وما شرفت بوجود وظهور، أشرف مما شرف بالانتقال.
الثامن: إن ليلة القدر فضلت باعتبار عمل العامل فيها، فإذا قدرت أهل الأرض كلهم عاملين فيها فيلحقون قدرا شرفت به ليلة المولد ولا يلحقون عمله في لحظة وإن كان في غيرها، فتثبت أفضلية المولد بهذا الاعتبار.
التاسع: شرفت ليلة القدر لكونها موهوبة لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عناية به عليه السلام، وشرفت ليلة المولد بوجود من وهبت ليلة القدر لأمته صلى الله عليه وآله وسلم اعتناء به فكانت أفضل.
العاشرة: ليلة القدر وقع تفضيل فيها على أمة محمد عليه السلام، وليلة المولد الشريف وقع تفضيل فيها على سائر الموجودات، فهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين فقال تعالى : ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾، فعمتْ به النعمة على الجميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعا بهذا الاعتبار، فكانت الشرف وهو المطلوب.
الحادي عشر: إن ليلة المولد فضلت على غيرها من ليالي السنة بولادته صلى الله عليه وآله وسلم، فإنك تقول فيه ليلة مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فتقول في ليلة القدر: ليلة القدر وهو الشرف، وأما التقدير والإضافة إلى ليلة المولد إضافة اختصاص. وهي أفضل وأبلغ من الإضافة إلى مطلق الشرف، أو ليلة التقدير فهي وإن كان التقدير فيها من لوازم شرفها، فاعتباره في ليلة المولد وليلة الشرف العام بلا افتراء، فثبت فضل ليلة المولد وهو المطلوب.
الثاني عشر: إن ليلة القدر إنما يحظى بها العامل فيها فمنفعتها قاصرة، وليلة المولد متعدية منفعتها. وما كانت منفعته متعدية أفضل من غيرها وهو المدعى.
الثالث عشر: إن ليلة القدر ثبت في فضلها ما ثبت مما قدمناه إلا أنه عرض فيها ما عرض من الخلف في البقاء والرفع، وإن ضعف، وليلة مولده عليه السلام شرفها باق لما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى فكانت أفضل بهذا الاعتبار.
الرابع عشر: المدعَى أن ليلة المولد أفضل، ويدل عليه أن تقول: زمنٌ شرف بولادته صلى الله عليه وآله وسلم وإضافته إليه، واختص بذلك، فليكن أفضل الأزمنة قياسا على أفضلية البقعة التي اختصت بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولحد بين أطباقها على سائر الأمكنة، وقد فضلت إجماعا، فليكن الزمان الذي اختص بولادته صلى الله عليها وسلم أفضل الأزمنة بهذا الاعتبار.
الخامس عشر: أن ليلة القدر فرع ظهوره صلى الله عليه وسلم، والفرع لا يقوى قوة الأصل، وفضلت ليلة المولد على ليلة القدر بهذا الاعتبار وهو المطلوب.
السادس عشر: أن ليلة المولد حصل فيها من الفيض الإلهي النوراني ما عم الوجود، ووجوده مقارن لوجوده صلى الله عليه وسلم، ولم يقع ذلك إلا فيما وجب فضلها على غيرها وهو المدعى.
السابع عشر: أن ليلة المولد أظهر الله تعالى فيها أسرار وجوده صلى الله عليه وآله وسلم التي ارتبطت بها السيادة الأخروية على الإطلاق، واتضحت للحقائق، وتميز به الحق من الباطل، وظهر ما أظهر الله تعالى في الوجود من أنوار السعادة وسبيل الرشاد، وافترق به فريق الجنة من فريق السعير، وتميز وعلا به الدين وأظلم الكفر وهو الحقير، إلى غير ذلك من أسرار وجود الله عز وجل في مخلوقاته، وما هو الموجود من آياته، ولم يثبت ذلك في ليلة من ليالي الزمان، فوجب بذلك تفضيلها بهذا الاعتبار وهو المطلوب.
الثامن عشر: وهو تنويع في الاستدلال وإن كان معنى ما تقدم، وهو أن نقول: لو لم تكن ليلة المولد أفضل من ليلة القدر للزم أحد أمور وهي: إما تفضيل الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو العمل المضاعف أو التسوية، وكلها ممتنع، أما الأول فعلى الصحيح المرتضى، وأما الثاني والثالث فباتفاق. وبيان الملازمة أن التفضيل في الأول حصل بولادته صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية إما بنزول الملائكة أو للعمل.
العشرون: أن بعض زمان المولد الشريف، هو زمان ولادته صلى الله عليه وسلم، وولادته صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأزمنة، فبعض ليلة المولد أفضل الأزمنة، وإذا فضل بعضها على سائر الأزمنة فضلت ليلة القدر بهذا الاعتبار.
الحادي والعشرون: أن أفضل الأزمنة زمن ولادته صلى الله عليه وآله وسلم بليلة القدر، فلا شيء من أفضل الأزمنة بليلة القدر، وينعكس إلى قولنا لا شيء من ليلة القدر بأفضل الأزمنة هذا إبطال لدعوى الخصْم إذاً".[2]
وقد أشار ابن الخديم إلى أفضلية ليلة مولده صلى الله عليه وسلم على جميع الليالي ومنها ليلة القدر في نظمه بقوله:
هــــــــذا وإن لــيلـــةَ الميــلاد تفضيلُها من فضــلِ طه بـــادِ
فهْيَ لذاكَ من وجوهٍ تُدرى من ليلــة القدر أجــلُّ قَــــــــدْرا
بل هيَ أفضلُ لدى الحُذَّاقِ من كلّ ليلـــــةٍ على الإطـــلاقِ
الهوامش
[1] شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للعلامة القسطلاني (ت923هـ)، ضبطه وصححه: محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1418هـ/1996م، 1/ 255-256.
[2] المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914هـ)، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 1401هـ/1981م، 11 /280-283.