مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكقراءة في كتاب

“نظرية الجوهر الفرد الكلامية، وتفريعاتها الوجودية والعقدية في ضوء العلم الحديث” للدكتور خالد الدرفوفي

                           

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فإن الله عزّ وجلّ ميّز الإنسان عن سائر مخلوقاته بقوة العقل، وجعله مناط التكليف، إذ به تُدرك الأشياء ويتأتى تصوّرها.

وقد أمر البارئ تعالى الإنسان في غير ما آية من ذكره الحكيم بإعمال العقل بالنظر الصحيح المخلّص من ظلمات التقليد الرّديء، والمفضي إلى تحقيق العلم بالله جلّ وعلا.

 وذكر سبحانه وتعالى جمُلة من البراهين والأدلة العقلية القطعية المثبِّتة للأصول العقدية في قُلُوب أولي الألباب، وهي عُمدة أدلة العلماء ورثة الأنبياء في بناء نسق استدلاليّ يتأدّى به الإفهام والإفحام.

وعلى هذا الأساس، اجتهد المتكلمون في تقريب مضامين العقيدة من عامة الناس مُستندين إلى جملة من الأدلة العقلية. ومن هذه الأدلة ما ارتبط بقضايا ومباحث من صميم العلوم التجريبية الحديثة.

وهو حافز الباحثين في علم الكلام المهتمين بالدراسات العلمية التجريبية للبحث في العلاقة بين اجتهادات المتكلمين والفلاسفة القديمة، وبين نتائج البحث العلمي التجريبي الحديث في المسائل المشتركة في البحث.

وفي هذا السياق، أصدر مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية التابع للرابطة المحمدية للعلماء كتاباً بعنوان: “نظرية الجوهر الفرد الكلامية وتفريعاتها الوجودية والعقدية في ضوء العلم الحديث”، من تأليف: الدكتور خالد الدرفوفي.

بسط المؤلف فيه آراء الفلاسفة والمتكلمين في “الجوهر الفرد” وما ترتّب عن ذلك من مسائل وجودية وعقدية، مقارناً إياها بما توصّل إليه العلم التجريبيّ الحديث، وذلك من خلال ثلاثة فصول.

تحدث المؤلف في الفصل الأول من الكتاب عن نظريّة الوجود عند المتكلمين، فناقش آراء بعض المستشرقين في أصل المذهب الذرّي الإسلامي مثل  “شلومو بينس” “S.Pines” و”هاري أ. ولفسون””H. Wolfson”  الّذين حاولا البرهنة على أن المذهب الذرّيّ الإسلاميّ مُقتبس مِن نِحلٍ قديمة أبرزها الفلسفة اليونانية والمذاهب الهندية. فبيّن الأخطاء المنهجية التي ارتكباها في دراستهما؛ وخلص إلى كون المنهج الّذي اعتمده “ولفسون” على وجه الخصوص “غير أكاديمي”، بسبب تجاهله كثيراً من النصوص الواردة في المصادر المعتمدة، أو إخراجها عن سياقاتها بتعسّف.

ولم ينْفِ المؤلِّفُ وُجود بعض التأثير الخارجيّ “الملقِّح لمذهب الذّرة الكلامي” خصوصاً عند المتأخرين من المتكلمين، وهو ما اعتبره المؤلّف ظاهرةً لا ينفك عنها الفكر الإنساني.

ثم شرع المؤلِّف في توضيح ماهية الجوهر الفرد (الجزء الذي لا يتجزء)، والفرق بينه وبين الجسم (الجوهر القابل للانقسام)، وذلك من خلال تقسيم المتكلمين للموجود. ثم أسفر عن مواطن اختلاف الفلاسفة مع المتكلمين في هذه المسألة، وما تفرّع عنه من خلاف في ماهية الأجسام.

بعد ذلك، عرض أدلّة المتكلمين المثبتين وجود الجوهر الفرد وأدلة النافين له، ثم انتقل لبيان أحكام الجوهر الفرد والجسم عند المثبتين، ثم أورد بعض التّفريعات الخلافية الناشئة عن القول بالجوهر الفرد فتحدث عن موقف المتكلمين والفلاسفة من الحياة والموت، والزمان والمكان، ومبدأ السّببية ومتعلّقاته.

وفي الفصل الثاني من الكتاب تطرّق المؤلِّف إلى موقف الفيزياء الحديثة عموماً، وميكانيكا الكمّ “mécanique quantique” على وجه الخصوص من جملة من المسائل المرتبطة بما تقدّم بسطه في الفصل الأول من الكتاب، وهي:

– معنى الذّرّة وأنواعُها وبِنيَتُها.

 – نِسبيّة الزمان والمكان .

– مبدأ الرّيبة الكمّي.

 – خلق الكون ونظرية الفَتْق العظيم.

في الفصل الثالث، حاول المؤلِّف تحليل نظرية الوجود عند المتكلمين والفلاسفة في ضوء التّصور العلمي لمكوِّنات المادة وخلق الكون انطلاقا ممّا حرّره في الفصل الثاني، فخلص إلى مجموعة من الاستنتاجات، منها:

– أنّ الجوهر الفرد ليس هو المركَّب الذّرّي، ولا الذّرة (بالمفهوم الفيزيائي)، ولا البروتونات والنيوترونات المكوِّنة لنواتها؛ إذ هي بدورها قابلة للانشطار إلى جُسَيمات أدقّ منها، ومن ثَمَّ فإنّ الذي ينطبق عليها هو التعريف الكلامي للجسم لا الجوهر الفرد.

أما الكوارك والإلكترون والبوزون والغرافيتون والفوتون والنيوترينو وغيرها، فلا واحد منها كفيل بتكوين الأجسام بمجرّد انضمامه إلى أمثاله- والفرضُ أن الأجسام عند المتكلّمين مكوّنة من انضمام جواهر فردة متماثلة- لأن كل جسيم مفتقر إلى الجسيمات الأخرى المختلفة في بِنيتها من أجل بناء جسم معيّن.

-أنّ الجوهر الفرد (الجزء الذي لا يتجزء) ثابت على الأقل على مستوى “جدار بلانك” mur de Planck” -الذي يمنع تقسيم الزمن إلى أقل من 43-10ثانية والمسافة إلى أقل من 35-10متر- باعتبار أن الفيزياء برمتها تنهار دونه.

– أنّ الزمان والمكان ليسا مُطلَقين كما كان يتصوره الفلاسفة والفيزيائيون الكلاسيكيون لعدّة قُرُون، فقد دحضت نظريّتا النسبية الخاصة والعامة هذا المفهوم، وأثبتتا نسبيتهما؛ وهو ما يُوافق ما عبّر عنه المتكلمون من كونهما اعتباريين.

– أنّ القول: “إنّ الجوهر لا يخلو عن العرض” صحيحٌ علميّاً، أمّا القول: “إن اتّصاف الجسم بالعرض يقتضي اتصاف جميع أجزائه بنفس العرض” فليس كذلك.

ثم ذيّل المؤلِّف بحثه ببسط رأي الدكتور محمد عابد الجابري في نظرية الجوهر الفرد من الناحية الإبستمولوجية.

وخلص في خاتمة كتابه إلى جملة من النتائج، منها:

  • أنه يجب تنقيح نظرية الجوهر الفرد حتى تكون صالحة لجعلها أرضية مشتركة للنقاش مع ذوي الاختصاص.
  • أنه يجب الاتجاه إلى أدلة أخرى أكثر وضوحاً وإلزاماً وإفحاماً، ومن أبرزها إعجاز القرآن والسنة الذي يجب أن يكون من دعامات ما يُسمّى بعلم الكلام الجديد الموجه للمثقّفين من العامة.
  • إن كثيراً من مقدمات ومقالات المتكلمين الأنطولوجية كانت أقرب إلى الحق بمنظور العلم الحديث، لكون المتكلمين انطلقوا من منهج سليم هو التنزيه المطلق للذات العلية واقتناعهم بأن العقل وحده بمعزل عن الوحي الرباني قاصر عن إدراك كنه الوجود وعلاقته بالصانع. وهذا المنهج نفسه لم يمنعهم من تبني كثير من مقولات الفلاسفة حين بدا لهم عدم تناقضها مع مقدماتهم تأسِّياً بقوله صلى الله عليه وسلم: «الحِكمَةُ ضالَّةُ المؤمِنِ، فحَيثُ وَجَدَها فهُوَ أحقُّ بهَا»[1].

(أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد المزدوج 8/7)

  الهوامش:


[1] أخرجه الترمذي في سننه، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: 2687.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق