مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويأعلام

من أعلام التربية والتعليم بالداخلة في الفترة الإسبانية

من أعلام التربية والتعليم بالداخلة في الفترة الإسبانية:

الأستاذان محمد بارك الله والأشياخ بن تكرور

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا

كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا

فهوَ الـذي يبني الطبـاعَ قـويمةً

وهوَ الذي يبني النفوسَ عُـدولا

ويقيم منطقَ كلّ أعـوج منطـقٍ

ويريه رأياً في الأمـورِ أصيـلا

لا يجد المرء أبلغ ولا أمتع من هذه الأبيات الشوقية في مقام التذكر والتذكير بأفضال ومكارم رجال التربية والتعليم، ومالهم علينا من حقوق الإجلال و الإكبار، وواجب التقدير و الوفاء امتنانا لما قدموا من جميل الصنيع وحسن الأعمال في سبيل تربية وتعليم الأجيال. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(1).

وفي هذا السياق يستحضر هذا المقام مسار رجلين أفنيا عمريهما ومبلغ جهدهما لحمل أعباء رسالة التعليم، ومهمة التربية الصالحة للناشئة إبان الفترة الاستعمارية الاسبانية بإقليم الداخلة وادي الذهب ، ويقدم للقارئ الكريم صفحات مشرقة من سيرتهما الحافلة بالعطاء: أحدمها هو العلامة اليعقوبي الأستاذ الكريم الأشياخ بن تكرور حفظه الله تعالى وأطال بقاءه، وأما الآخر فهو المرحوم الأستاذ الكبير محمد بارك الله، عليه شآبيب الرحمة والرضوان.

إن هذه اللمحات السريعة الثاوية في  ثنايا هذه السطور المعدودة ـ والقليلة القاصرة طبعا في حق هذين الرجلين ـ لا تتغيا سوى تجديد ذكرهما والتعريف بهما، واستلهام قيم التضحية والعطاء من سيرتهما ومسارهما الحافل، كما تهدف إلى تعزيز ثقافة الاعتراف بالجميل والوفاء لهذين الرجلين نظير ما قدماه من جسيم التضحيات، و عظيم العطاءات في الحقلين التربوي والثقافي بجهة الداخلة وادي الذهب.

العلامة الأستاذ الأشياخ بن تكرور(2): أول مدير لثانوية الحسن الثاني بالداخلة:

هو العلامة الفاضل الأشياخ بن العلامة الشيخ محمد المصطفى اليعقوبي الموسوي المالكي الأشعري المغربي ، ولد سنة 1937 م  بمنطقة تسمى(تكبة)، وتقع على بعد مائة متر تقريبا جنوب مدينة الداخلة. ينتسب لأسرة علمية عريقة بالمنطقة، فوالده هو العلامة الجليل محمد المصطفى بن الشيخ محمد عبد الله بن تكرور، و أمه هي مريم بنت محمد عبد الرحمن الفاضلية  (من آل الفاظل بن بارك الله فيه)، وينتهي نسب  جده  العلامة الشيخ محمد عبد االله ابن المختار ابن اتفغ موسى اليعقوبي إلى سيدنا جعفر ابن أبي طالب(3).

نشأ في وسط علمي أصيل وبيئة بدوية محافظة، فقد كان بيت أبيه محج طلبة العلم، لمكانته المعروفة وإشعاع محضرته الواسع(4)، وفيها تلقى تكوينه بدءا بتعلم الكتابة والقراءة، ثم اللغة العربية بنحوها وقواعدها وأشعارها ، فضلا عن الآي القرآني والسيرة النبوية.  كما كان لوالدته الكريمة إسهام في تعليمه وتكوين شخصيته حيث أكمل على يدها ثلث القرآن الكريم، ثم أتمه على شيخه الفاضل المرحوم محمد عبد الله ابن ممين ابن ابوه(5). و بعد ذلك شرع في الدراسة العلمية فأخذ من مختلف الفنون المحظرية المعروفة من عقيدة وفقه وشعر عربي، وتتلمذ في أثناء ذلك على علماء كبار على رأسهم والده العلامة الشيخ محمد المصطفى، والعلامة محمد عبد الله ابن ابوه، والعلامة المجلسي القاضي محمد حبيب الله ولد ابوه، والشيخ آب ابن البخاري ، كما استفاد  كثيرا من تلميذ والده، و رفيق دربه المرحوم محمد بن محمد فاضل ـ الذي سياتي الحديث عنه لاحقا ـ هذا بالإضافة طبعا لتردده المستمر على مجالس العلم، والبحوث الجمة والمطالعة الدائمة.

و في سنة1964  التحق الأشياخ بسلك التعليم، وعين بمدينة الداخلة، بعد أن اجتاز امتحان الولوج لمهنة التدريس بقرية «تشلا»، بعد ذلك بسنتين انتقل للتدريس بمدينة العركوب، لكنه لم يتمم التدريس بها حيث تم استدعاؤه لمدينة الداخلة وبقي بها يمارس مهنة التعليم، كما كانت السلطة المحلية الاسبانية تستدعيه للقيام بترجمة بعض الوثائق المتعلقة بأحكام القضاء وأحيانا أخرى بإحصاء السكان العام.

وخلال هذه السنوات شارك في مختلف الدورات التكوينية التي نظمت في إطار التكوين المستمر للمعلمين الذي كانت الإدارة الاسبانية تشرف عليه، ونجح في آخرها كأستاذ للتعليم الأساسي سنة 1975م. وبعد انسحاب اسبانيا بقي في نفس المهمة، إلا أنه ومع تواجد  الإدارة الموريتانية انتقل من التدريس إلى الإدارة حيث عين مديرا للمدرسة الإبتدائية بالداخلة . وفي ظل  الإدارة المغربية كلف الأشياخ بن تكرور بإدارة التعليم الاعدادي إلى سنة 1984 حيث عين مديرا لثانوية الحسن الثاني، وبقي بها حتى بلغ سن التقاعد سنة 2002م.

هكذا كان المسار العلمي والمهني لهذا الأستاذ  الجليل ثريا ، وإشعاعه التربوي غنيا وحافلا بالعطاءات والإنجازات وتَسنمِ الرتب العليات، و التي استحقها بما تميز به من قيم التضحية والإجتهاد، والصبر والمثابرة التي طبعت شخصيته المتفردة. وإلى اليوم لا يزال عطاءه الفَياض بفضل الله متجددا ومتوقدا، فمكتبته العامرة وبيته الكريم بمدينة الداخلة يعتبر قبلة للباحثين والطلبة الدارسين، ومختلف المهتمين بالعلم والفكر والثقافة، كما تعزز  إشعاعه العلمي بصدور كتابه الموسوم بـ«الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع» سنة 2015م. وهو كتاب فريد في موضوعه ومنهجه، يعبر ـ حفظه الله تعالى ـ عن مرامه ومقصوده منه بقوله في مقدمته: «نيتي هي جمع ما تيسر جمعه من السر الكامن في التسبيع راجيا من سر كل سبعة  أن تكون لي حصنا في الدنيا وللأبناء السبعة من مكارهها والمسلمين وكل من قرأ هذا الجمع .. ذلك أنني فكرت في جمع ماتيسر جمعه من كل سبعة مهما كان مصدرها وموضوعها ومغزاها، باستثاء مالايليق جمعه مع عظمة الله من السر المأثور عن السبع أو في السبع من كل شيء دون أن أغفل ما أمكن حصره من لفظها في العد بها ومثاله سبعة عشر أو سبعة ..» (6).

والكتاب هو موسوعة علمية وثقافية وتاريخية، يضم أزيد من ألف فائدة، و يتألف من سبعة أبواب تتبع فيها المؤلف مسألة التسبيع في القرآن والحديث والسيرة النبوية والفقه، والثقافة والتربية والتاريخ العربي والإسلامي، وأتى في كل باب منه بنكت وفوائد علمية لطيفة وفرائد جمة طريفة.

إن المتأمل في صفحات حياة هذا الرجل العظيم يلحظ أنه جمع بين التحصيل العلمي المتين والعطاء المهني الأمين، وزاوج بين العصامية في تكوين وبناء شخصيته العلمية من جهة، والعمل الميداني المعطاء في مجال التربية والتعليم من جهة أخرى، حيث تحمل تكاليف هذه الرسالة النبيلة بكل إخلاص وتجرد ونكران للذات . إنه أنموذج حي ينبغي التنويه به ورفع ذكره في كل المحافل التربوية والاحتفاء به على مختلف الأصعدة والمستويات، وخاصة في الوسط التعليمي بالجهة، تعريفا لناشئتنا به وبأضرابه من العلماء والأعلام الفضلاء، سبيلا إلى استلهام قيم الإجتهاد والتضحية والمواطنة الصالحة من معين سِيَرهم ومساراتهم النابضة بالعطاء و الرقي الإنساني.

الأستاذ الجليل محمد بارك الله رحمه الله تعالى: أول أستاذ تم تعيينه بالإدارة الإسبانية بالداخلة(7):

إنه الفقيه والأستاذ محمد بن محمد فاضل بن محمد الأمين بن الحاج المغربي الباركي (أو محمد الحاج كما يُعرف بالمنطقة)، والدته هي سكينة بنت عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي، ولد سنة 1932م بإقليم أوسرد، في وسط علمي و أدبي عريق بالمنطقة ، حفظ القرآن الكريم وهو دون سن العاشرة، كما درس مبادئ اللغة العربية على يد والده محمد فاضل، فنهل من علوم اللغة وحفظ المعلقات وأشعار أصحابها وغيرهم مما مكنه من تحصيل رصيد لغوي مهم صنفه في طليعة طلبة المحاظر الصحراوية بمنطقة وادي الذهب من حيث المعرفة باللغة والنحو والصرف والإعراب.

انتقل الأستاذ محمد مع نهاية الأربعينيات وخلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين إلى محظرة العلامة الشيخ محمد المصطفى بن تكرور اليعقوبي ـ والد الأستاذ الجليل الأشياخ بن تكرور ـ والتي كانت حينها من أبرز المحاظر الصحراوية بالمنطقة، فدرس الفقه المالكي أصولا وفروعا، مبتدئا بكتاب الأخضري فمتن ابن عاشر، ثم مختصر خليل والمدونة، ثم رسالة ابن أبي زيد، وبعد تضلعه في علوم الفقه المالكي قرر بإيعاز من شيخه دراسة علوم القرآن من رسم وتجويد، فدرس منظومة ابن بري والشاطبية وغيرها، كا نهل من ثقافة الصحراء المحلية فحفظ عدة دواوين شعرية حسانية لأدباء وشعراء من مجتمع البيضان قديما وحديثا.

وفي سنة 1960م اجتاز امتحان أساتذة اللغة العربية والدين الإسلامي بالمدارس الإسبانية بمدينة الداخلة، ففاز بالرتبة الأولى ليتم اعتماده أستاذا للمادتين بسلك التعليم الإسباني، وذلك بتاريخ 4 فبراير 1961م، وعين بمدينة الداخلة حيث تابع بها التدريس منذ ذلك الحين حتى الانسحاب الاسباني سنة 1975م.

تخرجت على يده أجيال من أبناء المنطقة وغيرهم وأسهم بشكل كبير في حفظ وصيانة وجمع نفائس المخطوطات والوثائق التاريخية الصحراوية خاصة مؤلفات علماء المنطقة أمثال الشيخ محمد المامي، وامحمد ابن الطلبة، ومحمد عبد الله بن الفيلالي وغيرهم من أعلام الصحراء في مختلف الحقول العلمية والفكرية المتنوعة. وقد  ترك بعد وفاته ما يناهز 300 مخطوط ووثيقة تاريخية تولى ابنه محمد فاضل مهمة جمعها والحفاظ عليها، وتمكن من تأسيس «جمعية جلوى» لصيانة المخطوطات واستثمارها في التنمية المحلية.

ومن الناحية العلمية أيضا، فقد أسهم محمد بارك الله رحمه الله في تأسيس زاوية علم الشيخ محمد المامي وإعادة تفعيل دورها في الأقاليم الجنوبية، وكذا في موريتانيا، وذلك لكونه الأقرب للشيخ حيث ترعرع في وسطه العائلي ونهل من علومه من قريب فكان معترفا له بالخبرة المتميزة في أدب جده وعلومه. توفي رحمه الله تعالى  سنة 2002م، وووري الثرى بمدينة الداخلة العامرة.

ومما يحسن أن نجعله مسك ختامنا في الحديث عنه ، هذه القطعة الشعرية البديعة التي رثاه بها الفاضل الكريم محمد عبد الله بن محمد سالم بن محمود بن تكرور:

يا من نعيت لنا بالأمس فاضلنا

والدمع منك على الخدين في حرق

نعيت شيخا أبي النفس ذا ثقة

سخي كف كريم الخلق والخلق

يالهف نفسي فمن للحاج يجمع ما

قد كان يحفظه فردا وفي حلق

ومن للشيخ محمد المام بعدك في

شعر ونثر وفي سر وفي طرق

يا بارك الله في الابنا وألهمهم

صبرا جـميلا بلا أين ولا أرق

الله يرحمه ما ـ كان ـ أعظمه

حلما وأعبده في ليله الغسق

يا رب صب على قبر تضمنه

رحمى تكون بلا رعد ولا برق

صلى وسلم ذو العرش المجيد على

نبينا خير من في الأرض والأفق(8)

 الأشياخ بن تكرور ومحمد بن محمد فاضل : مدرسة في العلم و العطاء:

لا شاهد أبلغ في ختام هذه النظرات واللمحات السريعة من حياة هذين العلمين الفاضلين الجليلين، من قول القائل:

كرِّر عليَّ حديثَهم يا حادي الصادي

فحديثُهم يَجلو الفؤادَ

لقد كان الرجلان بحق أنموذجين ساطعين في التفاني في العمل التربوي والثقافي  بالجهة، وقدما الغالي والنفيس من حياتهما في سبيل القيام بالواجب التعليمي على أكمل وجه، ولم يألوا جهدا في سبيل تربية الأجيال على القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة الأثيلة، فتخرجت على يديهما صفوة من أطر وأعيان جهة الداخلة وادي الذهب، لذلك وجب الاحتفاء بهما وبمقامهما الأثيل، وتذكر عظيم ما قدماه عرفانا وامتنانا للجميل، وتنبيها إلى ضرورة العناية الدائمة بهؤلاء الأعلام وتكريمهم التكريم المستحق ، وتعريف الأجيال الجديدة بأعلام المنطقة وفضلائها، حتى يكونوا نبراسا وقدوات إيجابية للناشئة في التحلي بقيم المواطنة وحب العلم والعمل والبذل والعطاء.

بقلم الباحث: أحمد بزيد بارك الله

إعلامي باحث في سلك التكوين العالي المعمق بمؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط .

(1)سورة الأحزاب، الآية 23.

(2)اعتمدت في هذه الترجمة على النبذة المبثوثة في كتاب (الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع)، للأستاذ الأشياخ نفسه.  وهو كتاب يقع في  344 صفحة، راجعه ووضع فهارسه وقدم له محمد عبد الله بن محمود بن تكرور. الطبعة الأولى منشورات دار الأمان الرباط سنة 2015م.

(3)الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع 01.

(4)الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع 33.

(5)الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع 35.

(6)الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع 39ـ40.

(7)اعتمدت في التعريف به على النبذة المقدمة عنه في معلمة المغرب وهي قاموس مرتب على حروف الهجاء ،يحيط بالمعارف المتعلقة بمختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والبشرية والحضارية للمغرب الأقصى ، المدير المسؤول إبراهيم بوطالب أستاذ التاريخ بكلية الاداب بالرباط.  دار الامان ، الطبعة الأولى سنة 2014م. ج26 الملحق 3 ص 84).

(8)الأبيات أفادني بها الشاعر عبر بريده الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق