مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ولي الصالحين، وصلاة ربي وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين وأزواجه أمهات المؤمنين، وسائر الصحب أجمعين، وعنا معهم بفضلك يا كريم.
أما بعد:
فإن الحذق بالقرآن دونه خرط القتاد، لكنه ييسر لطالبه إن أقبل عليه بكليته، وتجرد عن الشواغل الصارفات حال تحصيله، وتعاهد ما وعاه صدره من محفوظه، وقد قال ربنا: “وَلقدْ يَسَّرْنا القُرآنَ للذِّكْرِ فَهلْ مِن مُّدَّكِرٍ” [القمر:17]، فشـرط التمهر فيه التعاهدُ والتَّكرارُ، ولطالما تواصى الناس بذلك، وقد كان بعض المشايخ يردد على طلبته هذا البيت مثيرا فيهم حماسة التعاهد للمحفوظ، فيقول:
خليليَّ لا تكسلْ ولا تتركِ الدرسا ولا تُعطِ طوعاً في بطالَتكَ النَّفسَا
ولابُدَّ للتَّكـــــــرارِ فيما قرأْتَــه ومن تركَ التَّكرارَ لابُدَّ أَن ينسى
مسترشدا في ذلك بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصاته لحملة القرآن بتعاهده. عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تَعاهَدُوا الْقُرآنَ فَوَالذِّي نَفْسي بِيَدِهِ لَـهُـوَ أَشدُّ تَفَصِّياً مِنَ الإِبلِ في عُقُلِها”
وإن مما يُعنِت طالب القرآن متشابهُهُ، فيحتاج مع تكراره إلى أمارات مسعفة، و رموز مذكرة، تعيِّن له مواضعَ الاختلافِ ، و تجرد له أماكن التشابه، وتحصـي له مواطن التماثل أوتقارب، في رجز مشطورأو نص مرصع محفوظ.
من مثل تقريب هذه العمل قولهم في ضبط ثلاث آيات متقاربة في المساق و المعنى، الأول قوله تعالى: “ولئنِ اتَّبَعْتَ أَهواءَهُم بعْدِ الذِي جاءَكَ مِنَ العِلم مَا لكَ منَ اللهِ من وَّليٍّ ولاَ نَصيرٍ [البقرة:120] الثاني: قوله تعالى:”وَلئنِ اتَّبعْتَ أَهْواءَهم مِّن بعْدِ جَاءكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إذاً لمَّنَ الظَّالمينَ” [البقرة:145]، الثالث آية سورة الرعد، “وَلئنِ اتَّبعتَ أَهْواءَهُم بعْدَ مَا جاءكَ مِن العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَّاقٍ” [الرعد:37]، فضبطوا للقارئ موطن الخلف فيها بصيغ كثيرة، منها:
بعدَ الذي مِن بعدِ في الأعوانِ وبعدَ ما في الرعدِ ياخليلي
ويقصدون بالأعوان سورة البقرة، أخذا من قوله تعالى:”عوانٌ بينَ ذلك”، فجاء الموطن الأول في البيت للأول في سورة البقرة، والثاني للثاني، والثالث لموضع سورة الرعد، غايتهم ضبط اللفظ بأقصر عبارة يتحقق بها المقصود، من غير ما غوص نحو متغيى التركيب، أو إعمال فكر لاستكناه أوجه الفروق بين المواضيع.
نلفي هذا التوجيه والتعليل عند من عنوا بالتصنيف في علم المتشابه، كأحمد بن الزبير في ملاك التأويل، يقول رحمة الله عليه:
“الآية الموفية عشرين: قوله تعالى: “”ولئنِ اتَّبَعْتَ أَهواءَهُم بعْدِ الذِي جاءَكَ مِنَ العِلم مَا لكَ منَ اللهِ من وَّليٍّ ولاَ نَصيرٍ” وورد فيما بعد: “ولئنَ أَتيتَ الذينَ أوتُواْ الكتابَ بِكُلِّ آيةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعضُهُم بتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعضٍ وَلئنِ اتَّبعْتَ أَهْواءَهم مِّن بعْدِ جَاءكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إذاً لمَّنَ الظَّالمينَ” وفى الرعد: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبعتَ أَهْواءَهُم بعْدَ مَا جاءكَ مِن العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَّاقٍ” للسائل أن يسأل عما اختلف فى هذه الآي مع اتفاقها فى مطالعها ومعناها؟
والجواب عن ذلك والله أعلم بما أراد: أن الوارد فى سورة الرعد لم يتقدم قبله من مرتكبات أهل الكتاب فى كفرهم وعنادهم مثل ما تقدم قبل الآية الأولى من سورة البقرة، ألا ترى أنه لم يذكر قبل آية الرعد من أمرهم فى ذلك مُفصِحا به إلا قوله تعالى: “وَمِنَ الاَحْزاِب مَن يُّنكِرُ بَعْضَهُ ” على قول من قال إن المراد بالأحزاب هنا أهل الكتاب، وهذا بعد مدحه من آمن منهم بقوله تعالى: “والذينَ ءاتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحوُنَ بما أُنزِلَ إِلَيْكَ ” وهو: عبد الله بن سلام رضى الله عنه وأمثاله ممن آمن منهم، ثم أتبع بقوله تعالى: “وَمِنَ الأحْزابِ مَن يُّنكِرُ بَعْضَهُ ” يريد – والله أعلم – ومن أحزابهم على قول من قال ذلك كما تقدم، فلما لم يتقدم بسط ذكرهم وأوجز الكلام واكتفى بالإيماء ناسبه إيجاز التحذير من حالهم، فقال تعالى: ” وَلَئِنِ اتَّبعتَ أَهْواءَهُم بعْدَ مَا جاءكَ مِن العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَّاقٍ “، فجئ بـ “ما “،وهو أوجز من “الذي” لفظا، ما لم يقترن بها ما يقتضى التوسعة في معناها حسبما يتبين بعد، وقيل: “وَلَا واقٍ” وذلك أوجز من قوله فى آية البقرة: “ولا نَصيرٍ” لفظا ومعنى، فورد هذا كله موجَزا ليناسب ما قبله، ولما تقدم قبل الآية الأولى من سورة البقرة عدة آيات فى بسط أحوالهم وقبيح مرتكباتهم كان أقرب ذلك إلى الآية المقصود توجيه الوارد فيها قوله تعالى عنهم: “وَقالَ الذِينَ لا يَعْلَمونَ لَولاَ يُكلِّمُنَا الله أَوْ تَاتِينا آيةً ” إلى قوله: “يوقِنونَ “، ثم عرف من حال أهل الكتابين وبعدهم عن الإيمان بقوله: “وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهودُ ولاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ “، فبعد هذا الإطناب فى وصفهم، قال تعالى: ” ولئنِ اتَّبَعْتَ أَهواءَهُم بعْدِ الذِي جاءَكَ مِنَ العِلم مَا لكَ منَ اللهِ من وَّليٍّ ولاَ نَصيرٍ ” وهذا مناسب لما قبله من الإطناب لفظا، كما أن آية الرعد مناسبة لما قبلها لإيجاز لفظ “مَا”فإنها على حرفين، وأما “الذِي” فعلى خمسة أحرف، ثم إن معنى نصير أوسع من حيث إن فعيلا من أبنية المبالغة، فيعطي كثرة، وفاعِلٌ ليس كذلك، ثم إن لفظ “واقٍ” أوجز، فقد تبين فرق ما بينهما، وناسب الإسهابُ الإسهابَ، والإيجازُ الإيجازَ.
ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطَتْه الآيُ بعدُ، وجاء قوله بعدُ: ” وَلئنِ اتَّبعْتَ أَهْواءَهم مِّن بعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إذاً لمَّنَ الظَّالمينَ” ” بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم، وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك، فجئ فيها بـ “مِن” التى للغاية أو لابتداءها، والمقصود أوفى وأمعن، وجئ بـ “مَا” عوضا عن “الذى”؛ لأنها هنا بسياقها بعد “مِن” كيف ما قدَّرتها، ما موصولية أو موصوفية تعطى الاستيفاء وتقتضيه، فروعى هنا معناها، وروعى فيها تقدم لفظها ،وقوله سبحانه: ” إِنَّكَ إذاً لمَّنَ الظَّالمينَ ” يتضمن أشد مما يتضمن نفي الولي والواقي والنصير، ألا ترى قوله تعالى: “والظَّالمونَ مَا لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَّلِىٍّ ولاَ نَصيرٍ “، فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم، وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصولَه بالذكر والتنصيص، فهذه الآية أبلغ من الآيتين، فناسب ذلك زيادة الإطناب فيما قبلها، ولشدة موقِعها قدَّم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهوائهم فقال: “وَمَا أَنتَ بِتَابعٍ قِبْلَتَهُمْ “، فقد وضح افتراق المقاصدِ المقاصدَ، فى إفراد هذه الآي على الأنحاء الثلاثة.
ويحتمل ذلك توجيها آخر إن ثبت أن آية الرعد من المكي، وذلك أن المنزل بعد المكي زاده صلى الله عليه وسلم فى علم أحكام شريعته، وغير ذلك مما لم يكن عنده فترتيب الآي الثلاث بحسب الحاصل عنده صلى الله عليه وسلم، فكانت آية الرعد أوجزَها مناسبة للحاصل قبل نزول سورة البقرة، ثم كانت آية البقرة الأولى أبلغ فى الإسهاب لما زاد أيضا، ويمكن التقاء التوجيهين. وربنا أعلم بما أراد.”
وهو كما يظهر توجيه ناتج عن التدبر الذي هو غاية إنزال الكتاب، وهو معقل تفاوت النظار، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق