وحدة الإحياءدراسات محكمة

نظرات في قضية تجديد علم أصول الفقه في العصر الحديث

يقصد بالتجديد في هذا العرض كل محاولة لتحقيق تغيير في العلم في أي مستوى من مستوياته؛ سواء تعلق الأمر بالمنهج أو بالقضايا والمضامين أو بالعرض والتقسيم والتبويب، لكن مع الاقتصار على الجهود التي تنطلق من صلاحية هذا العلم إجمالا لإمداد المجتمعات المسلمة بحلول لما تفرزه أوضاع الأمة المتجددة من تحديات، وبأجوبة لما يطرحه عليها عصرها من أسئلة[1].

 وهذا التوسع في مفهوم التجديد وإن بدا للوهلة الأولى تساهلا في إطلاق مصطلح ذي شأن في مرجعيتنا الإسلامية من حيث أثره في فهم الدين وممارسته ومن حيث المؤهلات والشروط المبالغ فيها أحيانا التي اشترطت في شخص المجدد… لكن الرجوع إلى الثقافة العلمية لبدايات الفترة المدروسة وشيوع التصورات الموقنة بنضج معظم العلوم الشرعية وعدم احتياجها لشيء عدا إتقان أهلها لها ثم تطبيقها يوقفنا على حقيقة الجهود التي تصدت لإحداث تغيير ما في علم أصول الفقه؛ مهما بدا لنا الآن بسيطا وغير كاف في تحقيق مسمى التجديد.

لقد بدأت محاولات تجديد علم أصول الفقه بعرض جديد ومبسط لمباحثه كما فعل عبد الوهاب خلاف ومحمد الخضري وغيرهم لاعتبارات تعليمية أملتها تجربتهم في تدريس هذا العلم في الجامعات والمعاهد المصرية وملاحظتهم الصعوبات التي كانت تواجه الطلبة، وخاصة منهم الذين لم يدرسوا في المعاهد الأزهرية، في التعامل مع كتب التراث الأصولي عموما، ومع الشروح على المتون والحواشي عليها بوجه أخص.

 ولا نعدم فيما بعد محاولات تحكمها الاعتبارات نفسها لكن شخصية أصحابها المتميزة جعلت كتاباتهم تتجاوز التبسيط والتقريب إلى تقديم رؤية عميقة ولو بشكل غير مباشر لوظيفة علم أصول الفقه، ولطبيعة الأطوار التي مر بها، وللقيمة التشريعية التي يختزنها ويمكن توظيفها في دولة مسلمة في عصرنا. ويستوقفنا هنا على وجه الخصوص كتاب “المدخل إلى علم أصول الفقه” للدكتور محمد معروف الدواليبي الذي جمع بين التكوين الشرعي والقانوني والثقافة الواسعة وخبرة رجل الدولة. فقد آثر د. الدواليبي تقديم علم أصول الفقه للطلبة وعموم الباحثين من خلال تطوره التاريخي. وهو يشرح دواعي ذلك في مقدمة الكتاب فيقول: “ولقد حاولت مستعينا بالله أن أقرب هذا العلم من أفهام الطلاب الذين لم يقرأوا عنه شيئا من قبل، وأحببهم فيه وأن أشعرهم بالحاجة إليه. فلم أجد بدا من اختيار الطريقة التاريخية في تقرير العلوم وترجيحها، هنا، على الطريقة النظرية. وذلك لما تستدعيه الطريقة الأولى من عرض العلم في أدواره التاريخية والكشف عن كيفية نموه في الأوساط العلمية. وفي ذلك زيادة في الإيضاح، بل وبعض التكرار أحيانا تسهيلا لمباحث العلم، عوضا عن مفاجأة القارئ بمباحث العلم مباشرة وجملة في جميع نظرياته وأحكامه مجردة من كل بحث تاريخي، كما هو شأن الطريقة النظرية مما قد يجرد القارئ من الشوق إلى المطالعة والاستمرار في المتابعة[2].”

  ثم ما لبث أن ظهر قدر من التنظير لتجديد علم أصول الفقه، بعضه انصب على إبداء تصورات ومراجعات تتعلق بمصادر التشريع أو قضايا أصولية محددة، بينما اهتم البعض الآخر بعلم أصول الفقه  ككل من حيث مشروعية تجديده وإمكان ذلك وجدواه؛ مع اختلاف في تقدير مدى وفاء علم أصول الفقه كما استقر عليه وضعه في العصور المتأخرة بحاجات الأمة في التشريع[3].

لكن نوعا آخر من التجديد كان في الحقيقة قائما على قدم وساق حتى عند باحثين لم يصدر جهدهم عن أي طموح نظري للتجديد؛ وهو ما تجلى في الرسائل والأطاريح العلمية التي كانت ولا تزال تناقش في جامعات ومعاهد مختلفة من بقاع العالم الإسلامي. فكثير من هذه البحوث خرج بنتائج أقل ما يقال عنها إنها إعادة صياغة للقضايا المدروسة. ذلك أن التركيز على قضية أصولية محددة بدءًا من التحديد الدقيق للمفاهيم، ومرورا بتحرير مختلف المذاهب والأقوال ومحال النزاع في مكوناتها، وانتهاءً بإعادة تركيبها واستثمار الأبعاد والآفاق المنهجية التي تفتحها للتوظيف الفكري والفقهي معا… كل ذلك عمل من صميم التجديد.

  ونستطيع دون مبالغة أن نقول؛ إن مجموع الجهود المشار إليها من قبل أوجدت وعيا بالحاجة إلى تجديد علم أصول الفقه بعد أن كان النقاش منصبا في العقود السابقة على المشروعية، ومشوبا بقدر كبير من التوجس والحذر. وتجاوز هذا الحاجز النفسي في حد ذاته إنجاز لا يستهان به في هذا المقام؛ لأن الأمر، كما لاحظ ذلك رواد هذا التجديد المعاصرون، يتعلق بتجديد البنية الفكرية للأمة، وتجديد البنى الفكرية يتطلب دائما فترة زمنية كافية لتغير العقليات. وهذا ما يفسر كون كثير من الدعوات التجديدية في تاريخ الأمة لم تلق الاستجابة المطلوبة، ولم تحدث الأثر المتوقع من قوة مشروعها العلمي[4]، وقد لخص د. علي جمعة  تجلي العقلية المكتفية بالتراث الأصولي عند طائفة من العلماء المعاصرين قائلا: “ومما كان شائعا بين علماء الأزهر أن القسمة العقلية للآراء الأصولية قد انتهت؛ فلا مكان لمزيد ولا لرأي جديد في مسائل الأصول؛ حيث قد قيل كل ما يمكن أن يقال، فما من رأي يظنه صاحبه جديدا وتكون له وجاهة إلا سنجده عند الأقدمين[5]“. لكن ماذا بعد اقتحام الحاجز النفسي أو على الأصح مستوى كبير منه؟

إن كتابات كثيرة في الموضوع في العقدين الأخيرين تجاوزت النقاش حول المشروعية والجدوى واتجهت إلى دراسة أوجه القصور في التراث الأصولي، أو تقديم تصورات جديدة لقضايا أصولية، ومنها كتابات تمثل مشروعا متكاملا في “التجديد الأصولي”[6]. ومن المؤكد أن هذا التراكم في التنظير وما سيحتف به من نقاش وما سيخلفه من أصداء سيكون له ما بعده. لكن بغض النظر عما ستسفر عنه هذه الجهود في المدى القريب يمكن تسجيل بعض ما يعتبره الباحث شروطا ضرورية لنجاحها:

1. ضرورة استيعاب التراث الأصولي

فنحن هنا إزاء علم نضج وتبلور خلال قرون ممتدة وأسهم فيه علماء من اتجاهات ومذاهب عقدية وفقهية مختلفة، ومن بيئات وثقافات متنوعة، وكثير منهم كان فارس زمانه في “المعقولات”. ومن ثم، فإن إطلاق أحكام متسرعة على علم أصول الفقه مدحا أو قدحا من غير قدر كاف من الاستقراء يسهم في تضبيب الرؤى وخلق حالة من الاستقطاب غير العلمي يبعد مشاريع التجديد عما تحتاجه من تؤدة وأناة في الوصف والتحليل والتركيب. فالاستيعاب العلمي للتراث الأصولي يقرب الشقة بين المواقف منه بقدر ما تتحرر من ضغوط التقليد وعواطف الانتماء السلبي.

على أن هناك منطلقا لا يستقيم بدونه ذلكم الاستيعاب؛ وهو تجنب الوقوع في “العيش في التراث الأصولي”؛ ذلك أن من أصعب عقبات التجديد في الأمة اليوم عدم القدرة على التمييز بين الثابت والنسبي، وبناء مواقف غير علمية من التراث الإسلامي، والانغماس في قضاياه وخلافاته وصراعاته دون تحليل المؤثرات التي أسهمت في نشأتها وتطورها ورسمت مسارها في هذا الاتجاه أو ذاك. وهذه القراءة تعزل العلوم الإسلامية عن محيطها الاجتماعي والثقافي؛ فتبدو مجرد قضايا ومقولات علمية اقتضاها الدليل المنقول أو المعقول، فكأن العلم ينشأ ويتطور خارج المجتمع، وكأن العالِم يختار دائما الأصوب والأرجح؛ لا يضغط عليه انتماؤه العقدي، ولا التزامه المذهبي، ولا الوضع الاجتماعي والسياسي.

وهذا التصور للتراث المجانب لإدراك سنن الله في البشر يجعل الحديث عن التجديد بدون معنى؛ لأن الجهود تنصب على الدفاع عن الموروث نفسه من خلال اتجاه من اتجاهاته، أو اختيار من اختياراته. وفي كثير من الأحيان يكون الخطأ أو القصور في الآراء التي نتبنى خلفياتها المذهبية من النوع الذي يتجاوز العالم فردا كان أو اتجاها؛ وذلك حينما يتعلق الأمر بخصوصيات عصر بأكمله أو ثقافة برمتها، ويكون الحرج في أعلى درجاته حين يكون الاتجاه أو الاختيار الذي ساد في مجال ما ضعيف الحجة، متناقض التحليل، بادي التكلف.

 ومن ثم فلا يتمكن من تجاوز هذه الحلقة المفرغة إلا من يملك ألا يكون طرفا في الخلاف أو الخصومة أو التأثير المذهبي لقوة شخصيته العلمية. وقديما رجح أبو المعالي الجويني (ت 478ﻫ)، مثلا، وهو أحد أعلام الأشاعرة رأي النظام (ت231ﻫ) في إمكان حصول العلم الضروري بخبر الواحد، وعدم اشتراط عدد معين في خبر التواتر، واستبعد، من بين ما استبعد، رأي القاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403ﻫ) إمام الأشاعرة بعد المؤسس[7] قائلا: “فإذا بطلت هذه المذاهب، ولم يبق إلا مذهب النظام، فسندرجه في مجاري الكلام المشتمل على اختيار الحق[8]“. والنظام معتزلي جلد، وخصومات أهل السنة معه؛ بل تكفير كثير منهم له لا يخفى. ومع ذلك فالحق، على الأقل كما اقتنع به الجويني، أحق أن يتبع… ولكن؛ من لنا بأمثال الجويني!

ولا شك أننا نحن المعاصرين أتيحت لنا نعمة النظر في التراث الأصولي نظرا ناقدا من حيث الجملة والتفاصيل؛ وهي فرصة لم تتح بهذا الشكل للأجيال المتعاقبة من المتقدمين[9].

2. الاحتكام إلى وظيفة علم أصول الفقه باعتبارها معيارا لتقويم الموروث الأصولي والمدخل الطبيعي لتجديد العلم 

إذا كان تجديد علم أصول الفقه يصح أن يدخل إليه من مداخل متعددة كمدخل المنهج أو القضايا والمضامين أو التبويب والعرض؛ وهي المداخل التي يلج منها الآن كثير من الدارسين المقتنعين بضرورة تجديد أصول الفقه؛ فإن هناك مدخلا قد يكون من الناحية المنهجية بوصلة لكل مداخل التجديد المتصورة: إنه مدخل الوظيفة الأصلية لهذا العلم باعتبارها معيارا لتقويم ما خلفه لنا أهله عبر التاريخ من تراث ما فتيء المنصفون من الدارسين يبدون إعجابهم بدقة بنائه المنهجي وثراء مضامينه العلمية وعمق الأفكار المتداولة فيه وخاصة في معرض الاختلاف والنقد. وقد كان الوعي بهذه البوصلة واضحا عند أبي إسحاق الشاطبي الذي يستحق في نظري أن يعتبر “محتسب الأصوليين[10]” وهو يقول: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية. والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له[11].”

ومقتضى هذا المعيار، معيار الوظيفية، أنه إذا كان الغرض من علم أصول الفقه التوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية أو ما يكون وسيلة إلى ذلك فإن ما لا يخدم هذا الغرض ولا يندرج فيه ينبغي أن يعود إلى أقرب فن يليق به. ولا يستلزم هذا أي حكم مسبق على القيمة العلمية والمنهجية لهذا الصنف من المعارف المستبعد من علم أصول الفقه؛ فكثير منه في غاية الأهمية والفائدة لكن حيث ينبغي أن يكون.

وقد تختلف نظرة الباحثين إلى جدوى تقويم التراث الأصولي انطلاقا من وظيفة علم أصول الفقه، وبعضهم قد يتساءل لم استمر، إذن، على شاكلته منذ زمن فحول الأصوليين في القرنين الرابع والخامس إلى قريب من عصرنا هذا إذا كان الأمر يحتاج إلى تصحيح؟

والجواب عن هذا أن ظاهرة ابتعاد كثير من العلوم الشرعية عن مقاصدها ووظائفها بمقادير وكيفيات متفاوتة ظاهرة غير مستغربة، ومردها ببساطة إلى أن العقل البشري محكوم في تعامله مع الوحي بمؤثرات مختلفة منها ما يتعلق بالأفراد كدرجة الرسوخ العلمي، ومعرفة الواقع، ومقدار التحرر من أهواء النفس، ومنها يتعلق بالمجتمع كسقف المعرفة المتاحة للناس في مرحلة تاريخية معينة، والتأثير الفكري والقيمي للتثاقف بين المجتمعات، ونوع التدافع العقدي والمذهبي والسياسي الذي تنتج المعرفة في حضنه وتحت ظله…

 وقد عبرت عن الوعي بما أصاب علم أصول الفقه من علل مؤلفات مستقلة وإشارات متناثرة في ثنايا الكتب في مرحلة مبكرة نسبيا من تطور العلم؛ لكن اقتحام عقبة التصحيح والتجديد الفعلي يتطلب شروطا نفسية وثقافية واجتماعية لا تجتمع بسهولة؛ خاصة أن المجال هو علوم الشريعة، وغلبة إحسان الظن فيه بالسابقين أقوى والتهيب من الابتداع فيه أشد. وقديما عاب أبو حامد الغزالي (ت 505ﻫ) على الأصوليين إسرافهم في خلط مباحث العلم بقضايا لا تفيده من علم الكلام وعلم النحو ومن تفاريع الفقه؛ لكنه لم يستطع التخلص من بعضها تماما واعترف بصعوبة ذلك فقال: “وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه؛ لأن الفطام عن المألوف شديد، والنفوس عن الغريب نافرة[12].”

وأكد هذا المعنى من جديد وهو يستهل الكلام في بعض هذا المألوف الشديد على النفس مفارقته؛ وهي المقدمات المنطقية التي سماها مدارك العقول؛ فصرح بأنها ليست من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به؛ فمن شاء ألا يكتبها فليبدأ بالقطب الأول من الكتاب[13]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صعوبة الخروج عن المألوف مشتركة بين العالم والمتعلم؛ فالعالم لا يجرؤ على مخالفة ما جرى عليه متقدموه ومعاصروه في التأليف طريقة ومضمونا، والمتعلم لا ينظر بعين الاطمئنان إلى ما لم يألفه ولا يستأنس به بسهولة، وقد يظن بالمؤلف عجزا أو قصورا عن مجاراة غيره من أكابر العلماء.

وظيفة علم أصول الفقه إذن حينما تصبح معيارا لمشاريع تجديده ستوقفنا على مباحث كثيرة فيه تشكل إقحاما أو استطرادا[14] وبوسعنا أن نستغني عنها لتجد لها مكانا في تاريخ العلم أو في مقدماته المعرفية أو ما سوى ذلك من تصنيف منهجي بحيث يترك الخوض فيها للمتخصصين. ويقابل هذا أننا سنجد حاجة حقيقية إلى إضافة مباحث تظهر فائدتها في الاستنباط الفقهي أو التوسع فيها لعدم كفاية القدر المتداول منها في علم الأصول في تنمية ملكة الاجتهاد والاستنباط.

3 . التوجه إلى الأولويات البحثية في العلم

البحث العلمي يتجه في العادة نحو غايتين: سد حاجات العلم نفسه، وسد حاجات المجتمع التي لها صلة بهذا العلم. وكل سعي في تحقيق إحدى الغايتين ينعكس تلقائيا على تحقيق الأخرى. فالضبط المنهجي لقواعد العلم والصياغة العلمية لها يجعله فاعلا ومؤثرا في الواقع، كما أن اقتحام هذا العلم لغمار الواقع قصد إيجاد حلول لمشاكله وسد حاجاته يكشف حدود العلم ومظاهر الخلل فيه وحاجاته الذاتية التي لم تلبّ بعد.

فأما الواقع، فإن الأمة الآن تقع في دوامة من المشاكل والتحديات؛ ذلك أن “القضايا الفقهية التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة يجب أن تواكب مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة في شتى مجالات الحياة، ومختلف المظاهر والتجليات من أخمص قدم الأمة إلى مفرق رأسها: في القضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والمالية، والعلاقات الدولية؛ للتمازج بين الأمم والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات والتطاول إلى فضاء المعتقدات. وقد أصبحت الأنظمة الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات والمعاملات جزءًا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه اسم العولمة والعالمية. كل ذلك يدعو إلى التجديد في الأصول لتصحيح الفروع حتى تكون سليمة؛ لأنها مبنية على أصول صحيحة. فلا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه؛ إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول[15].”

وأما العلم في ذاته، فإن هناك مجالات لا تزال بحاجة إلى بحث عميق سواء تعلق الأمر بالمصادر أو بالمنهج أو القضايا. فمصادر التشريع يرسف جزء كبير من مباحثها في أغلال جدل عقيم لم يلتفت الفقهاء غالبا إليه؛ لأنهم أدركوا أن علم الأصول في كثير من الأحيان علم للجدل ونصرة المذهب. فهذا الإجماع، مثلا، لا يكاد يخرج الدارس له في علم الأصول بشيء يشفي الغليل، بينما قارب فيه الفقهاء وسددوا. وهذه المصلحة يحتد النقاش في كتب الأصول حول مشروعيتها ودليليتها ويتهم الجمهور المالكية بالإفراط فيها في حين لا يقوم غير المالكية ولا يقعدون إلا بها كما لاحظ ذلك الشهاب القرافي (ت 684ﻫ)[16]. وبعض الأدلة تعزل عن موقعها الطبيعي فتضعف وظيفتها الأصولية كشرع من قبلنا حين يعزل عن القرآن الكريم وقول الصحابي وعمل أهل المدينة حين يعزلان عن السنة… وفي السنة النبوية قضايا كثيرة لما يحرر فيها القول على الوجه المطلوب كما هو الشأن، مثلا، في تمييز أحوال النبي، صلى الله عليه وسلم، ومقامات تصرفاته بين التشريعي وغيره…

 ومما هو أيضا مجال للتحرير والتقعيد والضبط قضايا تحقيق المناط في واقع مختلف جذريا عن واقع كان فيه الفقه الإسلامي باسطا جناحه على الأمة مرجعية وتشريعا، وكانت المجتمعات فيها شبه متجانسة ثقافة وقيما، وكانت الأوضاع فيها والعلاقات والمعاملات أقرب إلى البساطة والاستقرار. هذه مجرد أمثلة المقصود منها لفت النظر إلى قضايا ينجم عن تحقيق القول فيها تطوير لمفاهيم العلم وتفعيل لدوره التشريعي في حياة الأمة.

وختاما لهذه الخلاصات تجدر الإشارة إلى أن هناك عاملا لا يقل أهمية عما ذكر من شروط لنجاح الجهود التجديدية في علم أصول الفقه؛ وهو متابعة مسار تقريبه وتيسيره للمبتدئين وغير المتخصصين. فإشاعة هذه الثقافة العلمية توسع قاعدة المهتمين والباحثين، وهذا بدوره يخلق حاجة إلى المزيد من التطوير تنظيرا وتطبيقا فلا يسوغ بحال أن تكون حاجة بهذه الأهمية في نهضة الأمة عملا نخبويا محضا.

 الهوامش


[1]. هناك تصورات تعتبر أن علم أصول الفقه والعلوم الشرعية، بصفة عامة، لا تحمل في ذاتها إمكانية التجديد من الداخل. وهذه التصورات ليست موضوعا للدراسة في هذا المقال بغض النظر عن منطلقاتها؛ فقد يصل إلى هذه النتيجة من يسلم من حيث المبدأ بوجود أصول قطعية للفقه مصدرها الوحي، لكن انحرف عن استلهامها مسار العلم، وكذا من لا يؤمن بمصدر غير بشري للمعارف والعلوم، فتكون الحاجة عنده إلى القطيعة المعرفية مع هذا التراث من باب أولى لتغير الأطر الاجتماعية للمعارف والقيم.

[2]. محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، الرياض: دار الشواف للنشر والتوزيع، ط6، 1995م. وقد كتبت مقدمة الطبعة الأولى في تموز (يوليوز) 1949م.

[3]. كان لمجلة “المسلم المعاصر” فضل السبق إلى مناقشة هذه القضية في أعدادها الأولى مع اتجاه عام عند من أيدوا فكرة التجديد يتصوره إصلاحا وتطويرا للموروث الأصولي، بينما نحى د. حسن الترابي في رسالته “تجديد أصول الفقه” (جدة: الدار السعودية، ط1، 1984م) منحى أكثر تحررا من الموروث الأصولي مركزا على الظروف التاريخية التي نشأ وتبلور فيها، وطبيعة القضايا التي توجه إليها البحث الفقهي في الغالب. ولعل نقطة ضعف د. الترابي في هذه المحاولة أنه لم يطورها معتمدا على نماذج تطبيقية مما جعل النقاش والردود حول رسالته يتوجه إلى عبارات فيها محتملة لأكثر من معنى. ولأخذ تصور واضح عن اتجاهات التجديد في علم أصول الفقه وقضاياه انظر: علي جمعة، قضية تجديد أصول الفقه، القاهرة: دار الهداية للنشر والتوزيع، 1993م.

[4]. المشروع التجديدي لأبي إسحاق الشاطبي (ت 970ﻫ)، مثلا، لم يترك أثرا يذكر في عصره ولا فيما تلاه من العصور إلى أن اكتشفه المحدثون.

[5]. علي جمعة، تجديد علم أصول الفقه: الواقع والمقترح، مجلة المسلم المعاصر، عدد مزدوج 125/126. السنة الثانية والثلاثون. ربيع الثاني- رمضان 1428ﻫ/ أبريل-سبتمبر 2007م.

[6]. عنوان مؤلف جماعي يشرف عليه المعهد العالمي للفكر الإسلامي يقدم مباحث علم أصول الفقه أو معظمها وفق نظرة تجديدية، وينتظر صدوره قريبا.

[7]. أي أبي الحسن الأشعري رحمه الله.

[8]. البرهان في أصول الفقه،  تحقيق: عبد العظيم الديب، المنصورة: دار الوفاء، ط2، (1418ﻫ/1997م)، 1/574.

[9]. تأمل، مثلا، كيف اشتط الأصوليون الأشاعرة في إنكار التحسين والتقبيح بالعقل بسبب ضغط الصراع مع المعتزلة مع أن الماتريدية توسطوا في الأمر. فلم تكن المسألة مجرد مسألة دليل وبرهان؛ إذ دليل الماتريدية موافق للعقل والشرع معا لكن بيئة الصراع المذهبي والتهرب من إلزامات الخصم توصل أحيانا إلى المكابرة.

[10]. قياسا على الشيخ أحمد زروق البرنسي الفاسي (ت 899ﻫ) الذي لقب بمحتسب الصوفية.

[11]. الموافقات،  ضبط نصه وقدم له وعلق عليه حسن مشهور آل سلمان، الخبر (السعودية): دار ابن عفان، ط، (1417ﻫ/1997م). 1/37.

[12]. المستصفى، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، دمشق-بيروت: مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، (1431ﻫ/2010م)، 1/43.

[13]. المصدر نفسه، 1/45. والقطب الأول من كتاب المستصفى هو “الحكم الشرعي”.

[14]. الأمثلة على ذلك كثيرة منها ما نص عليه المتقدمون كالمباحث الكلامية التي لا ثمرة لها في الفقه، ومنها، أيضا، الخلافات التي تؤول إلى اللفظ والاصطلاح، ومنها القضايا التي تبدو نظريا ذات صلة بالفقه لكن لا تحقق لها في الخطاب الشرعي.

[15]. الشيخ عبد الله بن بيه، إثارات تجديدية في حقول الأصول، الرياض: دار وجوه للنشر والتوزيع، ط1، (1434ﻫ/2013م)، والعبارة التي تحتها خط هي اقتباس من أبي حامد الغزالي في مقدمة كتابه “المنخول من تعليقات الأصول“، تحقيق محمد حسن هيتو، دمشق: دار الفكر. ط2، (1400ﻫ/1980م)، ص3.

[16]. انظر مثلا كتابه: شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، اعتنى به: ناجي سويد. صيدا -بيروت: المكتبة العصرية، ط1، (1432 هـ/2011م).

Science

د. أحمد السنوني

دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية والحديث من دار الحديث الحسنية في موضوع «تطور علم أصول الفقه من “رسالة” الإمام الشافعي إلى “واضح” ابن عقيل الحنبلي: مباحث من الإجماع نموذجا».
– الأمين العام المساعد للرابطة المحمدية للعلماء.
– عضو جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية.
– عضو دائرة الرباط العلمية للبحث في الدراسات الإسلامية (كلية الآداب بجامعة محمد الخامس- أكدال).
– عضو فريق مشروع تأليف تجديدي في علم أصول الفقه (التجديد الأصولي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق