مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةشذور

نص أشعري في الفرق بين الرضا بالقضاء وعدم الرضا بالمقضي

يقول الإمام القرافي (ت.684هـ) في «فروقه»(1):

«اعلم أن كثيرا من الناس يلتبسان عليه؛ فلا يفرق بين السخط بالقضاء وعدم الرضا به، والسخط بالمقضي وعدم الرضا به.

اعلم أن السخط بالقضاء حرام إجماعا، والرضا بالقضاء واجب إجماعا بخلاف المقضي، والفرق بين القضاء والمقضي والقدر والمقدور أن الطبيب إذا وصف للعليل دواء مُرا، أو قطع يده المتآكلة، فإن قال: بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، وكان غيرُ هذا يقوم مقامَه مما هو أيسر منه فهو تسَخُّط بقضاء الطبيب وأذية له وجناية عليه بحيث لو سمعه الطبيب كره ذلك وشُقَّ عليه، وإن قال: هذا دواء مُرٌّ قاسيت منه شدائد، وقطعُ اليد حصل لي منها آلام عظيمة مبرحة، فهذا تسخّط بالمقضي الذي هو الدواء والقطع، لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، فهذا ليس قدحا في الطبيب ولا يؤلمه إذا سمع ذلك، بل يقول له: صدقت، الأمر كذلك. فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء بل عدم رضا بالمقضي.

وإن قال: أي شيء عملت حتى أصابني مثل هذا، وما ذنبي، وما كنت أستأهل هذا، فهذا عدم رضا بالقضاء. فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض عليه في ملكه.

وأما إنَّا أُمِرنا بأن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فليس كذلك، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه. ولم يؤمر الأَرْمَدُ باستطابة الرَّمَد المؤلم، ولا غيره من المرض، بل ذم الله قوما لا يتألمون ولا يجدون للبأساء وقعا فذمّهم بقوله تعالى: ﴿ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون﴾ [المؤمنون: 76] فمن لم يسكن ولم يذلَّ للمؤلمات ويظهر الجزع منها ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير. فالمقضي والمقدور أثر القضاء والقدر، فالواجب هو الرضا بالقضاء فقط.

أما المقضي فقد يكون الرضا به واجبا كالإيمان بالله تعالى […] وقد يكون مندوبا في المندوبات وحراما في المحرمات ـ والرضا بالكفر كفر ـ ومباحا في المباحات.

وأما بالقضاء فواجب على الإطلاق من تفصيل فمن قضي عليه بالمعصية أو الكفر الواجبُ عليه أن يلاحظ جهة المعصية والكفر فيكرههما، وأما قدر الله فيهما فالرضا به ليس إلا، ومتى سخطه وسفه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية أو كفرا منضما إلى معصيته وكفره على حسب حاله في ذلك…

فتأمل هذه الفروق، وإذا وضحت لك فاعلم أن كثيرا من الناس يعتقد أن الرضا بالقضاء إنما يحصل من الأولياء وخاصة عباد الله تعالى لأنه من العزيز الوجود، وليس كذلك؛ بل أكثر العوام من المؤمنين إنما يتألمون من المقضي فقط.

وأما التوجه إلى جهة الربوبية بالتجوير والقضاءِ بغير العدل، فهذا لا يكاد يوجد إلا نادرا من الفجار والمردة، وإنما يبعث هؤلاء على قولهم أن الرضا بالقضاء إنما يكون من جهة الأولياء خاصة أنهم يعتقدون أن الرضا بالقضاء هو الرضا بالمقضي وعلى هذا التفسير هو عزيز الوجود بل هو كالمتعذر، فإنا نجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تألم لقتل عمه حمزة وموت ولده إبراهيم ورمي عائشة بما رميت به إلى غير ذلك؛ لأن هذا كله من المقضي ونجزم بأن الأنبياء عليهم السلام طباعهم تتألم وتتوجع من المؤلمات وتسر بالمسرات، وإذا كان الرضا بالمقضيات غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى، فالرضا بهذا التفسير لا طمع فيه، وهذا التفسير غلط بل الحق ما تقدم، وهو متيسر على أكثر العوام من المؤمنين فضلا عن الأنبياء والصالحين، فاعلم ذلك».

هذا النص النفيس لأحد أئمة المذهب المالكي في زمانه وعلم من أعلام الأشعرية في وقته قمين باهتبال مضامينه مناسبةً لما يكابده المسلمون وغيرهم في هذه الفترة العصيبة من جائحة تريد أن تجتاح العالم بأكمله. وهو نص كاف من حيث منطوقاته وعباراته في المَسْك بالفروق المائزة بين الرضا بالقضاء والقدر الواجب شرعا وبين عدم الرضا عند نزول الرزايا والبلايا بالناس على ما يجدونه من الألم والحزن بسببها وما قد يلفظونه من أقوال تترجم الإحساس بالوجع أو الضجر وكراهة المقضي.

وما يتضمنه هذا النص من فوائد، سنوردها ملخصة مصفوفة، يُعتبر وصفة معرفية علاجية لمن عاجوا عن الفهم الصحيح لمحل الرضا بالقضاء والقدر ودلالاته ونواقضه، أو لمن أخال عليهم الأمر فلم يفرقوا بين الإيمان بالقضاء والقدر من جهة صدورهما عن الصفات القديمة للباري تعالى من علم وإرادة وقدرة وما يستوجبه من الرضا بالقضاء والإذعان له، وبين الإيمان بالمَقضيات والمقدورات والتي يجوز في حقها ـ إن كانت من جملة البلايا والمصائب ـ عدمُ الرضا بما قد يكتنفه من الكراهة أو الأسف أو الحزن، بل بما يستلزمه من ضرورة السعي في اتقائها قبل وقوعها أو الاجتهاد في رفعها عند نزولها؛ فلم يكلّف المسلمُ الرضا بالمصائب والنوائب واستحسانها، وإنما أمِر بالتصديق بكونها من الله تعالى ـ ﴿خالق كل شيء﴾ والخضوعِ لجلاله وسلطانه بالتسليم والإذعان والمسارعة إلى الطاعة والامتثال؛ وإلا ما نهض إلى العمل من يستعذب قوارص الفقر، ولا طلب الدواء من يرضى بأوجاع الأمراض والأسقام، وما جدَّ من الطلاب من يستحسن الرسوب، ولا فر من البطالة من يستطيب المهانة.. فإن الأصل في هذه الأوضاع العصيبة عدم الرضا ليكون ذلك حافزا للناس ودافعا إلى الكد والسعاية في طلب الحلول والعلاج للانسلاخ من المؤلمات والظفر بالمفرحات، وفق منظومة المصالح والمفاسد التي جاء بها الشرع الحنيف.

وفيما يلي نقدم معاقد هذه الرؤية الكلامية من خلال تلخيص أهم الفوائد والقواعد التي شملها نص الإمام القرافي:

ـ أولا: القضاء غير المقضي، والقدر غير المقدور؛ فالقضاء أو القدر(2) هو تقدير الباري تعالى الممكناتِ بحسب العلم والإرادة وإخراجُها بالقدرة من العدم إلى الوجود، وأما المقضِيات والمقدورات فهي آثار للقضاء والقدر سواء كانت متعلقة بكسب الإنسان أو مما يخرج عن كسبه من الكوارث وضروبها؛ فالواجب الرضا بالقضاء والقدر وعدم السَّخط، وأما أثرهما من المقدورات والمقضيات ـ إن دخل في باب المصائب ـ فلا يجب الرضا به.

ـ ثانيا: إحساس الإنسان بالألم من الأمراض أو الأسى من الرزايا والبلايا لا ينافي الرضا بالقضاء، بل هو محض ما تفيض به طباع البشر من الحزن والألم عند وقوع الفواجع، أو من الفرح والحبور عند نزول المنافع، وهذا لا حرج فيه من جهة الاعتقاد.

ـ ثالثا: ليس من هدي الشريعة تكليف الناس باستطابة ما ينفر منه الطبع والسليقة من المكاره والفواقر، بل المطلوب منهم إظهار الذل والمسكنة لله عز وجل عند نزولها والتوجه إليه تعالى بالأسباب المادية والمعنوية لتجاوز الإحن والمحن.

ـ رابعا: حد الخروج من عدم الرضا بالمقدورات إلى السخط بالقدر هو إظهار العَتْب على خالقها والشكوى من مُقدرها، وهذا فيه إخلال بمقومات الإيمان بالقضاء والقدر من حيث التسليم والتعظيم وترك الاعتراض والإنكار. ومن وقع في هذا الخلل العقدي كان على حافة خطر جسيم على إيمانه؛ فإن الشعور بالسخط وإظهار الاعتراض على قدر الله هو تصدّع في بنيان الإيمان يوشك أن يتداعى.

ـ خامسا: تجاوز الإنسان حد الشكوى والاعتراض على القضاء ـ على خطرهما ـ إلى اتهام الباري تعالى بالظلم والجور في حقه فجورٌ مخرج للإنسان من الإيمان إلى الكفر(3)، لمنافاته الإيمان والتصديق بأن الله سبحانه ﴿فعال لما يريد﴾ ولا يجب عليه شيء. ولا ينسحب هذا الحكم على المعتزلة لأن مذهبهم إيعاز خلق الأعمال القبيحة إلى العباد لا إلى الله تعالى، على ما هو معروف في مسألة التحسين والتقبيح.

ـ سادسا: يعتور الرضا من عدمه بالمقضيات والمقدورات الأحكام الخمسة؛ فقد يكون واجبا كالإيمان بالله تعالى وبعثة الأنبياء، ومندوبا في المندوبات كإقامة السنن وتوزيع الصدقات، وقد يكون حراما أو مكروها كالرضا بالكفر واستحسان الاعتراك في المساجد، أما بخصوص المباحات فالرضا بالمقضي أو عدمه من المباح.

ـ سابعا: ليس ما يصدر من عوام المؤمنين من الجزع لبعض صروف الدهر ونوائبه مما يفيد السخط بالقضاء والقدر، وإنما هو من باب الحزن والألم من مكروه المقضيات.

ـ ثامنا: ليس صحيحا أن الرضا بالقضاء والقدر مرتبة عزيزة لا يصل إليها إلا الأولياء والخاصة من المتعبدين، بل يستوي في ذلك جميع المؤمنين، وإنما قد يتفاضلون في الرضا أو عدم الرضا بالمقضي(4).

ـ تاسعا: يشترك الأنبياء والمرسلون مع عامة المؤمنين في الشعور بالألم والحزن من المؤلمات والمفجعات، أو بالفرح والابتهاج بالمسرات والمفرحات.

والذي يستفاد جملة من هذا النص التراثي الأشعري الذي ضمنه الإمام القرافي في فروقه أن الإسلام لا يحاسب المسلم على ما يصدر منه من ردود أفعال غريزية تمليها سجية الإنسان وطبعه من ألم وحزن أو خوف وكراهة عند وقوعه في البلايا والمصائب، فهذا مما لا يتمالكه الإنسان ولا يطيقه، ولذلك لم يكلف شرعا بالرضا بهذه المقضيات بخلاف الرضا بالقضاء والقدر جملة من جهة صدورهما عن الباري تعالى بترتيب منه وتقدير وفق الإرادة القديمة والعلم الأزلي.

وهذا التمييز بين الرضا بالقضاء والقدر وبين عدم الرضا بالمقضيات والمقدورات يرفع إشكالا عقديا عند الكثير من الناس ممن يلتبس عليه الأمر فيحاول أن يحمل نفسه أو غيره ما لا تطيقه النفوس ولم يأمر به الشرع. وقد التقط هذا التفريق السديد من جاء بعد القرافي، فاعتبره بعضُ العلماء من المتكلمين فائدة (5) خليق بالواقف على مسائل العقيدة الاستفادة منها لتصحيح اعتقاده في هذا الباب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنوار البروق في أنواء الفروق، القرافي شهاب الدين، دراسة وتحقيق: سراج محمد أحمد ـ علي جمعة محمد، دار السلام، القاهرة، ط1، 1421هـ ـ 2001م، ج4، ص. 1359 ـ 1360.
(2) القضاء عند الأشاعرة هو إرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال، فهو من صفات الذات عندهم. أما القدر فهو إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين أراده تعالى، فيرجع عندهم لصفة فعل، لأنه عبارة عن الإيجاد وهو من صفات الأفعال. وعند الماتريدية يراد بالقدر ما يراد بالقضاء عند الأشاعرة، وبالعكس.
راجع حاشية الباجوري على جوهرة التوحيد، تح: علي جمعة، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ ـ 2002م، ص. 188 ـ 189.
(3) راجع في هذا الحكم: عقيدة أبي بكر المرادي الحضرمي، تحقيق وتقديم: جمال علال البختي، مركز أبي الحسن الأشعري، سلسلة ذخائر من التراث الأشعري المغربي(2)، تطوان، ط1، 1433هـ ـ 2012م، ص 285.
(4) اعتبر المرادي أن سكون النفس عند الإصابة بإحدى البلايا والرزايا درجة عالية وصل إليها نبي الله أيوب عليه السلام. راجع المصدر السابق، ص. 286.
(5) راجع: المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية، اليفرني أبو الحسن، تقديم وتحقيق: جمال علال البختي، مركز أبي الحسن الأشعري، سلسلة ذخائر من التراث الأشعري المغربي(7)، تطوان، ط1، 1438هـ ـ 2017م، المجلد الثاني، ص. 1019.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق