مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من مسالك النجاة (2): توصيف النفسيات بلزوم البيوتات

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وسائر الصحب أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا كريم.
تتميما لتجليات مسالك النجاة، المستفادة من قول نبينا صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه: “وليسعك بيتك”، نستأنف التبيان بما فتح المنان، فكما تفهم عبارة الحديث هو أمر بملازمة البيوتات، من وسِع يسَع؛ أي ليكن بيتك أرحب مكان يسعُك، فهي وصاة من رسول الله لهذا الصحابي رضي الله عنه أصالة، وتشمل بالتبع كلَّ من انضوى تحت لواء الإسلام، فهوأمر لأفراد الأمة بأن يجدوا في البيت بغيتهم، و ينشدوا فيه ضالتهم، ويحققوا فيه جمعيتهم…
و الأمر بملازمة البيوت ليس مقصودا لذاته، ولكنه أمر بما يترتب عن الملازمة؛ من تحقق بجميل الخصال، وما يفيده العبد فيها من سني الأعمال، إذ المقام به مُوات لتحقيق مصالح لا تتحقق بالمعافسة، ولا تستقيم للمرء بالمخالطة، وعلى هذا المعنى حمل جلة من العلماء معنى الحديث، قال الطيبي: “الأمر في الظاهر وارد على البيت، وفي الحقيقة على المخاطب، أي تعرض لما هو سبب للزوم البيت؛ من الاشتغال بالله والمؤانسة بطاعته؛ والخلوة عن الأغيار”
و قال المناوي: “يعني تعرض لما هو سبب للزوم بيتك من الاشتغال باله ورفض الأغيار”
فلا معنى لأن يحبس المرء نفسه في البيت دون غاية، يصـرف الأوقات بغير هدف، يجلس قابعا فيه دون حراك ودونما أي شغل، وإنما لقصد تمضية الوقت فحسب، فهذا صنيع معيب، وخلق مسترذل ذميم؛ لما قد ينشؤ عنه من بلابل، و ما يتوارد على الخاطر فيه من وساوس، ناهيك عما يفهمه الحال من جهل بقيمة رأس المال، وهذا الصنف هم الذين قال فيهم سيدنا عمر رضي الله عنه، “إني لأكره أن أرى الرجل سبهللا لا في أمر دينه ولا في أمر دنياه”.
والسبهلل في الأثر لفظ مجمل، جاء بيانه في تمام الكلام، و المقصود به الفارغ من أي شغل.
فعمارة الأوقات بما ينفع هو الدافع للسآمة، وبه تستدفع عن النفس الملالة، لو تمثله المكلف حق التمثل للتذ بملازمة البيت، ولهرع إليه كلما فرغ من ضروريات عيشه، ولهان عليه الانقطاع عن الخارج، ولما وجد في التباعد عنه ضيقا أو حرجا، لكن حين تطرح هذه المعاني الكبيرة، تؤول البيوتات في أحاسيس الناس إلى سجون محصنة، تخنق الأرواح، وتحبس الأنفاس، ويشعر الثاوي بها بانحباسٍ كأنما تصعد روحه في السماء، لا يتنفس الصعداء إلا بمباينتها، ولا يؤوي إليها إلا اضرارا كما تعود الطيور لوكناتها.
يشهد لصدق هذه المقالة حال الطوارئ التي يعيشها العالم اليوم، أجبر الناس فيها على ملازمة البيوت، فكان وقع ذلك على النفوس بحسب ما وقر بها من المفاهيم، فئة ضاقت بهذه الملازمة ذرعا؛ فضجرت وتسخطت، لا عن قلة ذات يد، ولا عن إملاق وعوز، ولكن لما شعروا به من الحيلولة بينهم وبين يشتهون، وتعليق متعهم على وسائط خارجية لم يسعف الظرف بامتلاكها ولا اجتلابها، وفئة ما حفلت بالموضوع ولا اكترثت، بل عدته من كبير المغانم، ودخلته باعتباره من عظيم المكاسب، استثمرت أيامه في استدراك ما فات من أعمال البيوت، و اغتنمت أوقاته في إبراء الذمم من الحقوق والواجبات، بل إن هؤلاء لم يشعروا بثقل النازلة على الحقيقة، ولم تتأثر بذلك مجريات حياتهم، لما ألفوه في معتاد برنامجهم أيام المسالمة، فهجيراهم اللجأ إلى البيت كلما فرغوا من طلب المعايش، يلوذون به قطعا للصوارف، ويحتمون به دفعا للقواطع، وذلك لما خبروه منه من حسن العون على قضاء الحظوظ و تحقيق المصالح، ذاقوا فعرفوا، ومن عرف لزم، وليس المجرب كعديم التجربة.
ولقد كان ربانيو هذه الأمة يتواصون بلزوم البيوتات حال التقلب في النعم والرخاء، قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وهو يوجه النصح إلى أصحابه، ويرشدهم إلى مجاديح الثبات: “كونوا ينابيع العلم، مصابيح الليل، أحلاس البيوت … “،وكان سفيان الثوري يقول: “هذا زمان السكوت، ولزوم البيوت”، وإذا كان سفيان يقول هذا وهو المتوفى سنة 161هـ، فما عساه يقول في هذا الوقت؟
و سياق الحديث مفهم أن هذا التوجيه النبوي حال الفتن، وتخوف العبد لحوق أذى له بالمخالطة، وكذا سياق أثري ابن مسعود وسفيان، وهذا عينه ما أملى فرض حالة الطوارئ القائمة ببلدان العالم اليوم، إلا أن الأولى معنوية، لا يستشعرها إلا فئة مخصوصة، والقائمة بالإنسانية اليوم حسية، غريزة البقاء والحفاظ على المهج ألزمت بها جموع البشر، وكلامنا متجه إلى ما يجلي الرين على القلوب، وما يكشف به غين الصدور، نسوق نتفا منه في الورقة المقبلة بحول الله.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق