مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب توجيه قوله تعالى: ” وَلَئِنْ رُدِدتُّ إِلَى رَبِّي” وقوله: “وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي”

أثارت قضية البعث جدلا كبيرا بين الملل والنحل، وقد أنكرها الكفار غاية الإنكار،  واستبعدوا وقوعها بعد استحالة الأجساد إلى رمم ورفات، وقد حكى القرآن الكريم عنهم هذا الإنكار، و نقل عنهم مقولات تنبئ عن استبعادهم إعادة الخلق، قال تعالى: “وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا” [الإسراء: 49] وقال حكاية عن حالهم في لمزهم منبئهم بهذا الإخبار، ونعته بأقذع الأوصاف: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ” [سبأ:7-8] فكبر على عقولهم التسليم بهذا الركن الإيماني، واستعظموا  عليه سبحانه  إعادة الأجسام بعد البلى، و فاتهم أن الذي أوجد من عدم لا يعجزه شيء، وأنه قادر أن يعيد ما ابتدأ خلقه أول مرة، “وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ” [الروم:27] وتذكر كتب التفسير أن العاص بن وائل السهمي أو أمية بن خلف  جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فَفَتَّه وقال: يا محمد من يحيي هذا؟ فأنزل الله تعالى: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ” [يس:78-79]، وذكر ابن عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأُبيٍّ حين فتَّ العظم: «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم»[1]

          فلم تتسع مدارك الدهريين للإقرار بهذه الحقيقة، وكابروا في استبعادها، وقالوا إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، و قد انبرى القرآن لكريم للتدليل على إمكانيتها، بل وعلى وقوعها لا محالة، مستدلا عليها بالآيات الكونية، و الحجج العقلية، ضاربا لهم الأمثال المقربة المعنى من الأفهام.

          ذلك أن غاية التكليف حصول الابتلاء؛ لتمييز أحوال العباد، وظرف الإجزاء كما تخبر الآيات إنما هو يوم البعث، ” أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ  يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” [المطففين:4-6] ، ولا بد للعبد من حامل، وحامله على حسن العمل تيقنه الجازم  أنه مبعوث بعد موته، ثم هو مجزي عن عمله يوم مثوله بين يدي ربه، وقد سلك القرآن منهج التنويع في وسائل إقناعهم، حتى إن الحق سبحانه ليأمر نبيه بالقسم على ذلك، ليزول شك المرتاب، ويطمئن قلب من آمن بالكتاب، “زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” [التغابن:7].

والكلام على البعث والجزاء يطول، وليس قصدنا استيفاؤه،-ولركنيته مكث النبي صلى الله عليه وسلم في تأصيله وترسيخه طوال الفترة المكية التي ناهزت ثلاث عشرة سنة- وإنما أدلفنا بين يديه بهذه التوطئة للوقوف على مقامين قرآنيين، يشتبه ضبطهما على الحافظ، غوير فيهما بين أسلوبين حكيا لمؤدى واحد، وذلك قوله تعالى: ” وَلَئِنْ رُدِدتُّ إِلَى رَبِّي” [الكهف:36] وقوله: “وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي” [فصلت: 50] ويفهم من المساقين الفرض والتنزل، أي لو سلم جدلا إثبات المعاد لكان المنقلب أوفر حظا من قسم الدنيا، إلا أن فعل “ردَّ” في آية الكهف يفهم الإجبار والإلزام، وذلك بافتراض قوة خارجية تؤزه وتدفعه  لذلك، وهو ما لا يفهمه فعل الرجوع في سورة فصلت، ويوجه أحمد الغرناطي سر المغايرة بين الأسلوبين إلى أن الأُولى في مساق سرد قصة الكافر المعجب بجنته، الجاحد ملاقاة ربه، المنكر للبعث والجزاء أصلا، والثانية حكي عن موقف جنس الإنسان، وفيهم المؤمن والكافر، إذ صدرت بقوله تعالى: “لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ”، [فصلت:49]، ثم عرجت على موقف المنكر، فناسب في الأولى الإتيان بفعل الرد  المقابل لجحوده وإنكاره، وناسب في الثانية الإتيان بفعل الرجوع لأنها غير خالصة في تقريب حال الكافر، خلافا للأولى التي جاءت ممحضة لبيان مقول الجاحد، وأسوق توجيهه بتمامه لما فيه من الفائدة، قال رحمه الله:

الآية الثانية من سورة الكهف قوله تعالى في قصة صاحب الجنة: “وَلَئِنْ رُدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا” [الكهف: 36]، وفي سورة حم السجدة: “وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى” [فصلت: 50]، للسائل أن يسأل عن اختصاص آية الكهف بقوله: “وَلَئِنْ رُدِدتُّ”، واختصاص آية السجدة بقوله: (وَلَئِن رُّجِعْتُ”، مع أن الظاهر اتحاد المقصود في الآيتين؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم، أن الآيتين وإن اتحدتا في الغاية الحاصل منها وصفُ حال الكافر المنكر للبعث الوارد في كل واحدة منهما في قوله: “وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً” [الكهف: 36، فصلت: 50]، فإن آية الكهف منهما أقوى تعريفاً ببعد الكافر المضروب به المثل عن حال الإيمان، وأما آية السجدة فصالحة لاتصاف الكافر والمؤمن بالحال المفتتحة بها من قوله: “لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ” [فصلت: 49]، من حيث إن هذا الوصف وصف يعم المؤمن والكافر، ولهذا قال ابن عطية بعد أن ذكر أن المراد بها الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة: فإن أكثرها يعطي أن الآية نزلت في كفار، ثم قال: وإن تضمن أولها خلُقاً ربما يشارك فيه بعض المؤمنين، فحصل من كلامه أن هذا التعريف بحال المضروب به المثل في هذه الآية أرجى من حال المضروب به المثل في آية الكهف، ألا ترى أن آية الكهف لا يكاد شيء من كلمها يجري في وصف المؤمنين، ألا ترى ابتداء مطلع وصف المذكور فيها مخبراً عنه بقوله: “وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ” [الكهف: 35]، وبقوله: “مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً” [الكهف: 35 – 36]، ثم حكم لنفسه بعد إنكاره العبث باستحقاق ما عجل له من جعل الجنتين كما وصفتا، فقال: “وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا” [الكهف: 36]، فتأمل ما بين هذه الكلم الواردة في وصف هذا الكافر، والواردة في قوله في آية سورة السجدة “لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ” [فصلت: 49]، أي من أن يدعو بالخير لنفسه ويستزيد منه، وهذه صفة توجد في المؤمنين، وبها افتتح الوصف المضروب به المثل في هذه الآية، ثم قال بعدما ذكر من كلامه: “وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى” (فصلت: 50)، فقوله: “إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى” ليس في موازنة قول الآخر في آية الكهف: “لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا” (الكهف: 36) وإن خفي ما بينهما، فلما افترقت الآيتان فيما ذُكر، ناسب آية الكهف قوله: “وَلَئِنْ رُدِدتُّ”، لما يشعر لفظ رُدِدتُّ ويحتمله من القهر والتعنيف وقوعاً أكثرياً لا بالوضع، بخلاف لفظ رجع إذا قلت منه: رجَعْتُه أو رجع، فإنه لا يحتمل ولا يفهم من معنى القهر والتعنيف ما يحتمله ردّ، ألا ترى وروده في مثل قوله: “ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا” [الكهف: 87]، وقوله: “ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ” [التوبة: 94]، وقوله بعد: “وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ” [التوبة: 105]، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم في الشيطان حين تعرض (له) في صلاته، قال صلى الله عليه وسلم: “فرده الله خاسئاً”[2].

 ففي كثرة ورود هذا حيث يراد هذا المعنى أدل دليل على ما أشير إليه.

 أما رجع وما تصرف منه فقل ما يرِد لهذا، وإن ورد فليس ككثرة ردَّ.

        فأما قوله تعالى: “وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ” [البقرة: 281]، فهذا عام للمؤمن والكافر، وإن كان أظهر في المؤمن، فلا معنى تعنيف فيه، فوضح التناسب في الآيتين.”[3]

 

[1] المحرر الوجيز، 4/464

[2] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، رقم: 449، ولفظه: عن أبي هريرة، عن النبي -صلي الله عليه وسلم -، قال: “إن عفرِيتاً من الجن تفلت عليَّ البارحة ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه فَدَعَتُّهُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ ساريةٍ من سواري المسجدِ، حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكُم أجمعون، قال: فذكرت دعِوة أخي سليمان: رب “هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي”. قال فَرَدَّه خاسئًا.

[3] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في توجيه متشابه اللفظ من آي التنزيل، 2/645-647.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق