من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب توجيه قول الله تعالى: ” مَا يَاتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ” [الأنبياء: 2] و قوله تعالى: “وَمَا يَاتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ” [الشعراء: 5]

بسم الله الرحمن الرحيم
لأسماء الله أسرار، وإجالة الفكر في معانيها يفتح على العبد بابا من التجلي تنكشف معه الأستار، و يترسخ به الإيمان، ، فهي أسماء حسنى وصفات عليا؛ توحي بالجلال و تبهرك بالجمال، مع استشعار العزة والبأس والسلطان لا يطال، وقد ندب الحق عباده إلى تعرفها، والتزلف إليه ببركة أنوارها ودعائه به، فقال: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" [الأعراف:180]، فهي أسماء حسنى، إما على سبيل المصدر الموصوف به، وإما أن تكون مؤنث أحسن؛ سوغ فيه وصف الجمع بالمفرد لأنه لما لا يعقل، وهو استعمال فاش عربية، وهي توقيفية لا يجوز الاجتهاد فيها على الراجح، أي لا يجوز أن يجتهد العبد باحثا عن أحسن الأسماء وأفضل النعوت ثم يطلقها على الذات العلية، دون استرشاد بنصوص الوحيين، وقد نبه على هذه المسألة ابن عطية في تفسيره أذكر كلامه للفائدة قال رحمه الله: "واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحا خالصا، ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك، إلا أنه لم ير منصوصا، هل يطلق ويسمى الله به؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك، ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك، والفقهاء والجمهور على المنع، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضا، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحا خالصا لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم، فإذا أبيح ذلك تسوَّر عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن، فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعا."[1]
هذا وإن المتأمل في سبك النظم القرآني ليفتح عليه شلال من الأنوار بتأملها، وإعمال الفكر في تدبرها، فما كان لاسم أو صفة وردت في موضع أن تستدبل بأوفى منها دلالة أو أبلغ منها في سياقها، فتذييل آي التنزيل بنعوت الملك، أو استهلال بعض السور بأسمائه سبحانه يبعث في القلب شحنة من الإيمان، وينفث في الروع شعورا بالأمن وبلسما من الطمأنينة تنزل بردا وسلاما على القلب المثقل بالأوزار، وإن المتدبر بحق لآي التنزيل ليلمس فحوى الاسم أو الصفة في السابق أو اللاحق من المتلو، بحيث لا يستقيم المعنى إلا بتصديره بذلك الاسم، أو تذييله بتلك الصفة على الخصوص، و قد تنبه الرعيل الأول إلى كثير من لحون القرأة بقرن المعنى العام للآية بما ختمت به من أوصاف... "ذكر الأصمعي كنت أقرأ "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ –وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ- "[المائدة:38] وبجانبي أعرابي، فقال كلام من هذا؟ فقلت كلام الله، قال: أعد، فأعدت، فقال: ليس هذا كلام الله، فانتبهت فقرأت: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" ، فقال: أصبت، هذا كلام الله، فقلت أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلت: من أين علمت؟ قال الأعرابي: يا هذا، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع، وبهذا كشف الأعرابي وجه الإعجاز في الآية" [2] .
وهذا من الإعجاز البياني المبرز لنمط من أنماط إعجاز الكتاب.
و إن من المواطن التي ينجلي به اللبس على الحافظ باستصحاب هذا البيان، موضعي سورة الأنبياء والشعراء، حيث صُدِّر الموضعان بقوله تعالى: "مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ" وتغايرت أوصاف نسبته، حيث جاء في سورة الأنبياء " مِنْ رَبِّهِمْ " وفي سورة الشعراء باسم الرحمن: "مِنَ الرَّحْمَنِ "، ولنسق كلام ابن الزبير نتبين به المستور وراء سر المغايرة، قال رحمه الله:
"الآية الأولى منها قوله تعالى: "مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ" [الأنبياء: 2]، وفي سورة الشعراء: "وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ" [الشعراء: 5]، فورد في الأولى: "مِنْ رَبِّهِمْ" وفي الثانية: "مِنَ الرَّحْمَنِ" مع اجتماع الآيتين في أن التذكير لا يجدي،- على ما ذكر في الآيتين- فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟
والجواب، والله أعلم: أن هذين الاسمين العظيمين وهما: الرب والرحمان تواردا في الكتاب العزيز كثيراً، أول ذلك في الفاتحة، ثم إن اسمه سبحانه الرحمان يغلب وروده حيث يراد الإشارة إلى العفو والإحسان والرفق بالعباد والتلطف والتأنيس، فمن موراده في التأنيس البسملة، وأم القرآن، وصدر سورة طه، وآية الشعراء المتكلم فيها، وما ورد من مثل الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ" [الفرقان: 60]، فتحقيق الاعتبار يقتضي تأويله بالرجوع إلى ما ذكرنا.
وأما اسمه الرب فيعم وروده طرفي الترغيب والترهيب.
أما الترغيب فبين، وأما الترهيب فحيث يرد معنى ملكيته سبحانه لهم، وانفراده بإيجادهم، وإدرار أرزاقهم، وبيان انفراده تعالى بذلك، ثم هم ذلك على كفرهم. ولما تقدم قبل آية الأنبياء من الأخبار ما طيُّه وعيد وترهيب، مع تلطفه سبحانه بهم بتذكيرهم لم يكن ليناسب ذلك ورود اسمه الرحمان، ألا ترى أن قوله تعالى: "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ" [الأنبياء: 1] أشد تخويفاً للمخاطبين، ثم لفظ الناس لفظ لا يخص به المؤمنون، إنما يرد حيث يراد عموم المخاطبين، ويكثر حيث يراد الوعيد والإنذار والتخويف والدعاء إلى العبادة والدخول في الإسلام، وأما ما ذكر بعد وصفه بالغفلة والإعراض، وما انجر مع ذلك فأهل الكفر والتكذيب، والسورة مكية ولفظ الناس عام كما تقدم، إلا أن قوله بعد: "وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا" [الأنبياء: 3] خاص بمن حكى قولهم الذي أسروه وهو: "هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ" [الأنبياء: 3]، أما آية الشعراء فمبنية على تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه أن توقف قومه عن الإيمان إنما هو بقدرته تعالى عليهم، ولو شاء لأراهم آية تبهرهم كشق الجبل فوق بني إسرائيل، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: "إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ" [الشعراء: 4]، ثم رجع الكلام إلى تعنيف المكذبين، فلما كان بناء الآية على التأنيس والتلطف بنبينا صلى الله عليه وسلم، وإعلامه بأن تأخير العذاب عنهم إنما هو إبقاء منه تعالى ليستجيب من قدر له الإيمان منهم، فأشار إلى هذا وناسبه اسمه الرحمان، فقال تعالى: "وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ" [الشعراء: 5]، فقد وضح ورود كل من الآيتين في موضعه على ما يجب ويناسب، والله أعلم بما أراد"[3].
[1] المحرر الوجيز، 2/480.
[2] آيات الأحكام للصابوني، 1/545.
[3] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، 2/345.