مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكتراث

من عيون التراث العقدي المغربي: “رسالة التوحيد” للإمام محمد بن سليمان الجزولي (870هـ)

 

الحمد لله رب العاملين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الطريقة الجزولية تعتبر امتدادا للطريقة الشاذلية نسبة إلى الشيخ سيدي أبي الحسن الشاذلي(656هـ)، وقد ظهرت الطريقة الشاذلية في المغرب في أواخر الدولة الموحدية وانتشرت في العديد من البلدان الإسلامية، وبلغت أوجها على يد أحد أكبر رجالاتها وهو الشيخ محمد بن سليمان الجزولي (870هـ) رضي الله عنه، الذي تلقى الطريقة الشاذلية العلية من شيخه العارف بالله مولانا أبي عبد الله أمغار الحفيد –حين التقى به في الساحل بعد استكمال مسيرته العلمية- فأتى فيها بما يبهر العقول وحل غوامض مشكلاتها حتى صار من الفحول، فتاب على يديه آلاف المذنبين، واجتمع عليه عشرات الآلاف من المريدين، فلقيت طريقته إقبالا كبيرا وسط العامة والخاصة، وأصبحت الطريقة المعمول بها في المغرب إلى جانب المذهب المالكي في الفقه، والمذهب الأشعري في التوحيد، مع العلم بأن الطريقة الجزولية الشاذلية تابعة لأبي القاسم الجنيد.

فقد أخذ سيدي محمد بن سليمان الجزولي هذه الطريقة عن الشيخ سيدي محمد بن عبد الله أمغار، تواترا إلى شيخ الطريقة سيدي أبي الحسن الشاذلي ثم شيخه القطب عبد السلام بن مشيش، إلى الشيخ سيدي عبد الرحمن المدني إلى أن يصل السند إلى الإمام الجنيد[1].

وقد كان للخلوة التي دخلها الشيخ الجزولي بإذن من شيخه عبد الله أمغار لما يزيد عن أربعة عشر عاما، دور هام في حياته ومساره الصوفي، حيث أكسبته قدرات فكرية وذوقية، وروحية وسلوكية مكنته من القيام بمهمته الكبرى المتمثلة في تجديد الطريقة، مع ترسيخ الفكر الصوفي في حياة أتباعه سلوكا وممارسة، والعمل على تربيتهم تربية فريدة، تأخذ منطلقاتها من مبادئ فلسفته في التصوف، المبنية على الكتاب والسنة وكثرة الذكر والصلاة على النبي المصطفى، وحب الخير والصلاح، والتوبة مع صحبة الشيخ العالم بالظاهر والباطن، وغير ذلك من المبادئ الضرورية لسالك الطريق.

كما كان اهتمامه بالجانب التطبيقي من التصوف أكثر من الاهتمام بالتنظير والمناقشة الفلسفية، لذلك نجده يركز في أقواله وأجوبته على جوانب التلقين، وتبسيط دروسه إلى أقصى الحدود ليفهمها محدودو الثقافة والأميون منهم، مع تخصيص الحديث عن المجاهدة والمراقبة والمشاهدة لأكثرهم ثقافة وأقدمهم تربية.[2]

  • التعريف بالمؤلِّف: الشيخ محمد بن سليمان الجزولي[3]:
  • مولده ونشأته:

هو أبو عبد الله محمد بن سليمان بن داود بن بشر، وقال السملالي صاحب الإعلام: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن سليمان بن سعيد بن يعلى بن يخلف بن موسى بن علي بن يوسف بن عيسى بن عبد الله بن جندوز بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن حسان بن إسماعيل بن جعفر بن عبد الله الكامل بن حسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه،[4] ويعرف بالجزولي السملالي الشاذلي، الشريف الحسني، الفقيه الإمام شيخ الإسلام علم الأعلام، العالم العامل الشيخ الكامل العارف بالله، الواصل صاحب الكرامات الكثيرة، والمناقب الشهيرة من أهل سوس، ولد بجزولة -إحدى بطون البربر- سنة ست وثمانمائة وقيل ولد في العشرة الأولى من القرن التاسع الهجري، واشتغل بها ستة عشر عاما في الفقه والعربية والحساب على أبي العباس الخلفاني، وأخيه عبد العزيز قاضيها وآخرين. ثم انتقل إلى فاس فاجتمع فيها بعبد الله العبدوسي ثم دخل تلمسان واجتمع فيها بمحمد بن مرزوق وأبي القاسم العقباني، وأبي الفضل ابن الإمام وآخرين، ولقي بتونس حين دخلها في سنة أربعين وثمانمائة أبا القاسم البرزلي وغيره، وبالقاهرة في أواخر سنة أربعين بالبساطي، ودخل مكة في سنة إحدى وأربعين ثم سار منها إلى المدينة ثم عاد لمكة وتصدى للتدريس مع الإفتاء، أخذ عن أئمة علم الظاهر والباطن، وانتفع بهم، وعنه أخذ خلائق لا يحصون، اجتمع بين يديه من المريدين ما يزيد على الإثني عشر ألفا منهم: الشيخ أحمد زروق وأحمد بن عمر الحارثي المكناسي، والشيخ عبد العزيز التباع، وأبو عبد الله الصغير السهيلي.[5]

  • مكانته العلمية:

 قال صاحب الضوء اللامع: “وكان بارعا في الفقه والأصلين متقدما في العربية مشاركا في غيرها، مع الدين والخير والكرم، ذا مال يعامل فيه. تفقه بفاس وحفظ المدونة في فقه مالك وفرعي ابن الحاجب وغيرهما، وحج وقام بسياحة طويلة ثم استقر بفاس وبها ألف كتبه.[6]

قال عنه أحمد التنبكتي: الشيخ العالم العارف الولي الصالح القطب، كان فقيها وظهرت به كرامات، انقطع في الخلوة أربعة عشر عاما، ورده نهارا أربعة عشر ألف بسملة وسلكتين من دلائل الخيرات، وبالليل سلكة منه وربع القرآن”[7]

وذكر الشيخ العباس السملالي فيما نقله من كتاب ممتع الأسماع: كان رضي الله عنه من العلماء العاملين، والأئمة المهتدين، ممن جمع بين شرف الطين والدين، وشرف العلم والعمل، والأحوال الربانية الشريفة، والمقامات العلية المنيفة، والهمة العالية السماوية، والأخلاق الزكية الرحمانية، والعلم اللدني والسر الرباني، والتصريف النافذ التام من الخوارق العظام، كان قطبا جامعا، وغوثا نافعا مانعا، ووارثا رحمانيا وإماما ربانيا، أقامه الله في وقته رحمة في العباد، وبركة ونورا في البلاد، جعله موقع نظره من خلقه، وخزانة سره، ومظهر نفوذ تصريفه ومنبع مدده، وكان فياض المدد والإمداد، كثير النفع للعباد، وكان عنده الكيمياء الخاصة الخالصة التي تقلب الأعيان، وتحيل نحاس النفوس إبريزا في أقرب زمان، فتقلب ظلامها نورا، وحزنها سرورا، وتميط خبث شهواتها فانتفع به خلق كثيرون، وحييت به البلاد والعباد، وجدد الطريقة بالمغرب بعد دروس آثارها، وانتشر به الفقر واللهج بذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في سائر بلاد المغرب.”[8]

ج- من أقواله رضي الله عنه وكراماته:

– قال رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: أنا زين المرسلين وأنت زين الأولياء.[9]

وقال أيضا قيل لي: يا عبدي خصصتك بعنايتي في الأزل فلا أحد يصل إلى عنايتك، يا عبدي سيادتك على أهل المشرق والمغرب الماضين والباقين.[10]

ومن كلامه أيضا رضي الله عنه: لا تشتغلوا بالنفوس ولا بالقلوب، ولكن اشتغلوا بتعظيم علام الغيوب”[11]

وقال أيضا: عليكم بذكر الله العظيم، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيارة أولياء الله.”[12]

وقال الشيخ الإمام محمد القصار رحمه الله: كان على محبة عظيمة له صلى الله عليه وسلم، فقد قيل له: فضلتك على عصرك بكثرة صلاتك على حبيبي محمد”   وثبت أن رائحة المسك توجد من قبر الشيخ من كثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال التنبكتي: ولما نقل تابوته الذي دفن فيه بعد سبع وسبعين سنة وجد لم يتغير منه شيء، حدث بذلك من شاهده.[13]

د- آثاره ومؤلفاته:

 اشتهر رضي الله عنه بمؤلفه “دلائل الخيرات” الذي كتب له القبول شرقا وغربا وعمت بركته الأرض.”وذكر أنه جمع كتابه هذا من كتب خزانة جامع القرويين بفاس،[14] وقصد رضي الله عنه جمع المروي من ألفاظ الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم، وعن غيره من فضلاء أمته والاقتداء بهم والتبرك باتباعهم. ومن مؤلفاته أيضا: “حزب الفلاح ” و”حزب الجزولي”   و”عقيدة الجزولي” و”رسالة التوحيد” و”كتاب الزهد”.[15]

 أما عن وفاته رضي الله عنه فقد ذكر التنبكتي والشيخ زروق، أنه مات مسموما بمكان يدعى “آفغال” في الركعة الأولى أو الثانية من صلاة الصبح سنة سبعين وثمانمائة للهجرة وقيل سنة ثلاث وستين وقيل اثنتين وسبعين وقيل خمس وسبعين. ثم نقل إلى مراكش رحمه الله.[16]

  • التعريف بالرسالة:
  • موضوع الرسالة:

لقد وضع الشيخ الجزولي هذه الرسالة ليوضح بها طريقته في السلوك والأسس التي تنبني عليها، معتمدا في ذلك أسلوبه التعليمي التربوي الإصلاحي، الذي يتميز بالتسلسل في طرح الأفكار وتدعيمها بالأدلة والحجج من الكتاب والسنة والإجماع، ليبين خلو هذه الطريقة من البدع، وموافقتها للسنة وما كان عليه السلف الصالح.

وقد قسم رسالته إلى قسمين:

  • القسم الأول خاص بالتوحيد وترسيخ العقيدة.
  • القسم الثاني تحدث فيه عن مبادئ الطريقة الجزولية.

يتخللهما ثلاثة عشر فصلا.

  • القسم الأول الخاص بالتوحيد:

ابتدأ هذه الرسالة بتقرير العقيدة السليمة وتصحيحها أولا مما يمكن أن يشوبها من التحريف أو الضلال؛ لأنها الأساس المتين الذي سيبني عليه طريقته وآراءه، فدعا إلى:

ـ توحيد الخالق عز وجل على مذهب أهل السنة والجماعة، وتنزيهه عما لا يليق به، مؤكدا على أن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى قبل النظر والاستدلال.

ثم معرفته سبحانه، بأسمائه وأقسامها، وصفاته وأقسامها، وما الواجب في حقه تعالى وما يجوز وما يستحيل في حقه عز وجل كالشبه والنظير، والجسمية والجوهرية والأمكنة “فمن عرف الله آمن به”. ثم تحدث عن الأعراض وحقيقتها وأقسامها، والأجسام والجواهر وحقيقتهما.

ـ ثم تحدث عن الإسلام والإيمان: فكما للإسلام أركان معروفة، فإن للإيمان دعائم وشروطا وحقيقة ومحلا ومراتب: فدعائمه تتلخص في النظر والاستدلال؛ وشروطه هي التقوى والعلم والإخلاص واليقين، واستواء الظاهر والباطن؛ وأما حقيقته فهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه المؤمن مثل ما يحب لنفسه من الخير» ومحله القلب، ومراتبه ثلاثة إسلام وإحسان وإيمان، ولكل مرتبة قواعد.

ثم أتبع ذلك بالحديث عن الإخلاص لله تعالى وهو لا يكون إلا بإفراده بالعبودية والألوهية، ولخص ذلك في سورة الإخلاص وبسط مضامينها التي تنضوي عليها، وجعلها ردا على الفرق والطوائف الدهرية والحشوية واليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم.

فخلص بعد ذلك إلى أهمية علم التوحيد، وأنه أول العلوم، يليه علم المعرفة ثم المحادثة والمكالمة.

وختم هذا القسم بالحديث عن المقامات الثلاث: المجاهدة والمراقبة والمشاهدة، فالمجاهدة هي المخالفة للنفس والأخذ في الجد والاجتهاد على موافقة الكتاب والسنة. والمراقبة هي مقام الحياء، وأن هذين المقامين مكتسبان للعبد، أما المشاهدة فهي جذب رباني روحاني.

أما القسم الثاني من هذه الرسالة الخاص بالحديث عن الطريقة الجزولية فستتم دراسته في مقالة أخرى مستقلة بحول الله.

  • إثبات صحة نسبة الرسالة إلى مؤلفها:

وقد ذكر الدكتور حسن جلاب في الحركة الصوفية بمراكش وأثرها في الأدب أن للإمام الجزولي: “رسالة التوحيد توجد أوائلها في خزانة ابن يوسف بمراكش ضمن مجموع رقم 587 من ص41 إلى 43.”[17]

  • وصف النسخة:

 والنسخة المعتمدة هنا هي الموجودة بخزانة القرويين تحت رقم 723، بعنوان: تأليف في التوحيد، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن. الشهرة: الجزولي، تاريخ الوفاة: 870هـ. أوله: الحمد لله وحده، المسطرة 25، عدد الأوراق: 7 ضمن مجموع، المقياس 26سم/18سم. الخط: مغربي رديء ملون مشكول.

وقد سرت في إخراج هذا العمل على الشكل التالي:

  • قمت بنسخ الرسالة اعتمادا على النسخة الموجودة بخزانة القرويين تحت رقم:723.
  • عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها من السور في المصحف برواية ورش.
  • تخريج الأحاديث الواردة في المتن.
  • الترجمة للأعلام المذكورين في الرسالة.
  • التعريف بالفرق والطوائف التي ورد ذكرها في المتن.
  • تصحيح بعض الأخطاء الإملائية التي وقعت أثناء النسخ، فأثبت الصواب في المتن، وأشرت إلى ما وجد مكتوبا في النسخة في الهامش.

 

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق