مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَقِصَّةُ إِسْلَامِ عَمْرو بْنِ الجَمُوح رضي الله عنهما

 

 

 

إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

لَمَّا أَشْرَقَتْ جَزِيرَةُ العَرَبِ بِنُورِ الهُدَى وَالحَقّ، كان الغُلام اليَثْرِبي([1]) معاذ بن جبل فتًى يافعاً، وكان يمتاز عن أَتْرَابِهِ بِحِدَّةِ الذَّكَاءِ، وَقُوَّةِ العَارِضَةِ([2])، وَرَوْعَةِ البَيَانِ، وَعُلُوِّ الهِمَّةِ.

وكان إلى ذلك، قَسيماً وَسيماً([3]) أَكْحَلَ العَيْنِ، جَعْدَ([4]) الشَّعَرِ، برَّاقَ الثَّنايا، يَمْلأُ عيْنَ مُجْتَلِيهِ([5]) وَيَمْلِكُ عليه فُؤَادَهُ.

أَسْلَمَ الفَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ على يَدَي الدَّاعية المَكِّي مُصعبِ بْنِ عُميرٍ. وفي ليلة العَقَبَةِ امْتَدَّتْ يَدُهُ الفَتِيَّةُ فَصَافَحَتْ يَدَ النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وَبَايَعَتْهُ؛ فقد كان معاذٌ مع الرَّهْط الاثْنَيْنِ والسَّبْعِينَ الَّذِينَ قَصَدُوا مَكَّةَ؛ لِيَسْعَدُوا بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَيَشْرُفُوا ببيعته، وَلِيَخُطُّوا في سِفْر التاريخ أروع صفحة وَأَزْهَاهَا.

وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينة حتى كَوَّنَ هو ونفرٌ صغيرٌ من لِدَاتِه جماعةً لِكَسْرِ الأوْثانِ، وانتزاعها من بيوت المشركين في «يثرب» في السِّرِّ، أو في العَلَن، وكان منْ أَثَرِ حَرَكَةِ هؤُلاء الفِتْيانِ الصِّغار أن أسْلم رجلٌ كبيرٌ من رجالات «يَثْرِب»، هُوَ عَمْرو بن الجَمُوح([6]).

كان عمرو بن الجَمُوح سَيِّدَ بني «سَلِمَةَ»([7])، وشريفاً من أشرافهم.

وكان قد اتَّخَذَ لنفسه صنماً من نَفِيسِ الخَشَب كما يَصْنَعُ الأشرافُ.

وكان شَيْخُ بني «سَلِمَة» يُعْنَى بِصَنَمِه هذا أشَدَّ العناية فَيُجَلِّلُهُ بِالحَرِيرِ، ويُضَمِّخُه([8]) كُلَّ صباحٍ بالطِّيب.

فقام الفِتْيَانُ الصِّغار إلى صَنَمِهِ تَحْتَ جُنْحِ الظَّلام وَحَمَلوه من مكانه، وخرجوا به إلى خَلْفِ مَنَازِلِ بَنِي «سَلِمَةَ»، وأَلْقَوْهُ في حُفْرَةٍ كانت تُجْمَعُ فيها الأقذارُ، فلمَّا أصبح الشيخ افتقد صنمه فلم يجده، وبحث عنه في كلِّ مكانٍ حتَّى ألفاه مُكِبّاً على وجهه في الحُفْرَةِ غَارِقاً في الأَقْذَاِر فقال: وَيْلَكُمْ مَنْ عَدَا على إِلَهِنَا في هذه اللَّيْلَةِ؟!.

ثُمَّ أَخْرَجَهُ وغَسَلَهُ، وطَهَّرَهُ، وطَيَّبه، وأعاده إلى مكانه، وقال له: أيْ «مَنَاة»([9])، والله لو أنِّي أعلم مَنْ صَنَعَ بك هذا لَأَخْزَيْتُه، فلمَّا أمْسى الشيخ ونام تسلَّلَ الفِتْيَةُ إلى صَنَمِهِ وَفَعَلُواْ به ما فَعَلُوهُ في اللَّيلة السَّابقة.

فما زال يَبْحَثُ عنه حتى وجده في حُفرة أخرى مِن تلك الحفر، فأخرجه وغَسَلَهُ، وطهَّرَهُ وعطَّرَهُ وتوعَّدَ([10]) مَنْ عَدَوْا عليه أَشَدَّ الوَعِيدِ، فلما تَكرَّرَ ذلك منهم اسْتَخْرَجَه مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ، وغَسَلَه، ثم جاء بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عليه، وقال يُخاطبه: والله إنِّي ما أعْلَمُ مَنْ يَفْعَلُ بك هذا الذي تَراه، فإن كان فيك خيرٌ- يا «مَنَاةُ»- فادْفَعْ عن نَفْسِكَ، وهذا السَّيْفُ مَعَكَ.

فلما أَمْسَى الشَّيْخُ وَنَامَ، عَدَا الفِتْيَةُ على الصَّنَمِ، وأخذُوا السَّيْفَ المُعَلَّق في رَقَبَتِهِ، وَرَبَطُوهُ بِعُنُقِ كَلْبٍ مَيِّتٍ وأَلْقَوْهُمَا في حُفْرَةٍ مِنْ تِلْكَ الحُفر، فلمَّا أَصْبَحَ الشَّيْخُ جَدَّ في طَلَبِ صَنَمِهِ حتى وَجَدَهُ مُلْقًى بين الأَقْذَارِ مَقْرُوناً بِكَلْبٍ مَيِّتٍ مُنَكَّساً على وجهه، عند ذلك نظر إليه وقال:

تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلهاً لَمْ تَكُنْ    **    أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ([11]).

ثُمَّ أَسْلَمَ شَيْخُ بني «سَلِمَة» وَحَسُنَ إسلامُهُ([12]).

العبر المستخلصة من هذه القصة:

1-  امتياز معاذ بن جبل رضي الله عنه، بصفات جليلة، منها: حدَّةُ الذَّكاء، وسرعة البديهة، وروعة البيان، وعلوُّ الهمَّة.

2-  صحبة الأخيار تجلبُ الخير، وتُعْلي المِقْدار، وتُجْلِي الأَغْيار.

3-  مبايعة معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم، ومُصافحته له؛ عنوان الفوز الدنيوي والأخروي.

4- الانضمام إلى جماعة الخير والصلاح، خيرٌ وبركة، لقوله تعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين)([13]).

5-  التعاون على الخير خَيْرٌ، والتعاون على الشَّرِّ شَرٌّ، لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَان)([14]).

6- عَمْرو بن الجَمُوح يُسْلِمُ على يَدِ هذه الجماعة الصَّالحة التي تَضُمُّ معاذاً وغيره، بَعْدَ عِبَادَتِهِ لِلأصْنَام.

7-  العِنَايَةُ بِالأَصْنَامِ، والتَّعَلُّقُ بها، خَوَارٌ وضياعٌ، وَعَبَثٌ، لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون)([15])، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير)([16]).

8-  الإِصْرَارُ على تحقيق النَّفْعِ العَامِّ مِنْ شِيَم الكِرَام.

9- تَزْيِينُ البَاطِلِ لا يَدُوم مع صَوْلَةِ الْحَقِّ لقوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)([17]).

 والحمد لله رب العالمين

 


([1]) اليَثْرِبِي: نسبة إلى يَثْرِب، وهي المدينة المنورة.

([2]) قوَّة العَارِضة: قوَّة البديهة وروعة البيان.

([3]) قسيماً وسيماً: بهي الطَّلعة، جميل الملاَمح.

([4]) جَعْدُ الشَّعر: ذو شعر أَجْعَد وضِدُّهُ: سَبِطُ الشَّعْرِ.

([5]) مُجْتَلِيه: النَّاظر إليه.

([6]) هو: عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب، عقَبِي، بدْري، أُحُدِي، من سادات الأنصار. أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: سيِّدكم الجَعْدُ الأبيض: عمرو بن الجموح، استشهد بأُحُد. انظر: الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار؛ لابن قُدامة المقدسي: 153، أسد الغابة: 3/ 203، سير أعلام النبلاء: 1/ 252.  

([7])  سَلِمَة: بكسر اللام، انظر: تهذيب الأسماء واللغات؛ لمحيي الدين النووي: 2/ 25.

([8]) يُضَمِّخُهُ: يَدْهَنُهُ، ويُطَيِّبُهُ.

([9]) أَيْ مَنَاة: يا مناة، وهو اسم صَنَمِه.

([10]) تَوَعَّدَهُ: أَنْذَرَهُ بالشَّرّ.

([11])  في قَرَن: أي مربوطاً معه في حَبْلٍ واحد.

([12]) من كتاب: (صور من حياة الصحابة)؛ لمؤلفه: الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا، ص: 493، 494، 495.

([13]) سورة: التوبة، آية: 119.

([14]) سورة: المائدة، من آية: 2.

([15]) سورة: الأنبياء، آية: 98.

([16]) سورة: فاطر، الآيتان: 13- 14.

([17]) سورة: الإسراء، آية: 81.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق