مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه (تتمة).

 

 

 

تقديم واختيار: ذ.نورالدين الغياط.

لقد حفلت كتب الحديث والتاريخ والسير ومصادر الأدب، بدرر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم  في الجاهليةِ والإسلامِ، وصهره، وأول من آمن به من الرجال، وأفضل الصحابة منزلةً، وأعلاهم مكانةً، صدِّيقُ هذه الأمةِ، السابقُ إلى الإسلامِ والإيمانِ والجهاد في سبيله بنفسه وماله.

كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مكةَ مُعيناً ونصيراً، و في الهجرةِ إلى المدينةِ رفيقاً ومؤنسا، وفي المدينةِ وزيراً وعضودا، شهدَ مع النبيِّ  صلى الله عليه  وسلم المشاهدَ والغزوات كلها، وشهد اللهُ له بالصحبةِ في كتابِه، فقال الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذا أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}([1]).

لم يكـد أبو بكـر رضي الله عنه يتسلم مقاليد الخلافة حتى انتشرت حركة الردة في أرجاء الجزيرة، وأضحت مصدراً لفتنة كبرى تهدد أركان الدولة الإسلامية الفتية.

وكان لهذه الفتنة صورتان:

أولها: امتناع عن أداء الزكاة لأنها في نظر هؤلاء الممتنعيـن ضريبة كانت تُؤدّى للرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي استمرارها بعد وفاته.

ثانيها: الردة عن الدّين والانضمام لحركة المتنبئين من أمثال الأسود العنسي، وغيره.

فكان من واجب أبي بكر رضي الله عنه أن يستأصلها من الجزيرة العربية قبل أن يستفحل خطرها.

وقد كان رأيه حازما واضحا من أول الأمر، وهو وجوب قتال مانع الزكاة، لأنه في حكم المرتد في وجوب قتاله، وكان عمر رضي الله عنه يعارض في قتال مانعي الزكاة ولا يسميهم مرتدين.

وقد قسّم أبو بكر الجيش إلى أحد عشر لواءً لأحد عشر أميراً وكان على رأسهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص إلى غير هؤلاء رضي الله عنهم .

ثم أصدر كتاباً عاماً وجَّهه إلى المرتدين في أنحاء الجزيرة. وأرسله مع رُسله يتقدّمون الجيوش ليقرؤوه على الناس حتى يفتح لهم باب الرجوع إلى الحقّ قبل أن تقع الحرب وتراق الدماء.. 

وقد بدأت حروب الردة سنة 11 هـ وانتهت في السنة الثانية عشرة من الهجرة.

لقد استطاع رضي الله عنه أن يقطع دابر تلك الفتنة الهوجاء في مهدها، ويعيد المرتدين إلى رشدهم،  وكان ذلك بفضل اللّه عز وجل ثم بفضل أبي بكر رضي الله عنه الذي صمد صمود المؤمن الذي لا يهادن في حقّ، ولا يقبل بدنية في دين الله.

وفيما يلي نص كتاب أبى بكر إلى القبائل المرتدة

(بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضّلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، نُقرُّ بما جاء به، ونكفِّر من أبى ونجاهده.

أمّا بعد، فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوْعاً وكَرْهًا ثم توفّى الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر اللّه، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان اللّه قد بيّن له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} ([2])، وقال: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} ([3])، وقال للمؤمنين: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} ([4])، فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت، ولا تأخذه سِنَةٌ ولا نَوْم، حَافِظٌ لأمره، مُنْتَقِمٌ من عدوه، ومُجْزِيه، وإني أوصيكم بتقوى اللّه، وحظكم ونصيبكم من اللّه، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهُداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من يعافه مُبْتلى، وكل من لم يُعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتدياً ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} ([5]). ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقربه، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولاعدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرّ بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله، وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بيس للظالمين بدلا} ([6]). وقال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} ([7])، وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقرّ وكفّ وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يُبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إِلّا الإسلام، فمن تبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجز اللّه، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان: فإذا أَذَّنَ المسلمون فأذَّنوا كُفُّوا عنهم، وإن لم يؤذّنوا عاجلوهم، وإن أذَّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قُبِلَ منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم )([8]).

 


([1])  سورة التوبة الآية: 40.

([2]) سورة الزمر، الآية: 29.

([3]) سورة الأنبياء، الآية: 34.

([4]) سورة آل عمران، الآية: 144.

([5]) سورة الكهف، الآية: 17.

([6]) سورة الكهف، الآية: 50.

([7]) سورة فاطر، الآية: 6.

([8]) تاريخ الطبري: 3/250-251. أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ)- دار التراث – بيروت-الطبعة: الثانية – 1387 هـ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق