من مقاصد السيرة النبوية : تزكية النفوس
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
تعد التزكية مقصدا عظيما من مقاصد الدين، ووظيفة من أجل وظائف الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) ([1])، وقال تعالى: ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ([2])، قال ابن القيم: " تزكية النفوس مسلم إلى الرسل؛ وإنما بعثهم الله لهذه التزكية، وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليما، وبيانا ، وإرشادا، لا خلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم "([3]).
وفلاح العبد في الدنيا والآخرة إنما يكون بتزكية نفسه، مصداقا لقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ([4]).
ولأهمية هذا الموضوع أحببت أن أتناوله في مقال، وقد قسمته إلى الآتي:
أولا : التعريف اللغوي والاصطلاحي لمفهوم التزكية.
ثانيا: من مقاصد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: تزكية النفوس.
وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:
أولا : التعريف اللغوي والاصطلاحي للتزكية.
يدل مصطلح التزكية في معناه اللغوي على النماء والزيادة والتطهير؛ قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : "الزاء والكاف والحرف المعتل أصل يدل على نماء وزيادة"([5])، وقال ابن منظور: "الزكاء ممدود بمعنى: النماء والريع .. يقال: " زكا الزرع زكاءً أي: نماءً وكل شيء يزداد وينمو فهو يزكوا زكاءً ... والزكاة: زكاة المال معروفة؛ وهو تطهيره" ([6]).
وعلى هذا المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي في تزكية النفوس، فتزكية النفس شاملة لأمرين اثنين وهما: تطهيرها من الأدران، والأمر الثاني: تنميتها بزيادة الأوصاف الحسنة؛ قال ابن تيمية: ـ:" والتزكية جعل الشيء زكيا : إما في ذاته ، وإما في الاعتقاد والخبر ، كما يقال: عدلته إذا جعلته عدلا في نفسه، أو في اعتقاد الناس، قال تعالى : (فلا تزكوا أنفسكم) ([7]) أي: تخبروا بزكاتها، وهذا غير قوله: (قد أفلح من زكاها) ([8])، ولهذا قال: (هو أعلم بمن اتقى) ([9])والمراد بها في الشرع: تطهير النفوس وإصلاحها بالعلم النافع والعمل الصالح، وفعل المأمورات وترك المنهيات" ([10]).
وقال ابن كثير في معنى قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) : " يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه، أي: بطاعة الله -كما قال قتادة-وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل"([11]).
ثانيا: تزكية النفوس من مقاصد دعوة النبي: "نماذج منتقاة"
إن من مقاصد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: تزكية النفوس ؛ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الغرض فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"([12]) ، والسيرة النبوية تعد ترجمة عملية لهذا المقصد العظيم؛ ومن يتصفحها يجدها حافلة بما يدل على ذلك، وهذه بعض الإشارات اللطيفة التي تبرز هذا المقصد على سبيل التمثيل لا الاستيعاب:
لقد دأب النبي عليه الصلاة والسلام على تربية أصحابه على التوحيد الذي يعد قاعدة أساسية ومحور دعوة كل الأنبياء والرسل كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ([13])، وهو الأصل الأول الذي ركز عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه إلى اليمن: " إنك تقدم على قوم أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس" ([14])، كما سعى إلى تخليص أصحابه من أدران بقايا الجاهلية، ويدل على ذلك على سبيل المثال: حديث المعرور بن سويد قال : " رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، قال: فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه "([15])، ونزع حب الفواحش من قلب صحابته ومثاله الشاب الذي جاءه يستأذنه في الزنا فقال:" يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه ،مه فقال: ادنه، فدنا منه قريبا قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال : لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك ،قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" ([16]).
كما دعا إلى الابتعاد عن الرياء، والحسد، والبغض، والكبر ،والغرور ،والغضب، والغيبة والنميمة...، وغيرها من الآفات، والنصوص والأمثلة على ذلك في سيرته كثيرة ومتنوعة. لا يتسع المقام لذكرها كلها.
ثم دعا أصحابه بعد التخلية من العيوب والآفات إلى التحلية بالفضائل ومكارم الأخلاق، والسمو بالنفس إلى بلوغ الدرجات العلا ، ومن أمثلة هذا الباب أذكر نموذجين:
أولا: التحلي بخلق الرفق واللين: ويعد هذا الخلق الرفيع من الأخلاق التي يحبها الله تعالى فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللهَ يحبُّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه"([17]).
ثانيا: التحلي بصفة الحلم والأناة ، وهما من الصفات التي يحبهما الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم لأشَجّ عبد القيس: "إن فيك خَصْلَتين يحبُّهما الله.. الحلم والأناة"([18])
وتخلية النفس من الأدران ، ثم تحليتها بمكارم الأخلاق ومحاسنها، هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث ملك الحبشة النجاشي حيث قال: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه؛ فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...." ([19]) .
الخاتمة:
1-تعد التزكية مقصدا عظيما من مقاصد الدين ، ووظيفة من أجل وظائف الأنبياء والمرسلين.
2-لا يكون فلاح العبد في الدنيا والآخرة إلا بتزكية نفسه.
3-يدل مصطلح التزكية في معناه اللغوي “على النماء والزيادة والتطهير.
4-المعنى الاصطلاحي لتزكية النفس شاملة لأمرين اثنين وهما: تطهيرها من الأدران، والأمر الثاني: تنميتها بزيادة الأوصاف الحسنة.
5-أوردت في المقال بعض النماذج الدالة على هذا المقصد من خلال سيرته على سبيل التمثيل لا الحصر.
والحمد لله رب العالمين.
**********************
هوامش المقال:
([1]) سورة البقرة الآية: (129).
([2]) سورة آل عمران الآية: (164).
([3]) مدارج السالكين (2 /300).
([4]) سورة الشمس الآيات (من 7 إلى 10).
([5]) معجم مقاييس اللغة (3 /17).
([6]) لسان العرب (14/ 358) مادة: "زكا".
([7]) سورة النجم من الآية (32).
([9])سورة النجم من الآية (32).
([11]) تفسير ابن كثير (8/ 400) .
([12]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 78)، برقم: (273).
([13]) سورة النحل من الآية( 36).
([14]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /450-451)، كتاب: الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم: (1458) ، ومسلم في صحيحه (1 /30) ، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم: (19) واللفظ للبخاري.
([15]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /26)، كتاب: الإيمان ، باب: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك، برقم: (30)، ومسلم في صحيحه (2/ 787)، كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه رقم: (40) (1661). واللفظ لمسلم.
([16]) أخرجه أحمد في مسنده (36/ 545)، برقم: (22211).
([17]) أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 1203)، كتاب: البر والصلة ، باب: فضل الرفق، برقم: (2593).
([18]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 29)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين والدعاء إليه، برقم: (25) (17).
([19]) مسند أحمد (37/ 172)، برقم: (22498).
*********************
لائحة المصادر والمراجع:
الأدب المفرد. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. حقق نصوصه ورقم أبوابه وأحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي. المطبعة السلفية. القاهرة 1375هـ.
تفسير القرآن العظيم. لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل ابن كثير. وضع حواشيه وعلق عليه: محمد حسين شمس الدين. دار الكتب العلمية. (د.ت).
الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.
صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.
لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور . دار صادر بيروت لبنان. ط3/ 1414هـ- 1994مـ.
مجموع الفتاوى. لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت. (د. ت).
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين . لابن القيم الجوزية. تحقيق وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي. دار الكتاب العربي بيروت. ط7/1423هـ- 2003مـ.
مسند الإمام أحمد بن حنبل. حقق هذا الجزء (36) وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- جمال عبد اللطيف - عادل مرشد- عبد اللطيف حرز الله. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1421هـ- 2001مـ، وحقق الجزء(37): شعيب الأرنؤوط- سعيد اللحام- عادل مرشد- أحمد برهوم ط1/1421هـ- 2001مـ
معجم مقاييس اللغة. لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. دار الفكر بيروت 1399هـ- 1979مـ
*راجع المقال الباحث: محمد إليولو