وحدة الإحياءدراسات عامة

نظرية المعرفة عند الشاطبي: دراسة في منهج تكامل العلوم وتداخلها.. قضايا ونماذج

 مقدمة

 تروم هذه الورقة مباحثة في أهدى السبل الموصلة إلى الكشف عن مبدإ تكامل العلم الشرعي، وتداخل أنساقه المعرفية، وتناظر أجناسه العلمية تناظرا وإن كان يوحي ابتداء بإمكانية وجود تقابل ظاهري بين قضاياه؛ فإنه يروم عند التحقيق إنتاج معرفة متجانسة يصطحب فيها العقل والشرع ويزدوج فيها النظر والعمل، بقصد دحض شبه الجاحدين وانتحال المبطلين.

 ولعل علم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فلقد حصل شبه إجماع من النظار على أنه خير تمثيل لهذا التكامل[1]، إما لقوته الاستيعابية وقدرته على احتواء كثير من قواعد العلوم بعد اقتراض بعضها من مجالها الذي احتضنها ابتداء[2]، وإما لمكنة أعلامه وتمكنهم من رفع الخلاف عن قضاياه ومباحثه بالتوظيف السليم لقواعد النظر العلمي السليم فهما واستنباطا تحقيقا وتنزيلا، وقد تولد عنه أن صارت تلك القواعد محطة تواصلية وقنوات تعارفية ليس فقط بين نظار العلم وأهل التخصص، بل وحتى مع المخالف في النحلة.

تلك كانت قصة نظرية المعرفة في بعديها النظري والإجرائي عند الشاطبي، أقصد كونها محضنا لتكامل العلوم عبر التوظيف الإجرائي لقنواتها المعرفية الشرعية في بعدها الوجودي والعلمي. ذلك لأن قنوات حمل المعرفة الشرعية عند النظار عموما، وعند الأصوليين خصوصا يطبعها طابع شبه الإجماع على حجيتها نظريا والعمل بها تنزيليا وإجراء. وهي: الوحي والكون والعقل.

غير أن توظيفها عند أبي إسحاق مسح بمسحة نظرية “ترجمة العلم إلى العمل”. وهي نظرية توحي في جميع تواليفه إلى وجوب استثمار المعرفة لتوليد كليات العلوم ومحاولة إخراجها من الكمون إلى التجلي أو من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. فلم يشغل نفسه بمحاولة التأصيل لمسلمة الاعتراف النظري والإقناع الحجاجي بقواعد الوحي والكون والعقل… كما عودتنا مدونات الأصوليين في مباحث الكلام مثل حديثهم عن طبيعة الحكم التنجيزي والصلوحي والتحسين والتقبيح وطبيعة علاقة السبب بالمسبب هل هي عادية أم تأثيرية؟ وكذا علاقة السنة بالقرآن، إلا قليلا، وعوارضهما من عموم وخصوص وتقييد ونسخ وحقيقة ومجاز وحجيتها جميعا… إلى غير ذلك.. وإنما حاول تجاوز هذه المباحث في طريقة عرضها التجريدي النظري ليطل من نافذة هذه العلوم مسلمة على ترسانة من الإشكالات التي أثارتها علاقة هذه العلوم بعضها ببعض، باعتبارها ممثلة لوحدة الشريعة في شبكتها الكلية المعقدة.

 وإِنَّ غَضَّ الطرف عن تلك الإشكالات العملية العارضة سيولد، قطعا، الشك في هاته الوحدة ومحاولة تفكيك نسيجها من قبل المغرضين أو الجاهلين على حد سواء. فكان أن انتصب أبو إسحاق لرصد أهم هذه الإشكالات العارضة لعلوم الشريعة، وتفكيك خلاياها وإعادة ترتيب مباحث العلوم ترتيبا يجري على نسق هويتها الراجعة إلى وحدة الشريعة التابعة هي بدورها لوحدة الوحي كلام الله الواحد غير المتعدد.

ومن هنا، حقا، وجب إعادة القراءة لقواعد علم الأصول في منظور شيخ المقاصد، باعتباره العلم الكلي الأعلى الناظم لما سواه من العلوم وهي جزئيات بالنسبة إليه. فكان أن جر عليه الاهتمام بمصادر المعرفة في تجلياتها الوجودية والعلمية الكبرى أعني: النقل والعقل والكون. وما سواها مكمل لها أو راجع إليها.

المحور الأول: محتوى نظرية المعرفة وتكامل العلوم

 أولا: مجمل مصادر المعرفة عند الشاطبي

إذا سلمنا أن توظيف مصادر المعرفة عند الشاطبي كان بقصد الوقوف على نظرية تكامل العلوم وتداخلها وخدمة بعضها لبعض؛ أمكننا أن نقف على محتوى هذا الإجراء عموما وتلمس كليات ذلك التكامل تفصيلا والوقوف على بعض نماذجه التي صارت بمثابة المرآة العاكسة لوحدة الشريعة من خلال علم الأصول. والتفصيل فيه نتركه إلى المباحث المقبلة. وإنما وظيفة هذا المبحث هنا هو رصد ذلك المحتوى إجمالا من خلال المصادر الرئيسة والمكملة لها المقصودة أصالة لتركيب مباحث الفن في منظور أبي إسحاق:

  1. الوحي؛ هو كليات القرآن العليا: ولها طابعان: طابع مصدري: يرتبط بماهية القرآن الكريم والسنة النبوية.. فهما مصدران لإنشاء الأحكام التفصيلية المباشرة الراجعة إلى الحلال والحرام، ثم هما مصدران لتوليد قواعد الأصول الفقهية وحجيتها الشرعية. وما سوى هاذين ناشئ عنهما مثل الإجماع والقياس والاستدلال.

وطابع قانوني حجاجي: يتعلق خصيصا بمنظومات القواعد الكلية التي ليست مصادر ولكنها قوانين، مثل العموم والخصوص، وسد الذريعة، وقواعد المآل، والمصلحة… وغيرها. فبين أن هاته الكليات كاشفة عن الحكم وصالحة للتناظر والمجادلة أثناء ربط الدليل بمواقعه في النوازل والقضايا وما يتعلق بالفروع في محطة تحقيق المناط.

  1. الكون؛ هو منظومة الحلال التي زين الله بها مناكب الوجود وغلبها على الحرام. أو قل: هي مجموع الطيبات التي نصبها الشارع للتمتع بها أصالة واتخاذها قنوات لعبادته في الأرض… ويرتبط بها ضرورة مجموع الكائنات المعرفة بخالقها. فبيِّن أن هذا التعريف يقود لزوما إلى جس نبض حظيرة التوحيد التعبدي في شعور المكلف، ومن خلاله ستتجلى ملامح التصوف السني المعتدل أو “فقه القلوب”. ودمجه في الأصول معقول كما سيتضح فيما بعد، وإنما كان كذلك تعريضا بالأصوليين الذين اقتصروا على “فقه الظاهر” دون “فقه الباطن”، وهما على كل حال علمان صنوان.
  2. العقل؛ لم يعتن به الشاطبي من جهة الحجية كما عودتنا مدونات الأصوليين ونظار الكلام؛ ولكن من جهة كونه قناة لتوليد قواعد كلية ربما لم يعهدها الأصوليون بمنهج أبي إسحاق التكاملي… وذلك مثل نظرية السبب والمسبب والعلاقة بينهما هل تحكمها العادة فيترتب على ذلك مبدأ التوحيد؟ أم التأثير المباشر فيلزم عنه مبدأ الاستخلاف القاضي بوجوب مراعاة الفعل الإنساني من جهة أسبابه وقرائنه ولواحقه جميعا؟.. وبين أن من ثمرات هذا المبدأ عنده ترتب كلي “المآل” وفروعه.

هذه هي أمهات المصادر المعرفية عند الشاطبي وسنغض الطرف عن سائرها مثل اللغة والمنطق… تبعا لخصوصية الدراسة المعدة أصالة لبيان علاقة أولا فقه الباطن بفقه الظاهر وثانيا كلام الله المسطور “الوحي” بكتابه المنظور “الكون”، باعتبار الثاني معادلا موضوعيا للأول. ففي وجهة نظري، هنا تسكن ترسانة من الأسرار العلمية والتعبدية المساعدة على قراءة الكون بفهرس القرآن؛ قراءة توحيدية شاملة كاشفة عن منظومة من الإشكالات المعرفية، وإمكان إرساء حلول لها صالحة لكل زمان ومكان وليس قاصرة على محيط إمام غرناطة الاجتماعي والعلمي، ولا على علم الأصول الصناعي فقط، بل ممتدة إلى سائر العلوم مثل التفسير والتصوف كما أشير سابقا. وقد تداخلت هذه المصادر في تشكيل بعض قواعد العلمين معا وفوائدهما عبر قناة الكلي.

ثانيا: مركزية الكلي في تكامل العلوم وتداخلها: الأصول والتصوف أنموذجا

فرق كبير بين التأليف في فن علمي من حيث هو علم صناعي تقتضي الصناعة فيه رصد حيثيات المعرفة المشكلة لإطاره من شروط وموضوع وهدف تشكل بمجموعها سياجا لذلك العلم، لا يدخل فيه غيره، وإن أدخل فبالتأويل، ولا يزحف هو خارجه. من حيث المصطلحات المركزية والقواعد الكلية على السواء، سيما إذا سلمنا ابتداء بأن محاولة دمج أجناس منها بنظائرها في علم آخر إنما هو “من باب خلط بعض العلوم ببعض”[3] من منظور الشاطبي نفسه. وبين التأليف في علم من حيث هو علم غائي ممتد إلى سائر أقرانه من العلوم التي تشكل وحدة الشريعة ونظم الجميع في عقد واحد، لو ضاعت منه حلقة واحدة انفرط العقد بأكمله.

ففي الحالة الثانية يكون العلم قادرا على احتواء إشكالات الواقع الكوني بكل تحدياته، وإيجاد منافذ لصياغة حلول لها ضمن وحدة الشريعة التي هي غاية ذلك العلم نفسه، ما دام من أخص خصائصها الصلاحية في كل مكان، والثبات الممتد على مرّ الأزمان…

والمتأمل في مشروع شيخ المقاصد يجد نفسه لا محالة أمام زخم تدافعي من العلوم مؤطرة ضمن هذه الحالة الثانية، مصاغة في سلك العلم الكلي الأعلى عنده الذي هو علم أصول الفقه.

وبين أن هذا التأطير سيجر لزوما الإشكال المنهجي السابق أقصد: كيف يسلم دمج علم في علم والخلط بين قواعدهما؟ أليس إدماجها هو إجهاز على نظرية المعرفة الإسلامية نفسها الخاضعة هي بدورها لفلسفة تصنيف العلوم والتفريق بين مباحثها وموضوعاتها تفريقا يوجب الحفاظ على هويتها؟!

نبادر ابتداء لتقديم الحل المنهجي والقناة المعرفية التي ساعدت أبو إسحاق في لملمة شتات العلوم في صيغتها النسقية القاعدية، على اعتبار أن الخوض في الجزئيات هو استمرار، بوعي أو بغير وعي، في توطين الأزمة… ومن ثم كان الحل هو الوقوف على نظرية “الكلي” المحتضن لتلك الجزئيات.

 وهذا لا يعني أن الأصوليين قبله أهملوا النظرية، تأصيلا أو تنزيلا، كلا، بل قواعد العلوم هي نفسها كليات، بيد أن طبيعتها “الاستحواذية” لم تترقى عندهم لتخرج من فن إلى فن خروجا منهجيا يضبط إشكالا ما، وإلا فإن هجرة “القواعد الكلية” من علم إلى صنوه معروف متداول بقوة…

من هنا كانت الكليات عند أبي إسحاق لها تجليان:

تجلي خاص؛ وهو استفادة فروع فقهية.

تجلي عام؛ استفادة قواعد فقهية وأصولية. وهنا لاشك مربط الفرس عنده… ولهذا كان الكثير من القواعد الكلية عند غيره جزئيات إضافية عنده، تماما مثل الفروع من جهة قوتها وليس من جهة طبيعتها. إذن ما مظاهر هذا التكامل بين العلوم عند إمام غرناطة؟ وكيف استطاع الوصول إليه من خلال قناة الكلي؟

ما يعنينا هنا في هذا المقام من تلك العلوم المتداخلة منهجيا ومعرفيا مع الأصول؛ علم السلوك أو التصوف، وذلك لأمرين اثنين:

أولهما؛ أن وجود قواعده ومفاهيمه بقوة في ثنايا “الموافقات”؛ يستفز الناظر ويدفعه إلى البحث والتساؤل حول سر إدماج مطالبه بكثرة في مطالب الأصول، بصورة لم تكن عند الأصوليين قبل أبي إسحاق ولا خَطُّوها بأيمانهم!

 والثاني؛ أن التصوف هو أقرب العلوم الشرعية إلى الفقه وأصوله، وذلك لأن العلوم المقصودة بالأصالة من الشارع لارتباطها المباشر بأفعال المكلفين إنما تنحصر في علم الفقه دون سواه؛ ذلك لأن الأحكام هي أوصاف قيمية تصف الأفعال في الوجود وتؤطرها، وما الأدلة من قواعد ونصوص إلا قنوات حاملة لتلك الأوصاف في صورتها النهائية بعد سبرها واختبارها… ولما كان علم الفقه منه ظاهر وباطن وكان اعتناء الفقهاء والأصوليين بالأول في الغالب دون الثاني؛ كان ذلك مدعاة إلى استدراك أبي إسحاق بدمجه هذا في ذاك وجعلهما على مرتبة واحدة يشملهما جنس واحد هو الفقه. فكان لزاما طرق قواعد التصوف كطرق قواعد الأصول، باعتبارهما “شقيقان في الدلالة على أحكام الله”[4]كما عبر الشيخ زروق، لكن الجميع ظلل لديه بمظلة الكلي الأعلى. وهذا سر إبداعه المنهجي القاضي بالتكامل والتداخل مع الحفاظ على هوية كل علم علم على حدة.

فما حقيقة هذا التداخل العلمي والتكامل المعرفي بين الأصول والتصوف عند الشاطبي؟

1. في التداخل الهامشي المفارق بين العلمين

 قال مشيرا إلى حقيقته: “هذا العلم؛ (أي الأصول) لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له، ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه كعلم النحو، والاشتقاق، والتصريف، والمعاني، والبيان، والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم التي يتوقف عليها تحقيق الفقه وينبني عليها من مسائله، وليس كذلك؛ فليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله، وإنما اللازم أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه فليس بأصل له”[5].

 إن هذا النقد المنهجي من خلال هذا النص الذي بُثَّ في إحدى مقدماته التمهيدية لكتابه “الموافقات”؛ إنما جُعِلَ عنده بمثابة منطلق منهجي، ومسبار كلي لفحص كل معرفة أصولية عند الأصوليين وإعادة بنائها لتصير إما معرفية (صلبية) داخل العلم، وإما من الزوائد المعرفية الواجب إطراحها خارج مجاله في الهامش.

وإنما مَثَّل بما نطق به النص بالفعل من نحو، واشتقاق، وحديث، وغيرها… لتكون كالدال على ما سواها مما هو داخل فيه بالقوة، وذلك شأن التصوف. وقد دعم قاعدته في سياق آخر بقوله: “وأما كونه (الشيء) فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما؛ فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن باب “خلط بعض العلوم ببعض”[6]. مما يدل على استقلالية العلم من جميع النواحي.

ومن هنا، وبناء على ذلك، كان توظيف كثير من العلماء لمعاني ومفاهيم السلوك والتصوف داخل المباحث الأصولية والفقهية؛ إنما هو في هامشها دون أن يرقى إلى أن يكون من صلب العلم، فصار بإدراجه فيها، كإدراج دقائق الكلام والمنطق وبعض فروع اللغة والفقه، وسيلة إلى “خلط بعض العلوم ببعض”[7].

وذلك مثل ما جاء في قواعد العز بن عبد السلام من الحديث عن “الأذكار”، و”البدع”، و”ما بطن من معارف الأولياء وأحوالهم”، وبعض مقامات الإيمان وأحوال الإنسان فيها كـ”الخوف، والرجاء، والحياء، والتوكل، والمهابة، والتوبة والزهد والفقر والغنى”[8] وغيرها.. وفروق القرافي لم تخل هي أيضا من بعض حديث عن ذلك مثل “قاعدة الزهد وذات اليد، والفرق بينهما” و”الفرق بين قاعدة الزهد وقاعدة الورع”، و”الفرق بين قاعدة المعصية التي هي كفر وما ليس بكفر”[9]، وأشياء من هذا القبيل أدخلت في العلم وهُجِّرت إليه دون أداء وظيفتها المتناسقة جمعا بين الفنين، فظهر انفصامها عنه.

وأما الغزالي، رائد نظار الفن، فكان على نقيضهما في الطرف الآخر؛ إذ لم تسلم كتبه من شائبة الانفصام العلمي بين مباحث العلمين وإقالة أحدهما من الآخر واستقلال كل منهما بمباحثه استقلالا يوحي بعدم تكاملهما وتداخلهما، يدل على ذلك استقلال مباحث كتابه “الإحياء” عن مباحث كتابه “المستصفى”؛ فالأول مثل مذكرة الزهاد وحشي بفنون من قصص الوجدان والشعور تبدو على غير منهاج قواعد العقل ومساطره كما طرقها في الثاني فحدث الانفصام.. وغير هؤلاء كثير. وهذا هو بالذات الذي عمل الشاطبي على تلافيه بالتصحيح كما ستتجلى بعض مظاهره في هذه الدراسة.

2. في التداخل النسقي المنتج

هو كل تداخل يفضي إلى إنتاج عمل أو إثمار معرفة قلبية أو جوارحية مادام المفهوم أو القاعدة المرحلان من إطارهما العلمي قد ينتجان بجوار مفهوم أو قاعدة أصليين معنى هو في صلب علم الأصول، ولعله لم يكن ذا صلة بهما وهما في مجالهما الذي ولدا فيه ابتداء ونشآ وترعرعا! قال: “كل مسألة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أولا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية”[10].

فالآداب الشرعية المحتضنة للتصوف في هذه القاعدة الكلية تضاهي الفروع الفقهية في النسبة إلى الأصول، ومن هنا تتضح حقيقة الفرق بين نوعي التداخل. وقد أشار إلى ذلك في موضع آخر إذ قال: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي؛ وأعني بالعمل؛ عمل القلب، وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعا”[11]. وهذه كلية أخرى شاملة مستوعبة لجنس الفنين تقرر أن عمل القلب، وهو محط نظر التصوف من المكلف، مطلوب في علم الأصول كعمل الجوارح، وهو محط نظر الفقه والفروع منه، فموضوعهما معا ومجالهما الرئيس فعل المكلف ظاهرا وباطنا.

ومن ثم لم تقتصر نظرياته على خصوصية الفقه الصناعي في شقه الجوارحي، بل تجاوزته لتصير قادرة على احتضان المنظومة الشعورية والوجدانية لدى المكلف. ومن هنا أيضا خرج حديثه عن الجمال.

3. في امتدادات التداخل النسقي وإشكالية المفهوم

وإن امتدادات جذور هذا التداخل المنهجي وتجلياته لهي رهينة بتسليم القول بهجرة المفاهيم والقواعد، بالتبع، من علم إلى آخر واصطباغها بصبغة مجاله، وأن ذلك لا ضير فيه ما دامت هذه الهجرة “تُسهم في تحقيق التكامل المعرفي بين الحقول المعرفية”[12]. وتلك هي قصة علم التربية أو الأخلاق فيما يعبر عنه بـ”التصوف” في علاقته بالأصول.

فإنه إذا كان العلم الحق عند أبي إسحاق هو “معرفة اصطلاحات أهله”[13]؛ فإن ذلك سوف لن يكون عائقا أمامه في استيراد مصطلحات ومفاهيم، قد تترقى في كثير من الأحيان إلى صيرورتها أصولا وقواعد، من مختلف العلوم الشرعية المتآخية مع علم الأصول في اعتماد الشريعة مصدرا للمعرفة، وصبغها بطابع مجاله الذي يقع فيه الحراك العلمي. وهاهنا حط علم التصوف، مع كثير من مفاهيمه، رحالَه ولاحت حقيقته.

ثم ليس في هذا تذويب للفروق المنهجية الكلية بين العلمين، ولكنه زيادة ضبط لهما معا خاصة علم التصوف الذي يتميز بليونة مجاله، ذلك أن المفهوم فيه، والقاعدة أيضا، يولد في محضنه وينشأ ويترعرع تحت رعايته ويصطبغ بصبغته، لا خارجها، فإذا رحل إلى علم الأصول لتأدية وظيفة مّا تبعا لحقيقته؛ صار متحليا بحلية مجال ذلك العلم، مصطبغا بصبغته، تنطبع فيه (صلبية) العلم ودقة إطاره وقد كان من قبل لينا رخوا[14]، معرضا لتوظيف كل من هب ودب! مع الحفاظ، طبعا، على وظيفته التربوية الكلية التي سيق من أجلها حيث ولد في أو كاره الأولى، بل وهي التي سوف تضفي على المفاهيم الأصولية عند أبي إسحاق جمالها ورونقها.

على هذا المهيع تجد أبا إسحاق يسوق كثيرا من المصطلحات والمفاهيم والقواعد الأخلاقية الراجعة إلى علم السلوك ومفيدة بصفة مباشرة للفقه كـ”فتيا أهل الورع”، و”قصد الحظ”، و”قصد التعبد”، و”قصد الموافقة”، و”قصد المخالفة”، و”عزائم المطالب”… وغيرها كثير، ناهيك عن بعض آخر منها وإن لم يرق إلى إفادة معنى أصولي محض أو فقهي راجع إلى الأصول إفرادي أو تركيبي؛ إلا أنه أفاد تجديدا في منهجية التأصيل للفقه أو إعطاء حقيقة أصولية أو فقهية تفهم من السياق والنظم بمجموعها كمفهوم “المقامات”، و”الأحوال”، و”الكرامات”، و”الخوارق”، و”الإخلاص”، و”الزهد”، و”الرجاء”، و”الخوف”، و”الفراسة”، و”الذوق”، وغيرها كثير مما لا يمكن حصره.

هذا دون أن ننسى، وهو الكثير الغالب، شحن المفاهيم والقواعد الأصولية نفسها بمعاني التربية والأخلاق ومقاصد التصوف كما هو الحال بالنسبة لمفاهيم المباح، والاجتهاد، والمآل، وتحقيق المناط الخاص، وقواعد المقاصد برمتها ناطقة بذلك. قال في سياق حجاجي حول إمكانية ضبط المفهوم: “وأما الكلام في دقائق التصوف فليس ببدعة بإطلاق، ولا هو مما يصح بالدليل بإطلاق، بل الأمر ينقسم”.

ولفظ التصوف لابد من شرحه أولا حتى يقع الحكم على أمر مفهوم لأنه أمر مجمل… وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان: أحدهما: التخلق بكل خلق سني، والتجرد عن كل خلق دَنِيّ. والآخر أنه الفناء عن نفسه والبقاء لربه، وهما في التحقيق إلى معنى واحد، إلا أن أحدهما يصلح للتعبير به عن البداية والآخر يصلح التعبير به عن النهاية، وكلاهما اتصاف”[15]، إلى أن قال: “وإذا ثبت هذا فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه، لأنه إنما يرجع إلى تفقه ينبني عليه العمل وتفصيل آفاته وعوارضه وأوجه تلافي الفساد الواقع فيه بالإصلاح”[16].

فهذا النص القاطع يبين أن التصوف السني المعتدل إنما يرجع في نهاية المطاف إلى الفقه الذي ينبني عليه عمل، ويكون بهذه الحيثية نوعا من أنواع المعرفة الشرعية الداخلة تحت جنس الأصول التي يترتب عليها كما قال سابقا: “فروع فقهية أو آداب شرعية”[17]. فتصير الفروع، هاهنا، مع التصوف بالنسبة إلى الأصول رضيعي لبان وفرسي رهان! لكونهما يتجاذبان نفس الوظيفة المتمثلة في إنشاء عمل بعد تحقيق أصوله النظرية وفق ترتيب منهجي يصلح بمجال كل منهما. قال: “وهو؛ (أي التصوف) فقه صحيح وأصوله في الكتاب والسنة ظاهرة، فلا يقال في مثله “بدعة”، إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يُلْفَ مثلُها في السلف الصالح أنها بدعة، كفروع أبواب السلم والإجارات والجراح… وبيوع الآجال وما أشبه ذلك. وليس من شأن العلماء إطلاق لفظ البدعة على الفروع المستنبطة التي لم تكن فيما سلف، وإن دقت مسائلها. فكذلك لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة أنها بدعة، لأن الجميع يرجع إلى أصول شرعية”[18].

فهذا كله يوحي ابتداء بإمكانية وجود تداخل منهجي، مفاهيم وقواعد، بين الأصول والتصوف وأن (صلبية) الأول منهما قادرة على ضبط (ليونة) الثاني ضبط الكلي لجزئيه. وقد ألمح أبو إسحاق بلمحة يمكن اعتبارها، مع ما سبق، محاولة بناء نظري للإشكال سوف يعمل على أجرأته عمليا في سائر مطالب كتبه، هنالك يتحول من دعوى جدلية إلى قضية مسلمة، ذلك قوله: “وهذا؛ (أي التصوف) نوع من أنواع الفقه المتعلق بأهواء النفوس، ولا يعد من البدع لدخوله تحت جنس الفقه، لأنه وإن دق راجع إلى ما جل من الفقه، ودقته وجلته إضافيان والحقيقة واحدة”[19].

من هنا يكون الشاطبي قد دفع عن علم الأصول التداخل الابتذالي أو الهامشي غير المنتج، وجلب له التداخل النسقي أو الإجرائي الذي يُمَكّن من إضفاء طابع الوحدة والتناسق على العلم. ويُسهم في توليد علوم أخر؛ هي جزئيات بالنسبة إليه، نجد في صدارتها؛ قواعد الجمال التعبدي والتفسير الصوفي الإشاري.

المحور الثاني: قضايا ونماذج تصور نظرية التكامل

1. روح الكون والكائنات: أو نظرية الجمال التعبدي في المباح

الإنسان “ماهية جامعة”[20] أودعها الله فيه ليكون دائم الاتصال بالموجودات، تربطه بها وشائج شتى، وعلاقات تعبدية كونية مستمرة منبجسة من عين الوحي نفسه، فلا عجب، إذن، أن نجد القرآن يركز على هذه الوشائج والعلاقات في غير ما سياق ويبرز ضرورتها في تخريج الإنسان الكوني، باعتباره عالما مصغرا يحوي بين جوانحه ترسانة من الأسرار التي تعتبر مرآة عاكسة لأصول المخلوقات ووظائفها في الكون؛ العالم الأكبر.

إن نظرية الكون والفساد التي اهتم بها نظار الفلسفة اليونانية والإسلامية من أرسطو زعيم الأولى إلى ابن رشد رائد الثانية؛ لم يكن قط عبثا، بل كان في جوهره اهتماما أولويا بماهية الكائنات ووظيفتها. فلا يأتي كائن إلا على أنقاض كائن آخر أو ارتباطا به لتكوين ثالث منهما… وهكذا يستمر التكوين الإلهي للمخلوقات بتلاقح جواهرها وتلاقيها لتأدية وظيفة التسخير الكوني للإنسان باعتباره “ثمرة شجرة الخلقة” على حد تعبير النورسي.

من هنا كان واجبا على هذا الإنسان أن يستثمر خدمة هذه المخلوقات، وما أبيح له من طيباتها لتشكيل مائدة تعبدية تحوله من طبيعته “الناسوتية” والتقوقع حولها إلى وظيفته “اللاهوتية” أو قل: من عبادة نفسه واقتناص شهواته إلى عبادة خالقه وتوحيده.

تلك هي طبيعة الكون والكائنات في فلسفة الإسلام.. فكان معظم اهتمامات الوحي القرآن بكليات هذه الفلسفة “الوجودية”[21]، أقصد: ربط طبيعة الكائنات بوظيفة الإنسان في نسق وجودي تحكمه إرادة الله الأزلية وحرية الإنسان الاختيارية. من هذا المسلك حاول أن يسلك أبو إسحاق بقواعده الأصولية وشحنها بمعان الكونية والاستخلاف والتوحيد التعبدي، ليصير للفن طابعا حضاريا يرسم من خلاله معالم فلسفة امتثالية وجودية تنبني في مجملها على كلية “ترجمة العلم إلى العمل” كما أشرنا سالفا، وتخرج القواعد من حيز النظر المجرد والتنزيل الفروعي الضيق إلى فضاء الإجراء والتوظيف الكوني السنني المبني على قانون التدافع الحضاري في مجاري العمران وطبائعه.

وسيتم الاقتصار على أنموذج المباح بما هو صورة ناطقة بهذه التجليات التداخلية دون سائر المطالب، لموجبين اثنين: أولا لكونه مركز الأحكام وقناة توفير الخدمة لنظرية المقاصد في شقيها الأصلي والتبعي وبكل تجلياتها العمرانية الكونية والجمالية التعبدية الصوفية. والثاني: لكونه محطة منهجية تجلت من خلالها معالم تجديد زاوية النظر إلى مفهومه، بعدما قبع زمنا غير يسير في قوالب المنطق وجدليات الحدود الذاتية عند السابقين، دون تبيُّنٍ يذكر لمادته المتمثلة في جملة النعم والآلاء الكونية في الوجود. إذ من خلال هذه العلاقة التلازمية بين المفهوم والحقيقة، أو بين الصورة ومادتها سوف يبني أبو إسحاق قضاياه التجديدية في المصطلح، ويرصد طبيعته التكاملية الماثلة في كونه منهج بحث يصل الأرض بالسماء، ويؤلف بين واقع الأشياء في الوجود وأصلها الرباني في الغيب.

فما حقيقة المباح المعرفية عند الشاطبي؟ وما طبيعته التربوية الصوفية؟ وكيف تفتقت عنها تجليات تناغم الإنسان مع الكون والكائنات أو نظرية الجمال التعبدي؟

إن طبيعة المباح في مدرسة أبي إسحاق الأصولية منطوية على أسرار علمية وكونية هي المحرك لمحور الجمال فيها. فصارت بذلك قمينة بأن تُكَوِّنَ حقيقته المعرفية في المطالب الأصولية. يدل على ذلك أمران في المفهوم: لأنه إما “ليس مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب”[22]، وتلك حقيقته الجزئية إذا تجرد عن القرائن الخارجية، بحيث يعد فاصلا برزخيا بين الواجب والحرام وما يرجع إليهما، لأنه مركز البؤرة وميزان الأحكام، فلا يبغي بعضها على بعض.

وإما مطلوب طلب العزائم الكلية والمقاصد الأصلية لأنه خادم لها بوظيفته، حينئذ يتفرع إلى نوعين تحتهما أصناف. ثم يؤول الجميع في النهاية إلى تشكيل شجرة متداخلة الأغصان متباينة الفروع، من خلالها تتكشف حقيقَتُهُ سافرة عن كل تلك الأسرار:نظرية المعرفة عند الشاطبي: دراسة في منهج تكامل العلوم وتداخلها.. قضايا ونماذج

 فهو شبكة ذات أصول وفروع يتداخل فيها التربوي الصوفي مع الفقهي الأصولي ويمتد الجميع ليشكل مائدة من الجمل التعبدي في شعور المكلف إذا طبع قلبه بنوع من الصفاء والإخلاص.

 وقبل تشريح هذه المنظومة الجمالية فيه لا بأس أن نمهد بعرض القوانين الكلية العلمية والوجودية التي تحكم هذه الشبكة وتلخص وظيفة الإنسان التعبدية تجاه الكون والكائنات وهي على التوالي:

ـ الكون؛ مرآة يعكس جمال الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقناته المؤدية إليه في وجدان المكلف هي: التوحيد.

ـ الكون؛ منظومة من النعم والطيبات منصوبة للتناول والاستمتاع وقناته المؤدية إليه في الوجدان هي: الشكر.

ـ الكون؛ زينة دنيوية فانية، وترسانة من الشهوات والملاهي، وقناته المؤدية إليه في الوجدان: الزهد والورع.

هذه هي أمهات أصول الأخلاق عند نظار التربية والتصوف سلبا وإيجابا، تحلية وتخلية؛ أقصد أن التوحيد والشكر هما مبدأ التحلية إيجابا، والزهد والورع هما مبدأ التخلية سلبا ودفعا. وإنه لمن العجب أن نجد هذه الكليات هي مبدأ حراك نوعي الجمال معا عند أبي إسحاق، ذلك لأن صورة النعم والكائنات في الوجود يحكمها نوعان من الجمال؛ أحدهما ابتلائي يشمل جميع النعم والآخر تعبدي مرتبط بالشكر والتوحيد. وهذه خلاصة لهما لتمهيد المقصود:

أ. جمال التكوين (أو الجمال الابتلائي)

جمال التكوين هو جملة النعم أو أسباب الزينة التكوينية الابتلائية الموضوعة سببا للاستمتاع على الإطلاق، بناء على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحانا لهم، فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة”[23]. فهو من المصالح المطلقة الراجعة إلى قصد الشارع الابتدائي قبل تصرف المكلف، كما سوف يأتي مع أبي إسحاق، لكنه مسيج بغطاء مشيئة الله في خلقه بقصد ابتلائهم واختبارهم قضاء وقدرا. فعلى هذا النوع من الجمال وضعت أصول النعم في الكون ابتداء؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الكهف: 7). وقال سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾ (آل عمران: 14). وقال جل وعلا: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ (الكهف: 46). وقال أيضا: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ (الملك: 5). وقال أيضا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 32).

فهذه الآيات وغيرها مما شاكلها؛ تفيد أن هذه الزينة إنما وضعت للناس، جميع الناس، فلا يتعلق بها مدح أو ذم من حيث هي كذلك قبل التكليف بمقتضياتها ولوازمها الراجعة إلى قانون الانتساب الإيماني، وإن تعلق بها شيء من ذلك؛ فهو تعلق عام وليس خاصا. قال ابن القيم في تعليقه على الآيات: “فأخبر سبحانه عن خلق العالم، والموت والحياة، وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء”[24].

وقال سيد قطب مقررا هذه الحقيقة: “ونظرة إلى السماء كافية لإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء الكون، وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي، وأن تصميمه قائم على جمال التكوين”[25]. ثم لأن الجمال التكويني لابد وأن تكون أشياؤه التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم[26].

يقول الدكتور توحيد الزهيري في تعليقه على آية الزينة السالفة في سورة الكهف: “بنص هذه الآية نعلم أن الجمال الذي تبديه الأشياء هو حقيقة موضوعية توجد خارج النفس الإنسانية، وتستند إلى عمل الهي هو “التزيين”. والغاية منه هو الابتلاء”[27].

كل هذه النصوص ناطقة بالمراد، مفيدة أن الجمال الابتلائي التكويني إنما هو جذوة من الكلمات التكوينية، والمشيئة القدرية التي رسمت مقادير المخلوقات فقدرتها تقديرا، ثم شخصتها في الوجود لتكون كالدال على مكونها وخالقها قبل تصرف المكلف فيها. أما بعد ذلك التصرف؛ فلابد من استتباع تكليف يجر مسؤولية واختيارا جراء فعل العبد تجاهها، فإن كان فعلا إيجابيا محمودا ترتب عليه جمال تكليفي تعبدي، وهو في:

ب. جمال التكليف (أو الجمال التعبدي)

ينفرد الجمال التكليفي التعبدي عن عديله السابق بميزتين متلازمتين:

أولاهما؛ كونه قبساً من منظومة التكليف والاختيار عموما، حيث يوجد المدح والذم والحسن والقبح والثواب والعقاب، فلا خلاف في كون هذه المتقابلات إنما هي من لوازم الاختيار التعبدي عند المكلف، حيث يخرج من كونه عبدا مخلوقا، قهرا واضطرارا، إلى كونه مكلفا مسؤولا طوعا واختيارا، فلا يبقى كالبهيمة المسيبة تسترسل في نيل لذاتها واقتناص شهواتها دون داع يقيد أو حامل يزع عن الوقوع في المحظور! ومجموع ذلك كله هو قصد الشارع العام من وضع الشريعة، كما قال أبو إسحاق: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة؛ إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا”[28].

والثاني؛ أنه متصل بالعبد نابع من مشكاة الروح والوجدان المستقرة في قلبه في حال إيمانه، مستنده قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ (الحجرات: 7). إذ ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذا التزيين نفسي متصل كما سطره الراغب[29]، فخالف بذلك الجمال الابتلائي المنفصل؛ لارتباطه بأصول النعم المنصوبة في الكون لابتلاء المكلف: أيشكر أم يكون من الجاحدين! لكن يبقى الإشكال في قنواته الحاملة له المجسدة لمقتضياته في السلوك بعد ثبوت أصله في الباطن: ما هي؟

إن نظرة خاطفة إلى تواليف نظار التربية والسلوك توحي قطعا بوجود مفاهيم تداولية ضاربة بعمقها في صلب الجمال والحسن، غير أنها فروع عن زينة أصل الإيمان المستقر في الباطن، فكانت بالنسبة إلية منازل وقواعد تُظهر حقيقته في الخارج كشأن الجزئيات مع كليها الناظم لها عند المناطقة، حيث لا يتشخص ولا يتجسد إلا بها وفيها. وذلك مثل الصدق والإخلاص والتوحيد والشكر والحمد والرفق واللين والرحمة والتودد وصلة الأرحام وحسن الجوار… وغيرها من مكارم الأخلاق، مما تتواضع عليه العقول السليمة والفطر الصحيحة الراجعة إلى “التلبس من كل ما هو معروف من محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات”[30].

بيد أن، هاهنا، إشارة؛ وذلك أن لهذه العزائم الجمالية كلياتٍ عليا هي الممثلة لقناة الجمال التعبدي في التصور الإسلامي، تتمثل في الحمد والشكر والتوحيد. وإن كان الجميع ينضوي تحت حقيقة منازل الإيمان أو “عمومات العزائم” إلا أن لهذه، دون الباقي، خصوصيةً جماليةً في نفس الخصوص، تظهر في كونها النافذة الأولى التي يطل منها العبد بقلبه على منظومة زينة الإيمان التي يقع فيها الحراك الجمالي الخاص، حيث التفاعل مع النعم الكونية الخارجية كما سيأتي مع أبي إسحاق. ومن هنا أيضا كان حدها الاصطلاحي عند العلماء قد روعي فيه التداخل الاصطلاحي والمفهومي مع الحقيقة الجمالية عموما، كما يظهر من تعريف ابن القيم، حيث جُعِل كلٌّ من الشكر والحمد من أفرادها عنده. وكذلك الشوكاني، وكل من سار على دربهما في تذوق حقيقة المفهومين، ومقاصدها الجمالية.

 يقول الثاني في تعريف الحمد: هو “الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم”[31]، فالحمد هو مركز بؤرة هذا النوع من الجمال وقطب رحاه، وإليه ترجع جميع تجلياته، فلا يزال العبد من خلاله يترقى كما قال ابن القيم: “من معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن، هاهنا، يتبين أنه سبحانه له الحمد كله”[32].

هل رأيت هذا الاستحواذ الشامل على معاني صفات الله وذاته وأفعاله سبحانه؟ كذلك كانت حقيقة منزلة الحمد وأسرارها التعبدية في وجدان العبد، حتى إذا انتقل إلى الثناء والشكر على صانع المخلوقات ومنعم النعم الكونية؛ صار جامعا في الباطن بين الحسنيين، جالبا للمحبة الإلهية من خلال القناتين. يسترسل ابن القيم في نفس السياق: “فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن”[33]. والمعنيان معا سوف ينظمهما كلي التوحيد عند الشاطبي، كما سيظهر في المباح قريبا. ثم بعد ذلك تأتي تجليات العمران الجمالية في الخارج بحسب ما تمليه عليها صفاتها الجمالية وعناصرها الشعورية في الباطن.

إن الجمال الكوني مبعث شعوري للجمال التعبدي، وهذا مدلول له والآخر دليل عليه في معادلة جمالية متبادلة الطرفين طردا وعكسا في حركة العبد ومقاصدها التعبدية.

خلاصة الأمر المجزئة في السياق: أن إدراك الجمال الكوني إنما تكفي فيه الفطرة فقط؛ لأن أسبابه موضوعة بالقصد الابتدائي، كما قلنا قبل، لاستدعاء متعة الناس من حيث هم كذلك على الإطلاق. وأما التعبدي فهو ذوقي انفعالي خاص تالٍ للأول لابد فيه من الخضوع لمبادئ التكليف؛ لأن الفطرة فيه قد تضعف عن معرفة الأسباب والشروط المقتضية له وكذا الموانع العارضة فيه لقصد الشارع. ومن هنا سقط تذوق غير المسلم للصور التشكيلية في مهاوي الاستصنام التألهي للمخلوقات تارة، ولشهوات “الليبيدو” تارة أخرى! وقد نظمت الآية الكريمة: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ (الأعراف: 30)؛ النوعين معا. هذا عموما فكيف انسرح ذلك إلى المباح بنوعيه لدى الشاطبي؟

في المباح الوارد تخيرا

أما النوع الأول، وهو الراجع إلى التخيير، فهو من جملة النعم التي “امتن الله بها على عباده[34] وجعلهاحجة على الخلق”[35]. ومعنى ذلك أن هذه النعم إنما وضعت للعباد للاستمتاع بها، من حيث هم عباد، على الإطلاق إذا أخذت بحقها. وهي حجة عليهم، في الآن نفسه، لأنها حقائق ابتلائية وكلمات أزلية تصرفت في الخارج في شكل دلائل عينية برهانية شاهدة عليهم. وقد نبهت الآية الكريمة في سورة الأعراف إلى المعنيين معا، فقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الأعراف: 30).

فهذه الزينة المنطوق بها إنما تعلقت بجميع العباد في الدنيا، من حيث هم كذلك، فلما دخلت معرض الثواب والعقاب الراجعين إلى أصل التكليف؛ أخبر سبحانه أنها خالصة للذين آمنوا، لأنهم أخذوها من جهة القصد من وضعها. فلذلك أنكر سبحانه كما قال الشاطبي الإمام: “على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم. فقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ(الأعراف: 30)؛ أي خلقت لأجلهم ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الأعراف: 32) لا تباعة فيها ولا إثم”[36]. ذلك لما ترتب عليها من شكر وتوحيد وإيمان، هي كليات شكلت محض الجمال التعبدي الخالص فيها. وأما جمالها قبل خلوصها وتمحضها؛ فهو جمال كوني مشترك بين الناس كافرهم ومؤمنهم، فكانت طبيعته ابتلائية محضة.

فالنعم في حقيقتها الابتدائية إنما هي هدايا للعبد، وضعت على نهج الشكر الذي يقود إلى المنعم، وبه كانت هدايا، غير أنها مشوبة بابتلاء، ومتى كفرها العبد ولم يشكر؛ كان رادا لهدية الله. “وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟! هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع، بل قصد المهدي أن تقبل هديته. وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه، فليقبل ثم ليشكر له عليها[37]. وإن كان الجميع مقهورا تحت سلطة القدر، لأنه هو الحاكم في نهاية المطاف عليها. يقول في هذا المقام: “فإذا جَرَتْ؛ (أي النعم) في التكليف بحسب المشروع؛ فذلك هو الشكر وهو جريها على ما وضعت أولا، وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران، ومن ثم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف. وكل بقضاء الله وقدره”[38].

 إن أصول النعم عند أبي إسحاق إذا ارتبطت بحقيقة الجمال، صار لها ثلاث محطات أساسية في الوجود:

أولاها؛ جنس النعم الخارجية الماثلة في الكون (أو الجمال الابتلائي).

الثانية؛ حركة الانفعال الناتجة عن التأثر الوجداني بتلك النعم (أو الجمال التعبدي).

الثالثة؛ الترجمة الفعلية التي تثيرها حركة الانفعال الوجدانية وهي علة مؤثرة فيها (أو الترجمة الخارجية للجمال التعبدي).

فأما الأولى؛ فهي حقيقة الجمال الابتلائي القدري الراجع إلى أجناس النعم والآلاء المعرفة بالجمال السرمدي المطلق الذي تتصف به الذات الإلهية قبل تصرف المكلف في تلك النعم. قال أبو إسحاق: “فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق”[39].

 ومن هنا كانت “جهة الامتنان لا تزول أصلا”[40]، فهي دائمة الاسترسال على العبد دون انقطاع إلا أن يتصرف فيها بالمخالفة كما قال: “فإذا تأملت الحالة وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم، لا أنفس النعم، إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت من تلك الجهة”[41]. لكنها، مع كل ذلك، قبل تناولها في إطارها الإيماني، وجمالها التعبدي الذي تلوح إليه، وجعلت بالقصد الأصلي من أجله، ابتلاء.

وأما الثانية؛ فترجع حقيقتها إلى الجمال التكليفي التعبدي اللازم عن أصل الإيمان وتزيينه في قلب المؤمن، كما سبق، فنِعَمُ المباح إنما وضعت بالأصالة لخدمة هذا النوع من الجمال المحبوب من الرب قطعا، والآخر جُعِلَ في خدمته. قال مشيرا إلى ذلك: “ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟…

 وأيضا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور، لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور، حتى إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة والأنوار الشارحة للصدور ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء، حتى يكون سببا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها”[42].

إذ هذه الأنوار الشارحة للصدور، واللذات القائمة بها إنما هي جداول جمالية تفجرت من معين زينة الإيمان المترتبة على شكر تلك “الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا”. فهي جدلية مستمرة بين جمال النعم الخارجية الوجودية الموضوعة نصب عين المكلف للتمتع والتناول، وبين زينة الشكر على تلك النعم نفسها جراء الإيمان بالمنعم بها. وبذلك اكتسبت هذه المحطة قوتها في تشكيل نظرية فقه الجمال عند الشاطبي وصارت هي العمود الفقري لجسمها.

وأما الثالثة؛ فتابعة للثانية من حيث إنها ترجمتها الفعلية في الخارج وتمثيل مادي عمراني لرمزيتها في أعماق وجدان المسلم. فدخل في معناها والمقالة للشاطبي: “زينة لباس المؤمن كما قال، صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال”[43] بعد قول الرجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة”[44]، إذا قصر الحديث على سبب وروده، وقد ورد في اللباس[45]، وإنما صيغ على هذه الصورة الكلية جوابا عن سؤال جزئي؛ لإظهار أن من صفات الرب جل وعلا الجمال، فيحب من يتصف بها من عباده تقربا إليه وطاعة. فكانت الكلية[46] بقصد استرسالها على جميع الجزئيات الداخلة تحتها بالقوة، وإن كانت غير منطوق بها في السؤال بالفعل؛ من أجل تفادي توهم النقيض في معرض البيان. وهذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم في سياق آخر إذ سئل عن ماء البحر فقال: “هو الطهور ماؤه الحل ميتته”[47]. ومثله كثير خارج عن مقامنا.

فجمال المباح، إذن، بمعناه الخاص بالمحطة الثالثة، فرد من ماصدقاته الوجودية، فيكون حكمه “ليس مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب”[48]. وقد نص على ذلك حيث قال: “وأيضا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول؛ (أي المباح المخير فيه) لأنه خادم له، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ﴾ (الأعراف: 30)”[49].

 فإذا تعلق بخدمة المقاصد الكلية الكبرى صار مطلوب الفعل ندبا مكملا لما هو أقوى منه في التشريع. قال في ذات المقام: “فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن، مثلا، مباح اللبس قد استوى في نظر الشارع فعله وتركه، فلا قصد له في أحد الأمرين. وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك. وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد ومُوَارٍ للسوأة وجمال في النظر مطلوب. وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين، ولا بهذا الوقت المعين، فهو نظر بالكل لا بالجزء[50].

ومن هنا كان تركه باعتبار كليته مكروها بمعيار الدوام على الترك، أو الشمول “فلو ترك جملة لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه. ففي الحديث: “إذا أو سع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده”. وقوله في الآخر حين حسن من هيئته: “أليس هذا أحسن؟”. وقوله: “إن الله جميل يحب الجمال” بعد قول الرجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، وكثير من ذلك. وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها”[51].

المباح المرفوع الحرج عن فعله

أما النوع الثاني وهو المباح المطلوب الترك بالكل؛ فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا، بل هو مسكوت عنه أو مشار إليه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح، كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها”[52]؛ أي أن إباحته بالعرض واللزوم وليست ذاتية كما الأول، لأن حقيقته لهو ولعب، فلا يستحق تلك المرتبة في مملكة الله عموما ولا في إنسانية الإنسان! وإنما عرض له ذلك عفوا ورفعا للحرج عن الخلق. فلا علاقة له إذن بالطيبات وأصول النعم والامتنان الخادمة لكليات المقاصد الضرورية، إذ تحف من حولها وتطوف بها تكميلا وتزيينا كما هي وظيفة الأول.

 ومن ثم لا علاقة له بالجمال والحسن. يقول أبو إسحاق: “إن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا، فحصلت المنة بها من تلك الجهة، ولا تجد للهو أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق، وإنما هي مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة، ألا ترى إلى قوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الْأَعْرَافِ: 30)”[53]. فالحسن والجمال متوقف على ما ترى من مختلف أصناف النعم الممتن بها في الوجود، والتي رسخت في طباع البشر لتحصيل التوافق بين الطبيعة والكون، حتى يستتب جريان قانون الاستخلاف في الخليقة. وهذا الصنف من المباح نابٍ عن تحقيق هذه الأسرار، بخلاف النوع الأول الذي وضع على تلك الشاكلة، حيث ملاءمته للفطر والسجايا. والتفصيل فيه في:

المباح قناة فطرية للتعريف بالصانع والتعرف عليه

تلك حقيقة المباح (المخير فيه) عند أرباب الذوق، أعني أن جمالية أصول النعم فيه، المتمثلة في “التزيين في الصنعة؛ من أهم المقاصد المهمة المعرفة بالصانع، ومن أشف مرايا التودد والتعرف، ومن ألطف عنوانات التحبب”[54]. فكان من المقاصد الإلهية الكلية في مملكة الخلق؛ أَنْ “يُعَرِّفَ الخلائِقَ قدرتَهُ، ويتعرفَ متوددا إلى عباده بتزيينات مصنوعاته”[55].

كذلك كان شأنه عند أبي إسحاق؛ إذ له تجليان بناء على ما سبق من قوانين كونية: فهو:

أولا؛ إما قناة فطرية وجدانية لمعرفة الصانع المتجلي في مصنوعاته، “وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه، وصنعة يستدل بها على ما وراءها”[56]. قال: “إن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابا خلقـا واختراعـا، فحصلت المنة بها من تلك الجهة… ألا ترى إلى قوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 30)”[57].

ثانيا؛ وإما نافذة إلى عالم النفس؛ لأنه يحملها على رصد أفعالها ومتابعتها تجاه النعم المبثوثة في الكون والدخول في زمرة المسبحين الشاكرين الحامدين، ومتعلَّقُه أيضا “العالم كله من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار، ومن حيث هو مسخر لهم ومنقاد لما يريدون فيه”[58]. قال: “ألا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود، لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم… ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر”[59].

إن ما جبل عليه الإنسان من حب روضات الدنيا الخضراء، وبساتينها الجميلة، ومصابيح السماء النورانية، وما تعكسه على الأرض من جمال وجلال، وما بث في هذه من طيبات للتناول وأزاهير قزحية للزينة والتجمل.. إنما هو مبعث استجاشة لتدبر القلب وتحركه السريع تجاه صانع هذه المصنوعات، لأن جمال الصنعة وكمالها فيض رحماني من جمال صانعها وكماله، ولأننا إنما “نستدل بكمال الصنعة على كمال الصانع”[60] بتعبير صاحبنا. وتلك هي فلسفة الإسلام تجاه الكون والكائنات، فلا جرم كان محتوى هذه الفلسفة عند النظار إنما هو “النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع (…) فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت معرفتها بصنعتها أتم؛ كانت المعرفة بالصانع أتم” [61].

فكان من لزوم تلك النعم للمنعم بها؛ ما لا يخفى، جريا على أصل أبي إسحاق في نظرية التعريف المبنية على لزوم الدليل للمدلول والعلم للعمل. لأن تلك المخلوقات، المصاغة في جملة النعم، دالة لزوما على خالقها، فكانت بذلك معرفةً به. قال ابن تيمية يشير إلى ذلك أيضا: “المخلوقات دالة على خالقها سبحانه وتعالى، فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه”[62].

يمكن، إذن، إرجاع دلالات الكائنات على صانعها عند إمامنا إلى: “أولا؛ بما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلى وعلى الدار الآخرة. ثانيا؛ أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده”[63]. فالأولى تلمع بنور التوحيد والثانية مقهورة تحت وازع الشكر.

فلا عجب، إذن، أن نجد الشكر، وكما سقناه لابن القيم سابقا، عند أبي إسحاق؛ جمالا باطنا وانخراطا في سلك التوحيد بالكلية، كما يدل عليه قوله إجمالا: “والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم[64]: “حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا”[65].

فالشكر، هنا، إنما هو بمعناه العام المفضي إلى الدخول في التوحيد أو الإيمان، من هنا قرن بينهما في النص على الإجمال. لكنه فصل في نص آخر ما أجمله هناك بقوله: “تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه، إما في جهة تناوله واكتسابه، وإما في جهة الاستعانة به على التكليفات. فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به؛ فقد شكر نعم الله. وفي ذلك قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأعراف: 30)”[66].

فأنت ترى، إذا نظم النصان معا في سلك واحد، مناسبة الشكر والتوحيد، باعتبارهما القناة الأساسية في الوجدان للجمال التعبدي، للاستمتاع بالزينة الكونية، حيث تشير إليها الآية، الراجعة إلى الجمال الابتلائي القدري، وخضوعهما في شعور العبد لنسق واحد.

وللأستاذ سعيد النورسي في هذا المقام إشراقات لطيفة تزيد في تجلية هذه الحقيقة، قال: “إن ثمرة واحدة، وزهرة واحدة، وضياء واحدا، كل منها يعكس، كالمرآة الصغيرة، رزقا بسيطا ونعمة جزئية وإحسانا بسيطا، ولكن بسر التوحيد تتكاثف تلك المرايا الصغيرة مع مثيلاتها مباشرة ويتصل بعضها بالبعض الآخر، حتى يصبح ذلك النوع مرآة واسعة كبيرة جدا تعكس ضربا من جمال إلهي يتجلى تجليا خاصا بذلك النوع، فيظهر سر التوحيد جمالا سرمديا باقيا من خلال ذلك الجمال الفاني المؤقت… بينما إن لم ينظر إلى ذلك الجمال بنظر التوحيد، أي لولا سر التوحيد؛ لظلت تلك الثمرة الجزئية سائبة وحيدة فريدة معزولة عن مثيلاتها؛ فلا يظهر ذلك الجمال المقدس ولا يبين ذلك الكمال الرفيع، بل تنكسف حتى تلك اللمعة الجزئية المتعلقة منها وتضيع وتنتكس منقلبة على عقبيها من نفاسة الألماس الثمين إلى خساسة قِطَعِ الزجاج المنكسر”[67].

فالتوحيد، بما هو كلي معنوي مستفاد من حقيقة النعم ووظيفتها، وليس من هياكلها المادية، هو المقصود ابتداء من تلك النعم والآلاء المتجسدة في تلك الهياكل. فهو جمال تعبدي باطن يترجمه جمال تلك النعم الراجعة إلى المشيئة الخلقية القدرية الحاكمة على الجميع في الخلق. قال أبو إسحاق يسرح في المساق نفسه، مقررا أن الدنيا “براهين على وجود الباري ووحدانيته واتّصافه بصفات الكمال، وعلى أن الآخرة حقّ؛ فهي مرآة يرى فيها الحقّ”[68].

إن المرآة/الدنيا هنا؛ إنما هي أداة عاكسة لجمال الأسماء الحسنى وكمال الصفات العلا، وما المخلوقات، في تناسقها وحراكها المستمر، إلا نقوش ومرصعات لتلك الأسماء والصفات، الناطقة بكلية التوحيد العليا المطلقة حيث يوجد الكمال المطلق. فلهذا كان مبدأ لا متناهيا وإن تناهت تلك الأشباح الدنيوية المعرفة به بجسومها، إذ تذوب الجسوم وتنساب الأرواح في سيرورة دائمة، وذلك هو مناط تلاقي الدنيا بالآخرة كما قال:”وهذا لا تنفصل الدنيا فيه من الآخرة”[69].

يسترسل أبو إسحاق في السياق نفسه: “فالحاصل أن ما بث فيها؛ [أي الدنيا] من النعم الذي وضعت عنوانا عليه، كجعل اللفظ دليلا على المعنى، باقٍ وإن فني العنوان”[70]. وإنما الذي وضعت عنوانا عليه هو التوحيد، وهو جمال مسترسل لا يفنى، يدل عليه جمال النعم الكونية الذي عما قريب سيفنى دونه كفناء الرسم دون الروح. وإنما جعل هذا لخدمة ذاك وتخليصه من الكدرات التي تَعْلَقُ به في الدنيا والآخرة. قال، في سياق المقابلة بين النوعين بعد سرده لآيات الزينة والجمال: “فامتن تعالى وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة، وهو الذي ذم به الدنيا في قوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَاد﴾ (الحديد: 19)… بل حين عرف بنعم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا… وهو كثير. فأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لنا من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات”[71].

فهذه النعم بدون خضوع لقوانين الامتثال التكليفي التعبدي تصير أشباحا بلا أرواح، ورسوما بلا عنوان، يترجم حقيقتها ووظيفتها ويضفي عليها جمالها ورونقها. أو بعبارة العلامة النورسي سابقا “تنتكس منقلبة على عقبها من نفاسة الألماس الثمين إلى خساسة قِطَعِ الزجاجِ المنكسر”.

وبذلك يُوَّفَقُ بين ذم الدنيا ومدحها، وأن ذلك راجع إلى تباين الاعتبارين فيها، فيحصل التناغم بين الكليتين، ويستتب استمرار الحقيقة الجمالية في النوعين: جمال هو قرين اللهو واللعب لأنه دنيوي مشترك، وجمال أخروي خالص متوقف على التكليف والتعبد.

إن حركة النعم في المباح المنيرة لمسلك كلي التوحيد في حقائقها الوظيفية الوجودية؛ تجعل الطبيعة في صيرورة دائمة وتحولٍ مستمر من جسم آلي جامد إلى شريعة فطرية إلهية، تتعلق تعلقا متواصلا بأحوال الكائنات فيها. من هنا كان جمال هذه النعم مرآة عاكسة لجمال الأسماء الحسنى والصفات العلا، باعتبارها مدخل التعريف بالخالق ربا وإلها[72]، أو هو جذوة منه؛ وجود الأول رهين بوجود هذا الثاني دون العكس، إذ هو المقصود وليس الآخر.

ومن هنا أيضا كانت حقيقة التوحيد الناظم لحقيقتي الحمد والشكر، من بين منازل الإيمان، في قلب المؤمن؛ هي المترجم الحقيقي عن ذلك الجمال المطلق الذي لا ينتهي، حيث تنتهي تلك النعم الكونية الابتلائية المعرفة به، كما لا ينتهي نور الشمس إذا انتهت المرآة العاكسة لتجلياته في زاوية من الكون وانكسرت. وهذا سر الفرق بين الجمالين: التعبدي التكليفي المقيد، والابتلائي التكويني الزائل.

وبالجملة فإن العلاقة بين المباح، بما هو حكم شرعي، والتوحيد، بما هو أصل عقدي ناظم لحقيقتي الشكر والحمد في فكر أبي إسحاق، علاقة تلازمية؛ فتنطلق من الأول وظيفة خادمة، وتنتهي إلى الثاني مقصدا وغاية. وهذا تجلي من تجليات قوله: “إن نسبة أصول الفقه من الشريعة كنسبة أصول الدين”[73]. وقوله: “إن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية”[74].

ويبقى المباح (المرفوع الحرج) دالا على رحمة الله وعفوه، لأن أصله النهي؛ (أي حقيقته الكلية المقاصدية)، وأي خير في المداومة على سماع الغناء (الجائز) وتغريد العصافير والتعاطي لمختلف أصناف اللهو واللعب؛ سوى هدم الكليات ونقض الضروريات، والانتساب إلى حظيرة الحمقى والمغفلين؟! لأن النظر إلى الكون، بهذا الاعتبار، إنما هو “نظر مجرد من الحكمة الّتي وضعت لها الدّنيا من كونها متعرّفا للحقّ، ومستحقا لشكر الواضع لها، بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا لذّات، ومآلا للشّهوات، انتظاما في سلك البهائم؛ فظاهر أَنَها من هذه الجهة قشر بلا لُبّ، ولعب بلا جدّ، (…) وهو نظر الكفار الَّذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنَّها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به، ولذلك صارت أعمالهم: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ (النُّورِ: 38)”[75].

لكن مصادفة بعض من ذلك في بعض أوقات العمر، كما تقر به مجاري العادات، دون تعود؛ هو أمر لا يضر المكلف ولا يلحقه بسببه ذنب ولا نقيصة، وهذا معنى كونه “مباحا بالجزء منهيا عنه بالكل كراهة أو تحريما”[76]. فإذا أخذه العبد مأخذ المتلهف على الدنيا وزهرتها وبهجتها، وعود نفسه على تعاطيه، وحملها على اللهو واللعب بعيدا عن سبيل الجد والنصب؛ دخل بذلك في زمرة من كان قد تخلى عن عبادة الرب، وهي وظيفته الوجودية وسر مقصد استخلاف الله تعالى له في الكون.

من هنا نفهم سر توسيع الشاطبي أصل المباح ومجاريه ليحتضن جميع تلك المعاني، وأن ذلك إنما كان بقصد الانتقال من ضيق المفهوم وجزئية نصيته، إلى امتداده الغيبي وحركته في الوجود، استجابة ًلنسقية الكليات القرآنية في ربط الفعل البشري بقانون الاستخلاف.

2. كلي الاعتبار: أو نظرية التفسير الصوفي الإشاري

ضوابط التفسير الإشاري الباطني

إن الناظر في مجموع ما أنتجه نظار القرآن والتفسير من مرويات ومتون؛ يحصل له قطعا الإشكال فِي عَدِّ كون التفسير علما تحكمه كليات وأصول منظمة للمجال، نظرا لاختلاف قواعده وعدم وجود رابط منهجي يَلم شتاتها ويوحد بينها! وهذا الذي جعل بعض النظار قديما يسوق كتابا لهذا الغرض مستشعرا خطورة الإشكال[77].

 من خضم هذا الإشكال خرجت محاولتنا هاته للكشف عن دفائن أبي إسحاق في التأصيل لأصول العلم، وبيان معالم منهجه في تركيب قواعده، جريا على مبدئه المنهجي القاضي بتكامل العلوم الشرعية وتداخلها تداخلاً نسقياً منتجا لفروع فقهية أو آداب شرعية مناطها التصوف أو التفسير. وهما على كل حال علمان متساوقان مآلهما واحد هو إنتاج حكم عملي أو أصل علمي.

وإن نظرية التفسير الإشاري إنما أذكرها البحث في الكليات عند أبي إسحاق وترتبت عليه. فهي فرع عن نظرية التفسير عموما. وكلا النظريتين ثَمَرة أثمرتها شجرة الكلي المتحدة ذات الفروع العلمية المتنوعة، بيد أنها سقيت عنده بماء القرآن الواحد غير المتعدد لأنه “كلية الشريعة “[78] و”العالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة”[79]، فمنه تفرعت سائر العلوم بكلياتها. وهاهنا تأطر عنده البحث في التفسير عموما والإشاري منه على جهة الخصوص.

بيد أن ما يصادف المتأمل في منهج طرق أبي إسحاق لهذه النظرية هو تداخل العلم بالعمل والقرآن بالوجود في تأصيل النظرية وربطها بقواعد قادرة على إخراجها من “زئبقيتها” وعدم انضباطها في السلوك إلى “صلبيتها” وانضباطها في الأصول. ما يؤهلها لتكون أنموذجا آخر وصورة جلية لتكامل كليات القرآن بمواقع الوجود. قال الغزالي يشيد بهذا الفن في سياق تصنيفه للعلوم والتعريض بالتفسير الظاهري:”علمُ التفسير الظاهر، وهو الطبقة الأخيرة من الصَّدفة القريبة من مُمَاسَّة الدُّرّ، ولذلك يشتد به شَبَهُهُ حتى يظن الظَانُّون أنه الدُّرّ وليس وراءَه أنفسُ منه، وبه قنع أكثر الخلق، وما أعظمَ غُبْنَهُم وحِرمانَهم، إذ ظنوا أنه لا رتبة وراء رُتبتهم!”[80].

 وإنما الدر عنده هو التفسير الإشاري مُعتَمَدُ أهل التزكية والسلوك، والغزالي من فحولهم، وقد أشاد به الشاطبي فيما يأتي من النصوص، بل استند إليه في التنظير لقاعدة الاعتبار، التي هي المترجم المفهومي لهذا النوع من التفسير عنده،كما سيظهر قريبا.

ولما كان للتفسير عنده مجموعة من الضوابط حتى يغدو مقبولا في ميزان الكليات، وكان التفسير الإشاري نوعا من جنس االتفسير عموما؛ كان لا جرم خاضعا لها هو بدوره خضوع الجزئي لضوابط الكلي. وهي:

الضابط الأول: موافقة اللسان العربي وتحقيق القطع في الأصل

أما موافقة اللسان فبين شرطها من قوله: “كُلُّ معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به”[81].

فهذه كلية تقعيدية لقصد الموافقة للسان؛ ساقها في مقام التأصيل للنظرية، فلهذا شملت عنده القوانين المفسِّرة كما المعاني المفسَّرة، تماما كما يلمح إليه في آخر القولة. فكل ما خرج عن منظومة اللسان في صبغته الفطرية؛ فقد خفت موازينه ولم ترجح كفته في ميزان النظر القرآني، إذ ليس يُعتمد عليه معياراً للتفسير، ولا قانونا للاستنباط، ولا مدلولا لدليله صالحا للتخلق بمضمونه.

 وكل ذلك فرع عن أصل أمية الشريعة عنده وفطريتها تبعا لأهلها. قال في موضع آخر يؤكد هذه الحيثية: “وكون الباطن هو المراد من الخطاب؛ قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها، ولكن يشترط فيه شرطان: أحدهما؛ أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية. والثاني؛ أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض”[82].

وأما شرط القطع فقد قال يؤكد على استحضاره في أحد السياقات: “وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه. فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فُسِّرَ؛ فصحيح ولا نزاع فيه. وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم، فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى؛ لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب فلا يكون ظنيا”[83]. فلابد من شرط تحقيق القطع في الأصل كما ترى. وهذا من لوازم مفهوم الأصول/الكليات عنده، في أي ِّإطاراتِ المعرفة وظفت، ومن جملتها التفسير الإشاري وهو المطلوب.

الضابط الثاني: تحرير المفهوم وتقعيده

أقصد بيان المفهومين المركزيين اللذين لاح منهما الإشكال الاصطلاحي، حتى يتميزا عند الناظر في التفسير عموما والإشاري منه على الخصوص، وهما: الظاهر والباطن.

أ. مفهوم الظاهر

قال يحرره ويقعد له: “فكُلُّ ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها؛ فهو داخل تحت الظاهر”[84]. إنها كلية تعريفية أخرى ساقها لتحديد المفهوم وتأطيره كليا وبيان العلوم التي يحتضنها، مما يدخل تحت مفهومه من بين المعاني الشرعية. ثم قال يجليه أكثر بعد سرد أمثلة توضح حقيقته: “فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا مَعْدِل بها عن ظاهر القرآن… فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي؛ فقد حصل فهم ظاهر القرآن. ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة”[85]. ومن ثم فإن “من ليس له أصالة في اللسان العربي فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه”[86].

ب. مفهوم الباطن

على شاكلة نظيره سار في التقعيد لمفهوم الباطن. قال: “وكُلُّ ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله”[87].

فهذا تعريف مجمل؛ إذ دخول العبد تحت رِقِّ العبودية والإقرار لله بالربوبية؛ هو مقصد أعلى للشريعة الإسلامية وغاية عامة لقانون الاستخلاف. وإنما ساقه هنا ليرتب عليه ما هو أخص منه في التعريف بالباطن، حيث يقرب المفهوم من حقيقة التفسير الإشاري، الذي هو المراد دون غيره من معاني التأويل الباطني. فكأن التعريف توطئة للنعي على الباطنية، فضلاً عن كونه تمهيدا للوصول إلى المقصود تحديدا. ثم ساق جملة أمثلة تقرب حقيقته للناظر، ثم قال مجملا معناه ومشيدا باعتباره: “وعلى الجملة؛ فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم؛ فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما. وكل من أصاب الحق وصادف الصواب؛ فبمقدار ما حصل له من فهم باطنه”[88]. وتلك هي حقيقة التفسير الإشاري حيث التحويم على مراد الله تعالى الباطني. وهو غير دلالة الإشارة عند الأصوليين[89].

فبان أن المفهوم يمتح من معين دلائل الربوبية والعبودية في القرآن وذلك هو الباطن، في مقابل الظاهر الذي يرجع إلى المنازع اللغوية وقواعد اللسان. فكأن هذه قوانين وتلك مواد أو هذه أشباح وتلك أرواح.

فهذان المفهومان، كما ترى، هما محور الإشكال، وفي اصطلاحهما تشابكت أنظار النظار وتداخلت أفهامهم حتى نشب النزاع، وجرى الوادي بطمه على القرى؛ من كثرة الجدل والخلاف والتنازع حول مصادرة معناهما، إذ رب مصطلح أوجب المشاحة في المعنى!

فلذلك صار يُعَرِّض، من جهة، بمن ليس أهلا لإجرائهما على المطلوب بقوله: “من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار”[90]. ومن جهة أخرى؛ بمن وقف في أحد طرفي المفهوم إفراطا أو تفريطاً، ولم يبتغ التوسط منزلةً لتحري الحق فيه قائلا: “فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه، فربما كذب به أو أشكل عليه. ومنهم من يكذب به على الإطلاق ويرى أنه تقول وبهتان، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم. وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف”[91].

الضابط الثالث: شهادة الأدلة للمعنى المفسَّر

أي وجود شاهد من القرآن أو من الخارج يوافق المعنى الإشاري، ويكون بالنسبة إليه بمثابة الشاهد أو المعتبر، بتعبير أهل صناعة الحديث، يقويه ويشد عضده. قال في هذا الضابط: “وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها، ولكن يشترط فيه شرطان:

أحدهما؛ أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية. والثاني: أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض (…) لأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض؛ صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن. والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء”[92].

وإنما قلت من القرآن أو من خارج؛ لأنه كذلك عند أبي إسحاق، أي أن يكون الشاهد المسوق لموافقة المعنى الإشاري؛ دليلا شرعيا أو دليلا وجوديا من الخارج يطابقه. فلابد من وجود أحدهما يتحقق به مفهوم (الاعتبار). والشاطبي بهذا النظر يكون قد فتح نافذة أخرى يطل منها كل قاصد معتبر إلى أحوال الكون والكائنات باعتبارها عالما موضوعيا يعكس تجليات الوحي كتاب الله المسطور، ويكون هذا الوحي فهرسا لها ضابطا لوظائفها وطبائعها العمرانية. فماذا عن المفهوم أولا؟

الدلالة الصناعية لمفهوم الاعتبار

 أولا: عند النظار عموما ً

 لا يخرج معنى (الاعتبار) في عرف أهل السلوك عن العبور من الشيء إلى غيره بصفة عامة، والعبور من المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن الناشئ عنه وإلحاقه به، عملا بهما معا لا بأحدهما “فيكون العامل عاملا بالوجهين موفيا حق اللفظ في المعنيين”[93]. قال الخطيب الشربيني: “قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها”[94]. وقال الغزالي في سياق توظيف المفهوم: “بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين؛ اطِّراح الكونين، فامتثل الأمر ظاهراً بخلع نعليه، وباطناً باطراح العالمين. وهذا هو “الاعتبار”؛ أي العبور من الشيء إلى غيره، ومن الظاهر إلى السر”[95].

أو يجعل من قياس الأولى؛ وهو نوع من جنس القياس، فيلحظ فيه أيضا معنى العبور والإلحاق. وهذا تخريج لشيخ الإسلام في شرحه حديث النزول قائلا: “(…) وبعض ذلك لا يجعل تفسيرًا، كما في قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 82)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب”[96]، فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون؛ فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة، وإذا كان الملك لا يدخل بيتًا فيه كلب، فالمعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل قلبًا فيه أخلاق الكلاب المذمومة، ولا تنزل الملائكة على هؤلاء”[97]. ثم صرح بما يفيد كونه قياسا في مثال آخر قائلا: “فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة. وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل (…) كذلك من قال: “لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب” فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد؛ فقد أصاب، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ (المائدة: 43)”[98].

وربما نُزِّلَ على المعنى نفسه ما ذهب إليه ابن رشد الحفيد حين قال يوضح حقيقة المفهوم: “الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس”[99].

ويعتبر عبد الكريم عكيوي من أهم المعاصرين الذين سطروا تعريفا جامعا للنظرية، فقال بعدما ساق مدونة من تعاريف القدامى والمحدثين كلٌّ حسب فنه: “الاعتبار هو النظر في المسألة مع استحضار نظائرها والالتفات إلى لوازمها ومراعاة نقائضها، مع صحة المناسبة”[100]. وهو تعريف يخدم سائر العلوم ويربطها بفلسفة النظرية في منحاها العلمي والوجودي، فهو أعم من ارتباطها بمجال التفسير وقواعده. إلا أن إشارته إلى وجوب استحضار ضابط النظر في لوازم المسألة مع صحة المناسبة؛ هو مربط الفرس عندنا هنا.

وبالجملة فإن من قالوا بجواز هذا النوع التفسيري عموما اشترطوا فيه شروطا مقيدة لإطلاق القول به، وهي:

  1. ألاَّ يتجافى عن ظاهر النظم القرآني.
  2. ألَّا يقال؛ إن الإشارة هي المراد من الظاهر، ولا اعتبار بالوجوه التفسيرية الأُخَر.
  3. ألَّا ينهض معارض شرعي أو عقلي للتفسير الإشاري.
  4. ألَّا يكون جاريا في ركاب الهوى والبدعة.
  5. أن تؤنس له شواهد من الشرع.
  6. ألَّا يعتمد في مجال استنباط الأحكام الشرعية، وإنما يقتصر في الأخذ به إن صحَّ وسلم من المعارضة؛ في مجال تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس، وتثبيت الإيمان[101].

هذا كان في نظرهم، فماذا عن نظر الشاطبي؟

ثانيا: عند الشاطبي

1. حقيقة المفهوم

أما أبو إسحاق فقد صغى إلى منهج التعريف بالتقسيم لرصد حقيقة المفهوم وقسميه معا، حتى ينظِم به الأقوال جميعا ويسبرها بمسباره، فلا تزال أمام الناظر جليةً واضحةً قد انقشعت سحابة إشكالها وانخنس طائر إبهامها !. قال: “الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر إذا صحت على كمال شروطها، فهي على ضربين: أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات (…) والثاني: ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها ويتبعه الاعتبار في القرآن”[102].

فقد سلم ابتداءً بحقيقة المصطلح، أقصد الاعتبار، تماماً كما رسمها أبو حامد، وهو شيخ الشاطبي بصورة غير مباشرة في التعرف على حقائق التصوف، وبناء على ذلك اهتم بتقعيد قسميه المتفرعين عنه في صيغة كلية جرياً على أصله في بناء حقائق العلم وترتيبها، وهما: الاعتبار القرآني والاعتبار الوجودي.

أ. في الاعتبار القرآني

قال مبينا خواصه التي تميزه: “فإن كان الأول؛ فذلك الاعتبار صحيح وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال؛ لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب التكاليف وأحوالها لا بإطلاق. وإذا كان كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم. ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد، فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه، ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به لجريانه على مجاريه. والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه، فإنه كله جارٍ على ما تقضي به العربية، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل”[103].

فالنص كله تقعيد لحقيقة الاعتبار القرآني حيث ترجع إلى الاحتفال بمرامز إشارية ومعانٍ باطنية تتدفق من غير توقف، يلوح بها النظر القرآني عند التدبر. قال: “فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف، فإن توقف فهو غير صحيح أو غير كامل حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك”[104].

إن الكون هنا مجال لسياحة قلبية، ترتشف من أعيان الكائنات التي يموج بها في مساحة “بانورامية” ممتدة وغير متناهية، لأن طبيعتها مسكوكة بسكة الكلمات القرآنية غير المتناهية هي كذلك؛ ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ (الكهف: 104). وليست الجسوم والأعراض المادية الحاملة لتلك الجواهر سوى علامات مادية تظهر وتختفي لتترك بعد اختفائها وظيفتها التعبدية الكونية التي حددها لها الخالق في حدود التعريف به للإنسان، فهي خادمة له لكن خدمة تعبدية مناطة بها تكوينا وخلقا… فكان لابد من استنطاق هذه الكائنات والحفر في أسرارها الكونية الملكوتية بمعاول القرآن نفسه، أليس هو الكتاب المعرف بمجالها ووظائفها؟ فكيف يطلق للقلب السياحة الشعورية في مجالها دون الرجوع إليه خضوعا لكلياته العلمية الشاملة؟ لكن ذلك كله مع مصاحبة شرط “مراعاة اللسان العربي”، إذ يشهد له كما صرح في آخر النص المركزي السابق.

فأنت ترى إذن أن ماهية (الاعتبار) متجسدة في قسمه الأول هنا؛ إنما ترجع إلى معين التصوف والوقوف على دقائق أهل السلوك إذا تخلقوا بأخلاق أهل القرآن، كلٌّ بحسب درجته كما أشار[105]. بيد أن حقيقته انسبكت في مسبكة أصولية في صيغة كلية وأفرغت في قالب صار أقدر على إخراجها من ليونتها في السلوك إلى صلابتها في الأصول المقطوع بها. وقد وصف هذا القسم مع قرينه بما يفيد ذلك بعد سرد أمثلة لهما قائلا: “ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم”[106]؛ فهما راجعان إلى أصل كلي قطعي له نفس طبيعة الأصول عند أبي إسحاق.

ب. في الاعتبار الوجودي

وأما الوجودي فقد حكم عليه بقوله: “وإن كان الثاني؛ فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم، وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول؛ فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن”[107]. وذلك راجع بالأساس إلى طبيعة الإشارات واللوائح التي تقذف إلهاما وتحديثا في قلوب أصحاب الأحوال، وبسبب صعوبة إيقافها في عالم الروح لشدة تناغمه مع الكون ومخلوقاته وما ينساب منها من حوادث وظواهر؛ فإن القلب يسارع في بادئ النظر إلى الحكم عليها. ومن هنا خطورتها.

لكنه صحح العمل به بشرطين اثنين:

الشرط الأول؛ أن يكون ذلك الاعتبار في مقابلة مطلق من المعاني القرآنية، لأنه مطلق غير مقيد، وكلاهما وجوديان فيصح تنزيله عليها. قال: “إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة؛ فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني وهو الوجودي، ويصح تنزيله على معاني القرآن؛ لأنه وجودي أيضا، فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص، فلا يُطَالَبُ فيه المُعْتَبِرُ بشاهد موافق”[108]؛ لأن المطالبة بالشواهد والمعتبرات؛ إنما تكون حينما يُدَّعى في ذلك الاعتبار أنه خاص بالمعنى الذي سيق للدلالة عليه في القرآن، حينئذ يطالب بالدليل. أما إذا كان مطلقا فلا يحتاج فيه إلى ذلك كما ستأتي أمثلته. وهذا يجر إلى:

 الشرط الثاني؛ أن لا يكون تفسيرا خاصا بالآية، بل يجعل من إشاراتها الاعتبارية، ومن ثم فلا يكون جمهورياً بل خاصا بأهله الذين تفتقت مواهبهم الوجدانية له دون غيرهم. قال مشيرا إليه: “وأيضا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين؛ لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق، بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد، وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد؛ فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بَعُدَ في السلوك، سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه، ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعْتِبَارُ قوله من الباطنية وغيرهم”[109].

لقد بدا واضحا أن شروط اعتبار مفهوم (الاعتبار) بما هو الترجمة الاصطلاحية العلمية للتفسير الإشاري (الباطني) الصحيح عند أبي إسحاق ثلاثة:

أولا: مراعاة اللسان العربي في حقيقة المعنى المفسَّر.

ثانياً: وجود شاهد من مساق الكلام أو من الخارج يشهد لصحته بالاعتبار.

ثالثا: أن يكون منبعه القرآن الكريم ثم يتبعه الدليل الخارجي في مجاري الوجود، وهو المسمى بـ(الاعتبار القرآني).

 هذا الأخير، أقصد شرط الاعتبار القرآني، إذا وجد دلَّ على أخويه بالقوة، لأنهما خاصتان في ماهيته، فلا يقرن بهما عادة في التعبير عن المطلوب عند أبي إسحاق. فلذلك اكتفى بهما شرطين بعد بيان حقيقة ذلك النوع من التفسير قائلا: “وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن”[110]. ويبقى أصل (الاعتبار الوجودي) مقصورا على أهله لا يجاوز زمرتهم.

بهذين الضابطين تظهر نظرية التفسير الإشاري جلية واضحة، وتحمل جميع أقوال النظار على محكها في تأويلاتهم للنصوص، وذلك حتى لا تبقى هذه النصوص مرتعا للدخيل يصول فيها ويجول كما هو الحال بالنسبة للقراءات الحداثية المغرضة في العصر الحالي، تماما مثل عديلتها الباطنية في العصور الخالية.

2. أمثلة تطبيقية لتشخيصه

إن نظرة خاطفة إلى منظومة الأمثلة التي ساقها أبو إسحاق لتنزيل نظرية التفسير الإشاري (أو الاعتبار)؛ تبين مدى تأثره بحجة الإسلام الغزالي[111] في التأصيل العلمي لها والتمثيل لحقيقتها. وإنما تفرد شيخ المقاصد بشحن قواعدها بضوابط الأصول وتسييجها بسياج الكليات حتى تصير أقرب إلى صلب العلم لديه ورفع النزاع فيها. وهذه جملة أمثلة جرت مجرى الأمهات في التمثيل عنده:

أ. المثال الأول

قال: “نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه، فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى:﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 21)؛ أي أضدادا قال: “وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله”. وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد، حتى لو فصل لكان المعنى: فلا تجعلوا لله أندادا: لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا. وهذا مشكل الظاهر جدا؛ إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد: الأصنام أو غيرها مما كانوا يعبدون، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا. ولكن له وجه جار على الصحة؛ وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو ندٌّ في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن” [112]. ثم ذكر ضابطين أجراهما مجرى العذر لسهل رحمه الله. وحقيقتهما أنهما دليلان من القرآن شاهدان بالاعتبار لما جاء به وهما:

الضابط الأول: “أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار، فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه، لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته، والنفس الأمارة هذا شأنها؛ لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها. وهذا هو الذي يعني به الند في نده؛ لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه، وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (التَّوْبَةِ: 31). وهم لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم ائتمروا بأوامرهم وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان. فما حرموا عليه حرموه وما أباحوا لهم حللوه، فقال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (التَّوْبَةِ: 31).

 وهذا شأن المتبع لهوى نفسه”[113]. فحقيقة العبور من الظاهر إلى الباطن أو من المعنى الجلي إلى المعنى الخفي مما هو في ذاته قياس، كما سماه ابن تيمية سابقا، واضحة في النص؛ إذ متعلقها قوله: “لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه”[114].

الضابط الثاني: “أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام؛ فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم، ألا ترى أن عمر ابن الخطاب قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان: أين تذهب بكم هذه الآية ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ (الأحقاف: 19). وكان هو يعتبر نفسه بها. وإنما أنزلت في الكفار (…) فإذا كان كذلك؛ صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ (البقرة: 21)”[115].

إن هذا الضابط يرجع إلى قاعدة “فقه الجزئيات من الكليات”[116]؛ وهي قاعدة مفادها إمكانية سحب حكم الدليل على غير محله الذي أنيط به فيه وتنزيله في مجراه الاستعمالي، والجامع هو المعنى الذي سيق له.

وإنما قلنا مجراه الاستعمالي؛ لأنه كذلك في باب العموم والخصوص عند أبي إسحاق[117]، وهو المسمى بـ(العموم الاستعمالي)، وقد ظهر أنه منزلة بين منزلتي عموم اللفظ وخصوص السبب، فليس العبرة بأحدهما بل به هو، ويلتحق به كل ما كان في معنى سببه. ومن هناك اقتنص عمومه وإن كان في مورده خاصا.

فإلى هنا يرجع فقه عمر، رضي الله عنه، حيث نَزَّل الآية على خصوصيات نفسه، من باب تنزيل الكلي على الجزئي لتحقيق مقاصد تربوية ترجع إلى قاعدة الخوف والرجاء، وهي كلية قطعية عنده أيضا. وهذا يدل على تداخل كل هذه القواعد وأنها إنما تخلقت في رحم واحدة هي المشكلة لنظرية التفسير عنده. قال الزمخشري يعضد مدلول هذه القاعدة: “وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين، وفيها أو فر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها”[118].

ب. المثال الثاني

قال: “ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ (ءال عمران: 96): “باطن البيت قلب محمد يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته”[119].

وهذا بحسب ما سطر؛ فاقد للشرطين الضابطين وهما: لسان العرب ودليل شاهد. فلذلك قال: “وهذا التفسير يحتاج إلى بيان، فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب، ولا يلائمه مساق بحال”[120]. ثم استدرك قائلا: “والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن، فزال الإشكال إذا”[121].

فهذا ضابط للقول بالاعتبار الوجودي الخارجي كما يظهر من نكتة العذر الذي اعتذر به لسهل؛ وهو أن المعنى المراد سيق عنده مساق المستفاد من الآية بالاعتبار، ولم يقل هو تفسيرٌ لها، إذ لو صرح بذلك لكان ما صرح به أقرب إلى شقشقات الباطنية!

ج. المثال الثالث

قال: “ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ (النساء: 51)، قال: “رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية”. وهو أيضا من قبيل ما قبله، وإن فرض أنه تفسير؛ فعلى ما مر في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ (البقرة: 21). وقال في قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النساء: 36): “وأما باطنها؛ فهو القلب، ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ (النساء: 36): النفس الطبيعي، ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ (النِّسَاءِ: 36) العقل المقتدي بعمل الشرع، ﴿Pوَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (النساء: 36): الجوارح المطيعة لله، عز وجل، وهو من المواضع المشكلة في كلامه”[122].

فهذان مثالان يجريان في المجرى نفسه الذي جرت عليه أمثاله قبلُ؛ إذ ليس للعرب عهد بمثل هذا التأويل في هذه الأشياء، ولا نقل عن السلف الصالح مثله، ولا ثَمَّ دليل آخر يدل على صحة هذا التفسير، لا من مساق الآية، مورد هذه المؤوَّلَات، ولا من خارج[123]. بل “مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم”[124].

 فلذلك كان أحرى بالتوقف فيه وإلحاقه بالاعتبار الوجودي الذي لا ينشط لافتراع معناه واستكناه سره إلا أرباب الأحوال. قال يفسر ذلك في موضع آخر: “فكون القلب جار ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي إلى سائر ما ذكر؛ يصح تنزيله اعتباريا مطلقا، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه”[125]؛ أي يصح تنزيل معناه على الإطلاق دون تقيُّد بمحل الآية حتى لا يقال؛ إنه تفسير لها، إذ لمَّا كانت هذه المعاني وجودية في الخارج؛ قوبلت في بيان ما تدل عليه بما هو وجودي أيضا في القرآن، وهو القلب وما ذكر معه. فالكل أصل انفجاره الوجود ابتداء، بخلاف الاعتبار القرآني المنطلق في أساسه من القرآن ويأتي ما يدل عليه وجوديا تابعا. فلذلك يوقف على محله.

تماما كما صرح أبو إسحاق قائلا: “غير أنه مغرِّرٌ بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ”![126]

وربما ألمَّ بشيء من ذلك المفكر قاسم حاج حمد في مثل هذا المقام حين فرق بين “(لمس)؛ حيث تعني قرآنيا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، و(مس) حيث تعني التفاعل العقلي والوجداني، فلم يمنع الله (لمس) المصحف؛ فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم (…) أما (مس) القرآن بما يعني التفاعل مع مكنوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد”[127]. وإن كان طابع المخرج الذي ارتضاه في التأويل لسانيا، لكن لو استثمر مع الضوابط التي وضع الشاطبي للتفسير الإشاري؛ ربما يكون تمهيدا لبناء نسق منهاجي موحد في نوع ذلك التفسير للقرآن في العصر الحاضر خاصة.

فهذه أمثلة اقتضتها خصوصية الموضع دون استيعاب؛ كراهة للتطويل. وبالله التوفيق.

خاتمة

تنضح مدونات أبي إسحاق الشاطبي بزخم تدافعي من الكليات؛ نظرا لاختلاف طبيعتها المعرفية ووظيفتها المنهجية التي لزمت عنها لتأدية وظائفَ في العلم تجديدا وتكميلا، تصنيفا وترتيبا. وقد وفق إلى حد لا يستهان به في بث ذخائر نفيسة من أنواعها في سياق التأصيل لقواعد الفن؛ اعتبرت عنده قوانين لتشكيل نظرية في المعرفة وفق منظومة التصور الكلي في الإصلاح، والإشادة بمبدأ التكامل المعرفي، القاضي بتذويب الجزئيات الخلافية وإعادة تصنيفها، لتجري على سَنن أمهاتها من الكليات في إثمار معرفة متوازنة؛ تلوح فيها أهم المقاصد العليا للشريعة الإسلامية في تجلياتها الحضارية وتضفي عليها مسحةً من سراج جمالها. ذلك ما حاولت طرقه هذه الجولة السريعة مع شيخ المقاصد ويمكن تلخيص قضيتها في أصول هي:

ـ نظرية تكامل العلوم الشرعية وأثرها في تجديد زاوية النظر إلى مطالب تلك العلوم وإعادة تصنيفها حتى تغدو خادمة لأصلها الوحي الإلهي في بعده النصي أولا، ثم في تجلياته الوجودية والحضارية ثانيا..

ـ البحث عن النسق الجمالي في العلوم الشرعية من خلال علم الأصول، ببيان القنوات الحاملة لنظرية الجمال التعبدي في مباحثه. ولعل دمج الشاطبي فقه الظاهر بفقه الباطن كان أنجع مسلك منهجي يلوح بإمكانية توفر تلك القنوات أو على الأقل البحث عن دررها المدفونة في صدف العلوم..

ـ بيان مركزية كل من الكون والكائنات وكليات الوحي في تجديد قنوات العلم عند إمام غرناطة، باعتبار أن الأول معادلا موضوعيا للثاني ومرآة عاكسة لمضامينه يستحيل في منطق النظر السليم والنقل الصحيح التفريق بينهما إبان أي محاولة لتأصيل المعرفة أو تجديدها.

الهوامش

[1]. عبد الرحمن طه، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994م، ص93.

[2]. الوافي حميد، علم الأصول ومبدأ الاقتراض من العلوم المجاورة: تحليل وتعليل، مقال ضمن أعمال الندوة العلمية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية بعنوان “العلوم الإسلامية أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟” الرباط: دار أبي رقراق/المغرب، ط1، 2010م، ص252.

[3]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: الشيخ عبد الله دراز، بيروت: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2001م، 1/25.

[4]. أحمد زروق الفاسي، قواعد التصوف، تحقيق: عبد المجيد خيالي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 2005م، ص29.

[5]. الموافقات في أصول الشريعة، م، س، 1/29.

[6]. المصدر السابق، 1/23.

[7]. نفس المصدر والصفحة.

[8]. عبد العزيز بن عبد السلام عز الدين، القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق: نزيه كمال حماد وعثمان جمعة، دمشق: دار القلم، ط1، 2000م: 2/330-331-338-339-340-369-370-371-372.

[9]. أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق، تحقيق: خليل المنصور، بيروت: دار الكتب العلمية، (1418ﻫ/1998م)، 4/208-366-368.

[10]. الشاطبي، الموافقات.. م، س، 1/29.

[11]. المصدر نفسه، 1/31.

[12]. محمد حدوش، المفاهيم الرحالة من علم لآخر، مقال ضمن ندوة قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الإنسانية، إعداد: عز الدين البوشيخي ومحمد الوادي، الجزء الأول، طبع كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، المغرب، 2000م، ص135.

[13]. الشاطبي، الموافقات.. م، س، 1/68.

[14]. يقول الدكتور فريد الأنصاري، رحمه الله، مجليا هذه الحقيقة: “فالمفهوم الذي يجرد من لباس الذوق ثم يلبس بلباس العلم؛ فإنه يكتسي صبغة العلم وخصائصه. وهذا شأن المصطلح أو المفهوم الذي ينقل من مجال الليونة الاصطلاحية إلى مجال الإحكام أو الصلابة الاصطلاحية والعكس صحيح أيضا”. انظر:

 ـ فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، طبع مشترك بين المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومعهد الدراسات المصطلحية، ط1، 2004م، ص110.

[15]. أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، تحقيق: أحمد عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 2005م، 1/150.

[16]. المصدر نفسه، 1/150.

[17]. الشاطبي، الموافقات.. م، س، 1/29.

[18]. الشاطبي، الاعتصام، م، س، 1/150-151.

[19]. المصدر نفسه، 1/152.

[20]. سعيد النورسي، اللمعات، ضمن كليات رسائل النور، طبع القاهرة: شركة سوزلر للنشر، ط4، 2005م، ص21.

[21]. وجودية مؤمنة طبعا وليس إلحادية مادية كما يريد زعيمها سارتر.

[22]. المصدر نفسه، 1/76.

[23]. المصدر نفسه، 1/148.

[24]. أبو بكر بن قيم الجوزية، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، تحقيق: عبد الله المنشاوي، المنصورة: مكتبة الإيمان، د. ت، ص47.

[25]. سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة:  دار الشروق، ط1، 1972م، 5/2984.

 [26]. الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، تونس: دار سحنون للطباعة والنشر، د. ت، 23/89.

 [27]. توحيد الزهيري، نحو فلسفة إسلامية للجمال والفن، الكويت: دار القلم، ط1، 1998م، ص48.

[28]. الشاطبي، الموافقات، م، س، 2/128.

[29]. فقوله: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 7). فهو من الزينة النفسية. وقوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 32). فقد حمل على الزينة الخارجية”. الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، ط3، 2008م، ص219.

[30]. نفس المصدر والصفحة.

[31]. محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تعليق: محمد منير الدمشقي، نشر إدارة الطباعة المنيرية، د. ت،  1/01.

[32]. ابن قيم الجوزية، الفوائد، بيروت: دار الفكر، بيروت، د. ت، ص182.

[33]. المصدر نفسه، ص184.

[34]. المصدر نفسه، 1/82.

 [35]. المصدر نفسه، 3/166.

[36]. المصدر نفسه، 1/89.

[37]. المصدر نفسه.

[38]. المصدر نفسه، 3/164.

[39]. المصدر نفسه، 3/163.

[40]. المصدر نفسه.

[41] . المصدر نفسه.

 [42]. الشاطبي، الاعتصام، م، س، ص253.

 [43]. ناصر الدين الألباني، السلسلة الصحيحة، الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط1، 1996م، 1/247.

 [44]. الشاطبي، الموافقات، م، س، 1/92-93.

 [45]. ابن القيم، الفوائد، م، س، 1/184.

[46]. قال ابن القيم: “وقوله في الحديث إن الله جميل يحب الجمال يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث، ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء”، م، س، 1/184. ومن هنا كلية الحديث.

[47]. الألباني، السلسلة الصحيحة، م، س، 1/479.

[48]. الشاطبي، الموافقات، م، س، 1/76.

[49]. المصدر نفسه، 2/221.

[50]. المصدر نفسه، 1/102.

[51]. المصدر نفسه، 1/92-93.

[52]. المصدر نفسه، 1/102.

[53]. المصدر نفسه، 3/168-169.

[54]. سعيد النورسي، المثنوي العربي النوري ضمن كليات رسائل النور، طبع القاهرة: شركة سوزلر للنشر، ط4، 2005م، ص449.

[55]. المصدر نفسه.

[56]. المصدر نفسه، 1/148.

[57]. المصدر نفسه، 3/168-169.

[58]. المصدر نفسه.

[59]. المصدر نفسه، 2/125.

[60]. الشاطبي، الموافقات، م، س، 2/203.

[61]. ابن رشد الحفيد، فصل المقال، تحقيق: محمد عمارة، القاهرة: دار المعارف، ط3، ص22.

[62]. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، م، س، 9/103.

[63]. الموافقات، م، س، 2/360.

[64]. البخاري، صحيح البخاري، 4/29.

[65]. الشاطبي، الموافقات، م، س، 2/244

[66]. المصدر نفسه، 1/32.

[67]. سعيد النورسي، الشعاعات ضمن كليات رسائل النور، طبع القاهرة: شركة سوزلر للنشر، ط4، 2005م، ص11.

[68]. المصدر نفسه، 3/363.

[69]. المصدر نفسه، 4/227.

[70]. المصدر نفسه، 4/227.

[71]. المصدر نفسه، 4/226.

[72]. فريد الأنصاري، بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق، القاهرة: دار السلام، ط1، 2009م، ص78.

[73]. الشاطبي، الموافقات، م، س، 1/20.

[74]. المصدر نفسه، 4/128.

[75]. المصدر نفسه، 3/363.

[76]. المصدر نفسه، 1/92-93.

[77]. هو الطوفي وكتابه “الإكسير في علم التفسير” قال في مقدمته: “إنه لم يزل يتلجلج في صدري إشكال علم التفسير”!: الطوفي سليمان بن عبد القوي، الإكسير في علم التفسير، ت. عبد القادر حسين، نشر القاهرة: مكتبة الآداب ، د. ط ود. ت، ص27.

[78]. المصدر نفسه، ج3، ص257.

[79]. المصدر نفسه، ج3، ص276.

[80]. أبو حامد الغزالي، جواهر القرآن، ت. محمد رشيد رضا القباني، بيروت: دار إحياء العلوم، ط2، (1406ﻫ/1986م)، ص37.

[81]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص293.

[82]. المصدر نفسه، ج3، ص295.

[83]. المصدر نفسه، ج3، ص287.

[84]. المصدر نفسه، ج3، ص289.

[85]. المصدر نفسه، ج3، ص289-290.

[86]. الشاطبي، الاعتصام، م، س، ج2، ص398.

[87]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص290.

[88]. المصدر نفسه، ج3، ص292.

[89]. قال ابن القيم في هذا السياق: “فالإشارات من جنس الأدلة والأعلام وسببها: صفاء يحصل بالجمعية، فيلطف به الحس والذهن، فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حسُّ غيره وفهمه عن إدراكها” ابن الجوزية، مدارج السالكين، م، س، ج2 ص389.

فحقيقتها مجموع اللوامع واللوائح عندهم؛ التي تلوح بها الفراسة الصادقة دون الاستنجاد بمنطوق اللفظ، فخالف بذلك دلالة الإشارة التي هي من لوازم العبارة والمنطوق عند الأصوليين. وهذا التباين هو الذي أكد عليه الطاهر ابن عاشور في المقام نفسه فقال: “وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة وفحوى الخطاب” ابن عاشور محمد الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر تونس، 1984م، ج1، ص36.

[90]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص286.

[91]. المصدر نفسه، ج3، ص302.

[92]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص295.

[93]. أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، العواصم والقواصم، مكتبة الأنصار، ط1، 2006م، ص196.

[94]. محمد بن أحمد الخطيب الشربيني، السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، القاهرة: مطبعة بولاق الأميرية القاهرة، 1285ﻫ، ج4، ص240. ومثله عند الرازي، انظر:

 ـ أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط3، 1420ﻫ، ج29، ص504.

[95]. أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار، ت. أبو العلا عفيفي، القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، د. ط، ص73.

[96]. البخاري، صحيح البخاري، م، س،: ج4، ص114.

[97]. أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، شرح حديث النزول، بيروت: المكتب الإسلامي/لبنان، ط1، (1397ﻫ/1977م)، د. ت، ص169.

[98]. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، م، س، ج13، ص242.

[99]. أبو الوليد أحمد بن أحمد ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ت. محمد عمارة، دار المعارف، ط3، ص23.

[100]. عبد الكريم عكيوي، نظرية الاعتبار في العلوم الإسلامية، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، (1429ﻫ/2009م)، ص37.

[101]. قطب الريسوني، النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب، ط1، 2010م، ص194.

[102]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص302.

[103]. المصدر نفسه، ج3، ص302-303.

[104]. المصدر نفسه، ج3، ص302.

[105]. أي في نصه السابق بقوله: “على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب التكاليف وأحوالها لا بإطلاق” الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص302. ثم بين أنه خاص بأهله بقوله: “ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد ” نفس المصدر والصفحة. أو بتعبير شيخ الزيتونة “الإشارة (…) إنما تشير لمن استعدت عقولهم (…) ولا ينتفع بها غير أولئك” ابن عاشور، التحرير والتنوير، م، س، ج1، ص36.

[106]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص302.

[107]. المصدر نفسه، ج3، ص303.

[108]. نفس المصدر والصفحة.

[109]. نفس المصدر والصفحة.

[110]. المصدر نفسه، ج3 ص295.

[111]. قد قال في السياق نفسه مشيدا بالغزالي: “وللغزالي في “مشكاة الأنوار” وفي كتاب الشكر من “الإحياء” وفي كتاب “جواهر القرآن” في الاعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة، فتأملها هناك والله الموفق”. المصدر نفسه، ج3، ص304.

[112]. المصدر نفسه، ج3، ص298.

[113]. المصدر نفسه، ج3، ص298-299.

[114]. المصدر نفسه، ج3، ص298.

[115]. المصدر نفسه، ج3، ص299.

[116]. المصدر نفسه، ج3، ص213.

[117]. المصدر نفسه، ج3، ص290.

[118]. الزمخشري، الكشاف، م، س، ج1، ص37.

[119]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص300.

[120]. المصدر نفسه.

[121]. المصدر نفسه.

[122]. المصدر نفسه، ج3، ص301.

[123]. المصدر نفسه، ج3، ص300.

[124]. المصدر نفسه، ج3، ص301.

[125]. المصدر نفسه، ج3، ص303.

[126]. الشاطبي، الموافقات، م، س، ج3، ص303.

[127]. حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، م، س، ج1، ص55.

د. إدريس التركاوي

باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة-الصويرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق