مركز الدراسات القرآنيةشذور

من وجوه الاستدلال في القرآن الكريم شذرات من تفسير التحرير والتنوير للإمام الطاهر ابن عاشور

الاستدلال لغة هو طلب الدليل[1]، وقد يكون ذلك من السائل؛ لأنه يطلب الدليل من المسؤول، وقد يكون من المسؤول؛ لأنه يطلب الدليل من الأصول والمظان[2].
وأما الاستدلال في الاصطلاح فيفيد تقرير ثبوت الأثر لإثبات المؤثر، أو هو تقرير الدليل لإثبات المدلول؛ سواء كان ذلك من الأثر إلى المؤثر، أو العكس، أو من أحد الأثرين إلى الآخر[3].
وبوجه عام: الاستدلال هو استنتاج قضية من قضية أو عدة قضايا، أو هو الوصول إلى حكم جديد مغاير للأحكام التي استنتج منها، ويكون ذلك عن طريق الانتقال من المعلوم إلى المجهول عن طريق مقدمات معلومة[4].
والاستدلال في القرآن الكريم قائم على إيراد أدلة وحجج « من الكلمات اللطيفة المؤثرة في القلوب المقنعة للنفوس، دون التغلغل فى التقسيمات والتدقيقات التى لا يفهمها أكثر الناس»[5]؛ لأجل إثبات قضايا مجهولة مستنتجة من قضايا معلومة، كما سيتضح من خلال الأمثلة الآتية:

من وجوه الاستدلال في القرآن الكريم:

الاستفهام بصيغة الخطاب الموجه إلى المخاطبين؛ بقصد إلزامهم بالإقرار بالحق وتنبيههم على أخطائهم.
البدء في الاستدلال بالدليل الإجمالي الجامع لما يأتي من التفاصيل؛ بقصد ابتداء النظر في التحقيق في الموضوع، ثم تأتي بعده الأدلة التفصيلية.
قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى ﴿قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾:
((هذا مما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقوله، فأمر أن يقول: «الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى» تمهيداً لقوله: »آللَّه خير أما تشركون»؛ لأن العباد الذين اصطفاهم الله جاؤوا كلهم بحاصل هذه الجملة.
وأمر أن يشرع في الاستدلال على مسامع المشركين، فيقول لهم هذا الكلام، بقرينة قوله: «أما تشركون»، بصيغة الخطاب في قراءة الجمهور؛ ولأن المناسب للاستفهام أن يكون موجهاً إلى الذين أشركوا بالله ما لا يخلق، ولا يرزق، ولا يفيض النعم، ولا يستجيب الدعاء. فليس هذا لقصد إثبات التوحيد للمسلمين.
والاستفهام مستعمل في الإلجاء وإلزام المخاطب بالإقرار بالحق وتنبيهه على خطئه. وهذا دليل إجمالي يقصد به ابتداء النظر في التحقيق بالإلهية والعبادة…وقد ناسب إجماله أنه دليل جامع لما يأتي من التفاصيل؛ فلذلك جيء فيه بالاسم الجامع لمعاني الصفات كلها، وهو اسم الجلالة، فقيل «آللَّه خير»…وهذا الكلام كالمقدمة للأدلة الآتية جميعها على هذا الدليل الإجمالي كما ستعلمه))[6]..
– الانطلاق في الاستدلال بدليل لا يسع المخالف إلا الإقرار به؛ لاستنتاج النتيجة التي فيها خلاف؛ أي الانطلاق بالمتفق عليه للاستدلال على المختلف فيه، ومن المقدمة الإجمالية إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال.
قال ابن عاشور في معرض تفسير قوله تعالى ﴿أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾:
(({أم} منقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض، مع مراعاة وجود معنى الاستفهام أو لفظه بعدها…انتقل بهذا الإضراب من الاستفهام الحقيقي التهكمي إلى الاستفهام التقريري، ومن المقدمة الإجمالية، وهي قوله: « ءالله خير أم ما يشركون» [النمل: 59]، إلى الغرض المقصود وهو الاستدلال. عدد الله الخيرات والمنافع من آثار رحمته ومن آثار قدرته. فهو استدلال مشوب بامتنان؛ لأنه ذكرهم بخلق السموات والأرض، فشمل ذلك كل الخلائق التي تحتوي عليها الأرض من الناس والعجماوات، فهو امتنان بنعمة إيجادهم وإيجاد ما به قوام شؤونهم في الحياة، وبسابق رحمته…فالاستفهام تقرير كما دل عليه قوله في نهايته في « أإله مع الله»، فهو تقرير لإثبات أن الخالق والمنبت والرازق هو الله، وهو مشوب بتوبيخ، فلذلك ذيل بقوله: «بل هم قوم يعدلون» كما سيأتي، أي من غرض الدليل الإجمالي إلى التفصيل…
وجملة «أإله مع الله» استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها؛ لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى، بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به، ينتج أنه لا إله معه…وقوله: «ما كان لكم أن تنبتوا شجرها» لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل، فهم يعدلون بالله غيره، أي يجعلون غيره عديلاً مثيلاً له في الإلهية، مع أن غيره عاجز عن ذلك…ولما كانت تلك الدلالة أوضح الدلالات المحسوسة الدالة على انفراد الله بالخلق، وصف الذين أشركوا مع الله غيره بأنهم في إشراكهم معرضون إعراض مكابرة، عدولاً عن الحق الواضح…[7].
الاستدلال بالدلائل المسلم بها؛ كالأدلة المشاهدة المنظورة، على إثبات المسألة المختلف فيها؛ مثل الاستدلال بدقائق المصنوعات وبدائع المخلوقات على قدرة الله وعلمه، وأنه خالق المخلوقات العظيمة، ومدبر نظامها لإثبات عظم القدرة وحكمة الصنع.
قال ابن عاشور في سياق تفسير قوله تعالى ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾:
(({ أم } للإضراب الانتقالي مثل أختها السابقة، وهذا انتقال من الاستدلال المشوب بالامتنان إلى الاستدلال المجرد بدلائل قدرته وعلمه بأن خلق المخلوقات العظيمة، وبتدبيره نظامها حتى لا يطغى بعضها على بعض فيختل نظام الجميع. ولأجل كون الغرض من هذا الاستدلال إثبات عظم القدرة وحكمة الصنع لم يجيء خلاله بخطاب للمشركين كما جاء في قوله في الآية قبلها: «وأنزل لكم من السماء ماء » النمل 60 الآية، وإن كان هذا الصنع العجيب لا يخلو من لطف بالمخلوقات أراده خالقها، ولكن ذلك غير مقصود بالقصد الأول من سوق الدليل هنا…
ثم ذيّل بالاستفهام الإنكاري، وبالاستدراك بجملة مماثلة لما ذُيّل به الاستدلال الذي قبلها على طريقة التكرير؛ تعديداً للإنكار وتمهيداً للتوبيخ، بقوله «بل أكثرهم لا يعلمون»، وأوثر هنا نفي صفة العلم عن أكثر المشركين لقلة من ينظر في دقائق هذه المصنوعات وخصائصها منهم؛ فإن اعتياد مشاهدتها من أول نشأة الناظر يذهله عما فيها من دلائل بديع الصنع. فأكثر المشركين يجهل ذلك ولا يهتدي بما فيه، أما المؤمنون فقد نبههم القرآن إلى ذلك فهم يقرؤون آياته المتكرر فيها الاستدلال والنظر.[8]

– تنويع مواضيع الاستدلال ومضامينه، لتشمل جميع جوانب المسألة المستدل عليها؛ كالاستدلال بالتصرف الرباني في أحوال الناس المختلفة عقب الاستدلال بتصرفه في ذوات المخلوقات.
قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾:
((ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة، وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير، وحال انتياب السوء، وحال التصرف في الأرض ومنافعها. فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر؛ وهي حالة الاحتياج، وحالة البؤس، وحالة الانتفاع…وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب، وهو ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، وهو من مسالك العلة في أصول الفقه.[9]
– الاستدلال بإيراد ما لا يسع المنكر جهله مما هو أعلم به وأعرف؛ مثل إيراد دلائل كون الله تعالى هو المتصرف في أحوال المسافرين منهم في البر والبحر فإنهم أدرى بهذه الأحوال وأقدر.
قال ابن عاشور في معرض تفسير قوله تعالى ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾:
(( بل لإضراب الانتقال من نوع دلائل التصرف في أحوال عامة الناس إلى دلائل التصرف في أحوال المسافرين منهم في البر والبحر، فإنهم أدرى بهذه الأحوال وأقدر، لما في خلالها من النعمة والامتنان…وذُيّل هذا الدليل بتنزيه الله تعالى عن إشراكهم معه آلهة؛ لأن هذا خاتمة الاستدلال عليهم بما لا ينازعون في أنه من تصرف الله، فجيء بعده بالتنزيه عن الشرك كله، وذلك تصريح بما أشارت إليه التذييلات السابقة )).[10]
– الاستدلال بالمشاهد على الغائب؛ كالاستدلال على قدرة الله تعالى على بعث الموتى من القبور للحساب بما شوهد من قدرته على خلقه أول مرة في هذه الحياة الدنيا.
قال ابن عاشور في سياق تفسير قوله تعالى ﴿أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾:
((هذا انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله تعالى بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة. وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد…
ولما كان إعادة الخلق محلّ جدل، وكان إدماجها إيقاظاً وتذكيراً، أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله: «ومن يرزقكم من السماء والأرض»…)).[11]

وحاصل أنواع الاستدلال قول ابن عاشور:

((وجماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله: « آلله خير أما تشركون» [النمل: 59]، أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده، ثم فصّلت ذلك بآيات «أمن خلق السماوات والأرض» [النمل: 60] إلى قوله: « قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين » [النمل: 64]، فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة، وهو خلق السماوات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس، ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها، وهذا ملحق بالمشاهدات.
وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة، وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار.
وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكّنهم من التصرف في الأرض، إذ جعل البشر خلفاء في الأرض، وسخر لهم التصرّف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر. وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو.
وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد، وفي مطاويها جوامع التمكن في الأرض))[12].

الهوامش:

[1] الكليات، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1419هـ – 1998م) (ص: 114).
[2] أبو إسحاق الشيرازي، اللمع في أصول الفقه (بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1424 هـ- 2003م) (ص: 5).
[3] الجرجاني، التعريفات، ضبط النصوص وتعليق محمد علي أبو العباس )(القاهرة: دار الطلائع للنشر والتوزيع، 2013م) (ص: 68)
[4] أحمد الخطيب، منهج البحث العلمي بين الاتباع والإبداع (مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 2009م) (ص: 123).
[5] محمد مرتضى الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (بيروت: دار الكتب العلمية)( 2/101).
[6] محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1420هـ/2000م) (19/283- 284).
[7] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المرجع السابق (19/285- 287).
[8] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المرجع السابق (19/287- 288).
[9] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المرجع السابق (19/288- 290).
[10] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المرجع السابق (19/291).
[11] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المرجع السابق (19/291- 292).
[12] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، المرجع السابق (19/292).

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق