مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

منهج تفسير القرآن بالقرآن من خلال:”أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن” للشيخ محمد الأمين الشنقيطي

-محاولة في التقريب –

   دة. فاطمة الزهراء الناصري
أستاذة باحثة بمركز الدراسات القرآنية
بالرابطة المحمدية للعلماء

مقدمة في رفع الالتباس بين تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن للقرآن:

–  تفسيرالقرآن بالقرآن

هو منهج ضروري بمقتضى الوحدة البنائية للنص القرآني، للنظر في الآيات بمنهج التكامل والربط بين الجزئي والكلي، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، وقد يكون عمليا أعم من هذا فيشمل تفسير الغريب وبيان المبهم والجمع بين المتشابهات وما يتوهم أنه مختلف …

وقد عنَّ لي أنه من الواجب المنهجي قبل الحديث عن الجانب العملي التطبيقي لعملية تفسير القرآن بالقرآن من خلال “أضواء البيان”، رفع بعض الغموض الذي لحق هذا النوع من التفسير من حيث ظنيته أو قطعيته لقربه من طبيعة التفسير القرآني للقرآن، وقد ساهم في ذلك عوامل الاستعمال المصطلحي منذ بدايات التأليف المستقل في هذا المنهج التفسيري مع عبد الكريم الخطيب(تـ1406هـ) رحمه الله، الذي وسم تفسيره ب”التفسير القرآني للقرآن” ومارس فيه أعمق صورة من صور الاجتهاد في عملية تفسير القرآن بالقرآن.

وإذا علمنا أن عناصر العملية التفسيرية المحورية في عملية تفسير القرآن بالقرآن هي: المصدر والذات المفسرة، سهل علينا كشف الطبيعة الظنية لهذا التفسير، وبيان ذلك كالآتي: 

المصدر : في عملية تفسير القرآن بالقرآن هو القرآن نفسه؛ وهو لا يحتاج إلى إثبات أو توثيق الإسناد، وأعلى درجات هذا التفسير هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه تفسير للقرآن بالقرآن والسنة معا، كتفسير النبي صلى الله عليه وسلم   لقوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) [الأنعام/59] بآية: (إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان/34]1.

يعني أن قوة تفسير القرآن بالقرآن تتجلى في أن كلا النصين المفسر والمفسَر ينتميان إلى نفس المستوى اللغوي والمعرفي، على خلاف التفسير بنص آخر كقول الصحابي أو التابعي باعتبار منشئه الذي هو الاجتهاد، وإن تم إدراجه ضمن التفسير بالمأثور إلى جانب التفسير بالقرآن والتفسير بالحديث النبوي.

– الذات المفسرة:  تدخل هذا العنصر في العملية التأويلية هو سبب إضفاء صبغة الظنية على هذا النوع من التفسير، لأن المفسر يحاول من خلال الآليات المعرفية والمنهجية المتاحة له ومن خلال السياق التاريخي –الزمني والمكاني- ربط الآيات القرآنية ببعضها، ولا يمكن له الخروج عن هذا السياق أو عدم الرضوخ لهذه الآليات، هذا إذا ترفع عن استصحاب خلفياته المذهبية في العملية التأويلية.

       بل إن  مجانبة الصواب في منهج تفسير القرآن بالقرآن-كما في سائر المناهج- قد يصل إلى درجة الانحراف، كما فصل ذلك الباحث محسن بن حامد المطيري في كتابه: “تفسير القرآن بالقرآن: تأصيل وتقويم”، الذي جمع مادته من تفاسير الاتجاه الاعتزالي والرافضي والخارجي وغيرها من الاتجاهات التأويلية.

       وهو ما يعني أن المعول عليه في قوة التفسير ومصداقيته ليس المصدر المعتمد فقط-الذي هو القرآن -، بل إن الذات المفسرة عامل محوري في مصداقية التفسير؛ فإذا توفرت الشروط العلمية والأخلاقية في المفسر، والتزم بالضوابط المنهجية المطلوبة في العملية التأويلية اكتسى تفسيره مصداقية علمية، وتسقط هذه الأخيرة حال جهله أو تعسفه المنهجي وإن استند إلى القرآن نفسه.

      ولهذا اختار الإمام الشنقيطي –رحمه الله تعالى- مفردة: “إيضاح” -بما تحمله من دلالات النسبية- لبيان أن وجه تدخله التأويلي في الربط بين الآيات لا يكتسي طابع القطعية، بل هو محاولة اجتهادية فتحت الباب لمزيد من البيان استنارة بأضواء العلم وقوة الاستدلال والبرهان.

– تفسير القرآن للقرآن:

يتعلق بالآيات التي فسر فيها القرآن نفسه مباشرة، وذلك بوسائط لغوية تفيد ذلك، ويتضح ذلك من الأمثلة الآتية:

تفسير معنى مفردة: الطارق بأنه: النجم الثاقب؛ من خلال قوله تعالى: (والسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. وَمَا أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ)[الطارق/1-3].

تفسير قوله سبحانه: (ويلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)[المطففين/1] بقوله: (الذينَ إِذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإذا كَالُوهُمُ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين/2- 3]

تفسير قوله تعالى: (الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ) [القارعة/1-2] بقوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ . وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ )[القارعة/4-5].

ومن ذلك أيضا قوله: (اَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس/62] فقد ذكر مباشرة في الآية الموالية بأنهم (الذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس/63].

فمثل هذا التفسير يمكن وسمه بالتفسير الصريح والقطعي من حيث العموم، لأن التمثيل فيه أيضا موكول للمجتهد بحسب اجتهاده في دلالات اللغة، وهو موضوع يحتاج إلى تفصيل وتمثيل حول مدى حضور الذات المفسرة في هذه العملية التأويلية من عدمه.

1– الإمام محمد الأمين الشنقيطي وتفسيره أضواء البيان

أ- نبذة عن حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وجهوده العلمية:

ترجم له-رحمه الله تعالى-العديد من العلماء منهم : تلميذه عطية محمد سالم في مقدمة الأضواء2، و الزركلي في “الأعلام”3، وأحمد سعيد بن سليم في”موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين”4، ومحمد المجذوب في “رجال ومفكرون عرفتهم”5، وأفرد له عبد الرحمن السديس ترجمة بعنوان: “ترجمة  الشيخ محمد الأمين الشنقيطي”6.

هو الإمام العلامة المفسر محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الشنقيطي، ولقبه: آبا، بمد الهمزة وتشديد الباء من الإباء، ولد رحمه الله ـ عام 1325هـ ونشأ يتيما، حفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، درس خلال حفظه للقرآن بعض المختصرات في فقه الإمام مالك كرجز الشيخ ابن عاشر ودرس خلالها الأدب والنحو ، والسيرة على زوجة خاله7.

ثم درس بقية العلوم على جمع من العلماء منهم الشيخ محمد بن صالح المشهور، والشيخ محمد الأفرم، والشيخ أحمد عمر، والشيخ محمد زيدان، والشيخ محمد النعمة، والشيخ أحمد بن مود، وغيرهم…، أخذ عنهم النحو والصرف والأصول والبلاغة والتفسير والحديث8 .

من بين أعماله التي تولاها في بلاده التدريس والفتيا، ولكنه اشتهر بالقضاء والفراسة فيه، خرج من بلاده لأداء فريضة الحج، لكنه رغب في البقاء في المسجد النبوي لتدريس التفسير، وقد اختير للتدريس في المعهد العلمي بالرياض عند افتتاحه، وكان له دور في تأسيس الجامعة الإسلامية في المدينة، وعين كأحد أعضاء هيئة كبار العلماء عند بداية تشكيلها، وكان عضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي9 .

له تلامذة كثر، منهم ابنيه: الدكتور عبد الله والدكتور المختار، وعدد كبير من الشناقطة؛ كالشيخ أحمد بن أحمد الشنقيطي، والدكتور محمد ولد سيدي الحبيب، والدكتور محمد الخضر بن الناجي بن ضيف الله، و الشيخ حماد الأنصاري، والشيخ عبد المحسن العباد، والشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، والشيخ عبد العزيز القارئ، والدكتور عبد الله قادري10.

من مؤلفاته:”أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”، و”دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب”، و”منع جواز المجاز على المنزل للتعبد والإعجاز”،  و”مذكرة في الأصول على روضة الناظر”، و” أدب البحث والمناظرة”، و”رجز في البيوع على مذهب الإمام مالك”، و”ألفية في المنطق”، و”نظم في الفرائض”11 ، توفي رحمه الله تعالى سنة 1393هـ .

وقد ذكر رحمه الله تعالى أهم مقاصده من تأليف “أضواء البيان” كالآتي؛ أولا: بيان القرآن بالقرآن مع الالتزام بالقراءات السبعية دون القراءات الشاذة، ثانيا: بيان الأحكام الفقهية مع أدلتها من السنة، وأقوال العلماء، والترجيح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين ولا لقول قائل معين12.

ولذلك فهو علم الشناقطة في التفسير بلا منازع، وزعيم محرري التعارض بين آيات التنزيل بلا مجادل، صاحب الأضواء البينة والبيان المضيء.

ب- موقع أضواء البيان من جهود تفسير القرآن بالقرآن:

منهج تفسير القرآن بالقرآن باب واسع ولجه المفسرون بين مكثر ومقل في التفاسير التي تبدأ بسورة الفاتحة وتنتهي بسورة الناس،أو ما يصطلح عليه بالتفسير التجزيئي؛ فقد مارسه المفسرون قبل العلامة الشنقيطي بدءا بالتفاسير المصنفة بحسب ترتيب المصحف كالطبري في “جامع البيان في تأويل القرآن”، وابن كثير في “تفسير القرآن العظيم”، والقرطبي في “الجامع لأحكام القرآن” وغيرهم، لأنه منهج لازم لكل متأمل في كتاب الله عز وجل.

وأفرد بالتأليف في بعض التفاسير إلى جانب “أضواء البيان” مثل: “تفسير الكتاب بالكتاب” لعبد الرحيم عنبر الطهطاوي ت1365هـ، و”نظام القرآن: تأويل الفرقان بالفرقان” للمعلم عبد الحميد الفراهي1349، و”التفسير القرآني للقرآن” لعبد الكريم محمود الخطيب 1406هـ.

وتفرق كذلك تفسير القرآن بالقرآن-كما ذكر الدكتور محمد قجوي- في كتب الوجوه والنظائر13وكتب المبهمات14، وكتب المتشابه15، وتأويل المشكل16، وكتب علم المناسبة17، وكتب توجيه القراءات18.

ومن تجليات تفسير القرآن بالقرآن أيضا الدراسات المصطلحية19، ومصنفات التفسير الموضوعي20، وهناك العديد من قواعد التفسير التي تفترض هذا المنهج كقاعدة: “التفسير بالمعهود من الاستعمال القرآني” وغيرها كثير …

ج- المنهج العام في تفسير”أضواء البيان”

يظل أضواء البيان النموذج التطبيقي الأمثل-الذي وقفنا عليه لحد الساعة- الذي  يتربع على رأس التفاسير التي سلكت منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ من حيث العمق والشمول وسلامة المنهج وتحري الحياد العلمي، وقد أنجزت حوله مجموعة من الرسائل والأطروحات الجامعية21، وإن كان يحتاج إلى مزيد من البحوث والدراسات لاستكناه درره وفتوحاته خصوصا على مستوى آلياته في  الترجيح التفسيري وغيرها من القضايا.

والجدير بالذكر أن “أضواء البيان” لم يكن معنيا بتفسير جميع الآيات، بل وقف رحمه الله تعالى عند الآيات التي عن له تفسيرها قرآنيا بآية أخرى أو أكثر، وقد كان هاجسه الأول هو رفع التعارض الظاهري بين الآيات، وهاجسه الثاني بيان الراجح من الأقوال التفسيرية عند التعارض، قال رحمه الله تعالى: “إذا بينا قرآنا بقرآن في مسألة يخالفنا فيها غيرنا ويدعي أن مذهبه المخالف لنا يدل عليه قرآن أيضا، فإننا نبين بالسنة الصحيحة صحة بياننا وبطلان بيانه، فيكون استدلالنا بكتاب وسنة فإن استدل من خالفنا بسنة أيضا مع القرآن الذي استدل به، فإننا نبين رجحان ما يظهر لنا أنه الراجح، وكذلك إذا استدل مخالفنا بقرآن ولم يقم دليل من سنة شاهدا لنا ولا له فإننا نبين وجه رجحان بياننا على بيانه”22.

وقد وضح بعض ملامح منهجه العام قائلا: “مما التزمنا به في هذا الكتاب المبارك أنه إن كان للآية الكريمة مبين من القرآن غير واف بالمقصود؛ الأولى بيان منطوق بمنطوق…والثانية: بيان مفهوم بمنطوق…الثالثة: بيان منطوق بمفهوم…والرابعة بيان مفهوم بمفهوم”23.

وهو لا يثير مسألة من المسائل الخلافية دون أن يعرض أقوال وأدلة كل فريق من  العلماء، مقارنا بينها، مرجحا ما بدا له رجحانه، موضحا دليله في الترجيح، والترجيح عنده لا يقتصر على المسائل الفقهية؛ بل شامل لكل خلاف، سواء كان في التفسير أو في المسائل الأصولية أو القضايا العقائدية أو غير ذلك…

ومع أن الخصيصة الجوهرية  لتفسير: “أضواء البيان” ضمن التفاسير المعاصرة هي تفسير القرآن بالقرآن-باعتماد القراءات السبعية والاستئناس بالقراءات الشاذة – فإن الشنقيطي يستحضر السنة النبوية بقوة، متحريا الصحة في الغالب لفصل النزاعات العلمية، وبيان الصواب في الكثير من المسائل الخلافية، كما يقف وقفة الخبير عند الكثير  من المسائل الأصولية والفوائد اللغوية، وهو من المفسرين الأكثر التزاما بالمنهج الذي سطروه في المقدمة.

– أنواع إيضاح القرآن بالقرآن من خلال أضواء البيان:

إذا كانت مفردة “إيضاح” المسطرة في عنوان تفسير الإمام الشنقيطي تفيد  النسبية والاجتهاد–كما سبق القول-، إلا أن العملية التأويلية في هذا التفسير كانت مسيجة بمنهج علمي صارم وكان هناك حضور قوي للأصول والقواعد الضرورية  لهذا النوع من التأويل، ومن مظاهر ذلك ذكره لأنواع بيان القرآن بالقرآن التي وقف عليها وأُطرت بها عمليته الإيضاحية -باختصار- كالآتي24:

بيان الإجمال الواقع بسبب اشتراك سواء كان الاشتراك في اسم أو فعل أو حرف: ومن أمثلة الإجمال بسبب الاشتراك في اسم، قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج/29] فإن العتيق يطلق بالاشتراك على القديم، وعلى العتق من الجبابرة، وعلى الكرم، لكن دلت آية من كتاب الله على أن العتيق في الآية بمعنى القديم الأول، بدليل قوله تعالى:( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) [آل عمران/96] مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا.

– بيان الإجمال الواقع بسبب إبهام في اسم جنس؛ جمعا كان أو مفردا أو اسم جمع أو صلة موصول أو معنى حرف25، وقد ذكر عدة أمثلة لكل نوع من أنواع هذه الإجمالات مع بياناتها بالتفصيل

– ذكر شيء في موضع ثم يقع سؤال عنه وجواب في موضع آخر: وذكر مثالا لذلك قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) [الفاتحة/1] فإنه لم يبين هنا ما المراد بالعالمين ولكن وقع سؤال عنهم وجواب في موضع آخر وهو قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما)[الشعراء/23/24]

– كون الظاهر المتبادر من الآية بحسب الوضع اللغوي غير مراد بدليل قرآني آخر على أن المراد غيره: مثاله قوله تعالى: (الطلاق مرتان) [البقرة/229] فإن ظاهره المتبادر منه أن الطلاق كله محصور في المرتين ولكنه تعالى بين أن المراد بالمحصور في المرتين خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة بقوله: (فإن طلقها فلا تحل له بعد حتى تنكح زوجا غيره) [البقرة/ 230].

– أن يقول بعض العلماء في الآية قولا  ويكون في نفس الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول: من ذلك قول أبي حنيفة رحمه الله: إن المسلم يقتل بالكافر الذمي مثلا؛ قائلا إن ذلك يفيده عموم النفس بالنفس في قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة/45] فإن قوله في آخر الآية (فمن تصدق به فهو كفارة له) قرينة على عدم دخول الكافر إذ لا تنفع الأعمال الصالحة مع الكفر.

–  أن يذكر وقوع شيء في القرآن ثم يذكر في محل آخر كيفية وقوعه: مثاله قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده) [البقرة/51] فإنه لم يبين هنا كيفية الوعد بها هل كانت مجتمعة أو مفرقة؟ ولكنه بينها في الأعراف بقوله (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) [الأعراف/142]26.

–  أن يقع طلب لأمر ويبين في موضع آخر المقصود من ذلك الأمر المطلوب: كقوله تعالى في الأنعام: (وقالو لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر) [الأنعام/8]، فإنه بين في الفرقان أن مرادهم بالملك المقترح إنزاله أن يكون نذيرا آخر معه صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) [الفرقان/7].

–  أن يذكر أمر ا في موضع ثم يذكر في موضع آخر شيء يتعلق بذلك الأمر:  كأن يذكر له سبب أو مفعول أو ظرف مكان أو ظرف زمان أو متعلق وقد ذكر أمثلة لكل نوع من هذه الأنواع27.

– الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن: فغلبته فيه دليل عدم خروجه من معنى الآية، ومثاله إطلاق الظلم على الشرك، كقوله: “ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)[الأنعام/82]، وقوله: (إن الشرك لظلم)[لقمان/13]،وقوله: (والكافرون هم الظالمون) [البقرة/254]، وقوله: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك من الظالمين) [يونس/106]28.

بيان أن جميع ما وصف به الله تعالى نفسه في هذا القرآن العظيم من الصفات فهو موصوف به حقيقة لا مجازا: وقد مثل رحمه الله لذلك بالاستواء واليد والوجه ونحو ذلك من جميع الصفات، مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة صفات الحوادث، وذلك البيان العظيم لجميع الصفات في قوله جل وعلا: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى/11].

أن يرد لفظ محتمل لأن يراد به الذكر وأن تراد به الأنثى، فتبين آية أخرى أيهما المراد: ومثاله قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفسا) [البقرة/72] فإن النفس تطلق على الذكر والأنثى، وقد أشار تعالى إلى  أنها هنا ذكر بتذكير الضمير العائد إليها، في قوله: (فقلنا اضربوه ببعضها) [البقرة 73].

أن يخلق الله شيئا لحكم متعددة فيذكر بعضها في موضع فإننا نبين البقية المذكورة في المواضع الأخر: كما في قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها)[الأنعام/97]، فإن من حكم خلق النجوم تزيين السماء الدنيا ورجم الشياطين أيضا كما بينه بقوله: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين)[الملك/5]، وقوله: (إنا زينا السماء بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد) [الصافات/6].

أن يذكر أن شيئا سيقع ثم يبين وقوعه بالفعل: كقوله: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) [الأنعام/148]، وصرح في النحل أنهم قالوا ذلك بالفعل، (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء) [النحل/35]

أن يحيل تعالى على شيء ذكر في آية أخرى فإننا نبين الآية المحال عليها: كقوله في النساء: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا رأيتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم)[النساء/140] والآية المحال عليها هي قوله تعالى في الأنعام: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام/68]

أن يذكر شيء له أوصاف مذكورة في مواضع أخر، فإنا نبين أوصافه المذكورة في تلك المواضع: كقوله تعالى: (وندخلهم ظلا ظليلا) [النساء/57]،  فإنا نبين صفات ظل أهل الجنة في غير هذا الموضع كقوله: (أكلها دائم وظلها)[الرعد/35]، وقوله:(وظل ممدود) [الواقعة/30]

إشارته تعالى في الآية من غير تصريح إلى برهان يكثر الاستدلال به في القرآن العظيم على شيء فإننا نبين ذلك: مثاله قوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) [البقرة/21-22]، فقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة براهين من براهين البعث يكثر الاستدلال على البعث بكل واحد منها في القرآن:

أ- خلق الخلائق أولا فإنه من أعظم الأدلة على القدرة على الخلق مرة أخرى، (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) [يس/79]

ب ـ خلق السماوات والأرض، لأن من خلق ما هو أعظم وأكبر فهو قادر على خلق ما هو أصغر بلا شك، كقوله: (آنتم أشد خلقا أم السماء بناها) [النازعات/27]

ج ـ  إحياء الأرض بعد موتها أوضحه في آيات كثيرة كقوله: (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) [فصلت/39]

– أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه:كقوله: (ذلك ومن يعظم شعائر الله) [الحج/32] فقد صرح بدخول البدن في هذا العموم بقوله بعده: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) [الحج/36]29.

هذه الأنواع وغيرها التي كانت تحكم عملية تفسير القرآن بالقرآن في “الأضواء”، تعني أن هذا التفسير كان مؤطرا بمنهج علمي واضح وصارم، ولم يكن مجرد خواطر أو فتوحات لا تخضع لقاعدة أو ضابط، ومع ذلك كله أعلن الشنقيطي بداية من عنوان الكتاب؛ أن هذه المادة التفسيرية هي مجرد إيضاحات بما تحمله هذه الكلمة من حمولة دلالية تفيد النسبية وحضور الرأي والاجتهاد.

خلاصة:

تفسير القرآن بالقرآن معين لا ينضب من الدلالات، يمكن أن يجود بها الربط المبارك للمفسر بآلياته المعرفية، وفتوحاته الربانية، وسياقاته الزمانية والمكانية،  وتحدياته التاريخية.

وليس من ثماره تفسيرات قطعية بوهم أن التفسير كان بالقرآن، فإنه وإن كان النص في أعلى درجات الثبوت وكان معناه في غاية الظهور والرجحان، فإن الربط بين الآيات إنما يقوم به إنسان، يتأمل ويقارب ويربط الآيات بالحياة، فيرى كل واحد وجوها مختلفة من وجوه البيان، وقد يصل الأمر إلى التعارض بين مفسري القرآن بالقرآن، خصوصا عندما تهيمن المذهبيات، وتختلف الخلفيات والمرجعيات.

بل إن هذا اللون من التفسير هو مرتع خصب لأهل الإلحاد والمروق قديما وحديثا مثل:”الهداية والعرفان” لأبي زيد محمد، “والبيان بالقرآن” لكمال المهدوي، حيث التغييب المقصود للحديث النبوي الشريف في التفسير، مما فسح المجال  للكثير من التعميم والغموض.

ولوقوفي مدة غير يسيرة مع تفسير: “أضواء البيان”؛ أقول إنصافا للعلم والمنهج: إنني صادفت سقطات علمية ومنهجية في تفسير بعض الآيات المتعلقة خصوصا بموضوع المرأة؛ كمفهوم القوامة ومعنى “المكر” وغيرها..،  لكن إنصافا للتراث الذي يشكل الذاكرة وركيزة الوجود لجميع الأمم ومرقاة مجدها إلى المستقبل، لا يسعني إلا القول: إن “أضواء البيان” ذرة ثمينة في جبين التراث التفسيري، وركن متين في منهج تفسير القرآن بالقرآن.

الهوامش:

1- صحيح البخاري كتاب تفسير القرآنسورة الأنعام، باب: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، رقم: 4351

2- نشرت الترجمة ضمن بعض طبعات “أضواء البيان، وقد استغرقت سبعة عشر صفحة من القطع الكبير.

3-  ج6، ص45.

4- ج2، ص139 وما بعدها.

5-  ص 185

6- من منشورات دار الهجرة بالسعودية.

7- “أضواء البيان” الترجمة للشيخ عطية سالم 1/11، “علماء ومفكرون عرفتهم” محمد المجذوب، 1/171

8- نفسه، 1/16

9- “طبقات النسابين” بكر أبو زيد، ص 298.

10-“ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي”الشيخ عبدالرحمن السديس، ص 179 .

11- “أضواء البيان”، الترجمة للشيخ عطية سالم 1/27

12- “أضواء البيان”، ج1/ص35

13- والمقصود بالوجوه والنظائر كما قال ابن الجوزي: “أن تكون الكلمة واحدة، ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد، وحركة واحدة، وأريد بكل مكان معنى غير الآخر”، “نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر”، ص 83، فالنظائر وحدة اللفظ والوجوه تعدد المعنى، ومثاله لفظ الأمة في القرآن الكريم، والمؤلفات فيه كثيرة منها: “ما اتفق لفظه واختلف معناه”، لأبي العباس المبرد، وكتاب الوجوه والنظائر لأبي بكر النقاش، وأشهرها معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني.

14- المقصود بعلم المبهم العلم الذي يعني ببيان ما ورد مبهما في القرآن الكريم من الأعلام والأماكن والأحداث وتفاصيل الأمور ،  من أشهر المؤلفات فيه: “التعريف والإعلام لما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام” لعبد الرحمن السهيلي، و”التبيان في مبهمات القرآن”، لابن جماعة، لأن القرآن صرح وفصل في مواضع واستغنى عن ذلك في مواضع أخر  لذلك يعتمد على أية أخرى أو أكثر أو دلالة السياق لبيان المبهم.

15- المتشابه من أهم المؤلفات فيه: “حل الآيات المتشابهات” لابن فورك، والفريد أن باقي المصنفات في هذا الفن كلها لشيوخ المعتزلة كقطرب والهمداني والجبائي والقاضي عبد الجبار.

16- المشكل: هو ما التبس من الآيات وغمض بسبب الاشتباه والتداخل أو بسبب خفاء المعنى ودقته، وهذا يعم ما يوهم التعارض وغيره من وجوه الإشكال، من مؤلفاته:”تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة”، “تفسير آيات أشكلت” لابن تيمية، “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب” لمحمد الأمين الشنقيطي.

17- المقصود بعلم المناسبة؛ العلم الذي تعرف به علل الترتيب أي علاقة الجزء بما وراءه وما أمامه من الارتباط.

18-انظر كتابه: “تفسير القرآن بالقرآن دراسة تاريخية ونظرية”، انظر من الصفحة: 95 إلى307من إصدارات مركز الدراسات القرآنية،  ط1، مطبعة المعارف الجديدة، سنة 2015م.

19- وهي حسب الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى:”بحث في المصطلح لمعرفة واقعه الدلالي من حيث مفهومه وخصائصه المكونة له، وفروعه المتولدة عنه ضمن مجاله العلمي المدروس به” المصطلح الأصولي عند الشاطبي، 1/51 ، طبعة دار السلام، سنة 2010م، وقد أنجزت دراسات هائلة في هذا الحقل المعرفي في إطار المشروع الذي سطره الدكتور الشاهد البوشيخي من خلال مجموعة كبير ة من البحوث الجامعية، انظر “دليل الرسائل والأطروحات الجامعية بالمغرب في مجال الدراسات القرآنية؛ مع ما أنجز حول مواضيعها في الجامعات العالمية: جرد وتصنيف وتقييم”، دة.فاطمة الزهراء الناصري، من إصدارات مركز الدراسات القرآنية، سنة: 2017.

20- وهو النظر في الآيات التي تربط بينها وحدة موضوعية معينة باستقراء ما جاء في القرآن متعلقا بالموضوع المدروس، وتتبع سياقات ذلك” انظر مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم، ص25، دار القلم دمشق، ط1، سنة 1989م، ومن أمثلة المؤلفات في هذا الموضوع: “كتاب خلق الأفعال” لأبي الحسن الأشعري، وكتاب: “الإيمان”، “العبودية”، “الفرقان” لابن تيمية، وكذلك: ” القرآن والمرأة”، ” اليهود في القرآن”، “القرآن والضمان الاجتماعي” لعزة دروزة.

21- منها: – رسالة ماجستير بعنوان: “منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام من أضواء البيان” لعبد الرحمن السديس، إشراف: عبد المجيد محمود، جامعة أم القرى،  سنة: 1410هـ.

– بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا بعنوان: “محمد الأمين الشنقيطي ومنهجه في التفسير”، لمحمد قجوي، إشراف: الشاهد البوشيخي، كلية الآداب فاس ظهر المهراز، سنة:1411هـ.

-بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة بعنوان: “منهج محمد الأمين الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام من خلال سور البقرة، النساء، المائدة”، لمحمد عبد الله بن محمد الحضرامي، إشراف: عبد المجيد مجيب، دار الحديث الحسنية، سنة: 1422هـ.

– بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة: “الترجيحات الفقهية لمحمد الأمين الشنقيطي من خلال تفسيره أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛ سورة البقرة والنساء أنموذجا” لفاطمة الزهراء الناصري، بإشراف: أحمد نصري، كلية الآداب بالمحمدية، سنة:1425هـ.

– بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة بعنوان: «الشنقيطي ومنهجه في التفسير» لسميرة بنت صقر آل محمد،  تناولت المنهج العام في هذا التفسير.

22- أضواء البيان، ص20.

23- مثل رحمه الله تعالى لبيان المنطوق بالمنطوق: ببيان قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم) [المائدة/1]، بقوله: (حرمت عليكم الميتة)، [المائدة/3]، ولبيان مفهوم بمنطوق، ببيان مفهوم قوله: (هدى للمتقين) [البقرة/2] بمنطوق قوله: (والذين لايؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) [فصلت/44]، ولبيان منطوق بمفهوم؛ ببيان قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم) [المائدة/3]بمفهوم آية تحريم الدم مطلقا وهو منطوق قوله تعالى: (أو دما مسفوحا) [الأنعام/145] يدل بمخالفته على أن غير المسفوح ليس كذلك، ولبيان مفهوم بمفهوم: بقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة/5]، على القول بأن المحصنات الحرائر فإنه يدلف بمفهومه على أن الأمة الكتابية لا يجوز نكاحها ص:( 50/51)

24- أضواء البيان، ص44

25- نفسه، ص38

26- نفسه، ص41.

27- نفسه، ص42

28- نفسه، ص44

29- ذُكرت هذه الأنواع من تفسير  القرآن بالقرآن بتصرف واختصار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق