مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

منظومة الرعاية والدعم في التقليد العلمي العربي الكلاسيكي

 

(تقرير أطروحة دكتوراه حول تاريخ العلوم العربية وفلسفتها)

 

نقدم للقارئ الكريم نص هذا التقرير الخاص بأطروحة الدكتوراه التي ناقشها الأستاذ الباحث الخياطي الريفاعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويندرج نشر هذا التقرير ضمن مبادرة مركز ابن البنا المراكشي الخاصة بنشر تقارير الأطروحات المتعلقة بتاريخ العلوم وفلسفتها، خصوصا تلك الأطروحات التي أنجزت ونوقشت داخل الجامعات المغربية.

نص التقرير

إنجاز الأستاذ الباحث الخياطي الريفاعي

نوقش برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط أطروحة للدكتوراه في الفلسفة أعدها الطالب الباحث الخياطي الريفاعي تحت إشراف الدكتور محمد أبطوي والدكتور محمد مزوز. وكان موضوع هذه الأطروحة هو: “منظومة الرعاية والدعم في التقليد العلمي العربي الكلاسيكي“.

تهدف هذه الأطروحة إلى التأكيد على أن معظم الدراسات التي أنجزها مؤرخو العلوم العربيّة تتأطر ضمن سياق تحليل محتوى النّصوص العلمية والفلسفيّة من أجل تحديد منزلتها بالنسبة للتطور العام للعلوم والفلسفة كإرث إنساني مشترك من جهة، ثم مراجعة الأطروحات العلمية حول قيمة الإنتاج العلمي والفلسفي في الحضارة الإسلاميّة الكلاسيكيّة من جهة أخرى.بيد أن تحديد قيمة الأفكار والنظريّات العلمية والفلسفيّة  للنّصوص الكبرى لا يتوقف فقط على الدراسة الداخلية لها في سياق مبحث فلسفة العُلوم، بل لابدّ من استكمالها بدراسة علاقاتها بالسياق الاجتماعيّ في سياق ما يسمّى اليوم بمبحث سوسيولوجيا العلوم. لذلكيندرج بحثنا بشكل عام في هذا السياق الذي يُعنى بدراسة دور العوامل الاجتماعية في تطوّر الفكر العلميّ العربيّ داخل الحضارة الإسلاميّة خلال العصر الكلاسيكي. فإذا كان المجتمع المعاصر يعرف تمويلا للبحث العلمي من خلال المؤسسات الرسميّة التي تحتضنها الدولة والمنظّمات العالمية، فإن الإنتاج العلمي في الحضارة الإسلاميّة خلال العصر الكلاسيكي كان يُموّل بصفة حصريّة عن طريق الرّعاية والاحتضان العلمي.

بالتالي، لا يمكن الحديث في المجتمعات المعاصرة عن رعاية واحتضان خاص وفردي للعلماء، بل نتحدث عن مجتمع المعرفة القائم على مؤسسات علمية تموّل الباحثين بشكل رسميّ وباتفاق بين جميع الأطراف. لكن في مقابل هذا الوضع، كان يتم رعاية البحث العلمي واحتضانه في المجتمع الإسلامي الوسيط بصفة حصرية عن طريق مبادرات شخصية، خاصة من طرف الخلفاء والأمراء والوزراء والأغنياء وذوي الجاه والثراء.

لقد أفضت هذه الظاهرة إلى نتائج كثيرة على مستوى استمراريّة البحث العلمي وانتظامه زمانًا ومكانًا. فمن حيث الزمان كانت مدة إنجاز البحوث العلمية، وما يتعلق بها من أعمال، متصلة اتصالا وثيقا ببقاء الراعي الرسميّ على قيد الحياة، كما أنها مشروطة باستمرارية ممارسته لسلطته أو على الأقل محافظته على ثروته المالية التي تعتبر محرّكًا فاعلًا.ومن حيث المكان، كان يؤدي تنقل الرعاة من مكان لآخر أو وجودهم في مكان دون غيره إلى تقلص مجال استفادة بقية الباحثين من الدعم والرعاية لأعمالهم العلمية، مما يضطرهم أحيانًا إلى تكبّد عناء الرحلة بحثًا عن رعاة لأعمالهم وأماكن آمنة لاستقرارهم رفقة أسرهم. وعليه، يمكن التأكيد على أن ظاهرة الرعاية المادية للعلماء والفلاسفة واحتضان أعمالهم العلمية كانت ميّزة مهمة من مميزات الحضارة الإسلاميّة في المرحلة الكلاسيكية. كما يمكن القول أن أمورا كالارتقاء الاجتماعي ونيل الحُظوة والتنافس بين العلماء والفلاسفة من أجل الظفر بالمناصب داخل بلاطات وقصور الخلفاء والأمراء كانت تتوقف على ما يمتلكه هؤلاء من رأسمال معرفي يخوّل لهم نيل ثقة رُعاتهم.

إن فحص موضوع الرعاية المادية للعلماء والفلاسفة واحتضان أعمالهم في المجتمع الإسلامي الوسيط ومدى تأثير هذه الظاهرة على نشأة التقليد العلميّ- الفلسفيّ العربيّ وتطوّره، جعلنا نقسّم البحث إلى بابين، ولكل باب فصول. فقسّمنا الباب الأول إلى فصلين، يهتم الأول منهما بأهم القضايا المتعلقة بمبحث سوسيولوجيا العلوم، أما الفصل الثاني فخصّصناه للمؤسسات العلمية في التقليد العلمي العربيّ الكلاسيكي. وخصّصنا الباب الثاني للنّظر في نماذج مُختارة من العُلوم التي نشأت في أحضان رعاية الخُلفاء للعلماء، ثم البحث في دور مرصد مراغة في تطوّر علم الفلك العربيّ. فقسّمناه إلى فصلين، يتفرّد أولّهما ببسط القول في ظاهرة احتضان البحث العلميّ من خلال نماذج مختارة معبّرة زمانيًّا وحسب مجالات علمية تخصّ أساسا علمي الفلك والرياضيات. وأفردنا الفصل الثاني للحديث عن نموذج تطبيقي من خلال تحليل دور الرعاية العلمية في تطوّر علم الفلك بمرصد مراغة خلال القرن الثالث عشر الميلادي، ومدى تأثير نتائج هذه المدرسة على مستوى النهضة الأوربيّة التي توّجت بما يسمّى الثورة الكوبرنيكيّة.وقد أنهينا البحث بفصل ختامي عرضنا فيه أهم نتائج موضوع الرعاية والدعم في التقليد العلميّ العربيّ الكلاسيكيّ.

وقد تمثلت خلاصتنا الرئيسية في أن تمويل الإنتاج العلميّ في المرحلة الوسيطة كان يتم حصريًّا عن طريق آلية رعاية العلماء واحتضان أعمالهم، وهذا ما توافق مع طبيعة المجتمع الإسلامي آنذاك.بيد أن الآلية المذكورةلم تكن أداةً فعّالة دومًا في ضمان استمراريّة البحث العلمي بشكلٍ منتظمٍ، لأنّنا رأينا في حالات متعلقة بمختلف أنواع المؤسّسات، من مراصد ومستشفيات وغيرهما، الكيفية التي تحوّلت بها الرعاية نفسها إلى عائقٍعندما تتوقف بشكل مفاجئبسبب وفاة الرُّعاة أو لأسباب أخرى. من هنا تمّ التفكير في إيجاد مصادر تمويل إضافية كالوقف، كما حدث في حالة مرصد مراغة، الذي خصّصت له أوقاف ضمنت استمرار عملهكمرصد واستمرار عمل المؤسسات المساندة له.

أنشأت الحضارة العلمية الإسلامية بحكم ظروفها المادية والاجتماعية، وعلى عكس الحضارات القديمة الإغريقية والرومانية، المؤسسات العلمية على نطاق واسع ابتداءً من المرحلة الأموية. ونذكر في هذا الإطار بأنمؤسسات العُلوم التي شهدها العالم القديم كانتقد اندثرت كلها، ولم تقدم للمسلمين نموذجًا يُحتذى، بل أنشأ المجتمعالاسلامي مؤسساته العلمية الخاصة به والمُناسِبة لظروفه المتميّزة، وكانت مؤسسات تطابق خصائصها المدى الجغرافي والبشري الواسع للمجتمع الإسلامي الذي تميّز بتركيبته السكانية وتعدد طوائفه …

إن المهمة المنوطة بالباحثين في الوقت الراهن هي تحليل معطيات الأعمال العلمية المنشورة من أجل معرفة الأفكار العلمية والفلسفية، ثم تحقيق بقية المخطوطات العلمية والفلسفية والوقوف على مجاهيلها من أجل استثمارها في دراسة مسار انتقال الأفكار العلمية والفلسفية وتلاقحها بين العالمين الإسلامي واللاتيني. تتحقّق الأهداف أعلاه بواسطة تعميق البحث الأكاديمي في النّصوص الفلسفية والعلميةوفق معايير صارمة، وذلك في إطار بنيات بحث تتوفر لها شروط الدعم والتمويل الضرورية. فَالبحثُ العلميُّ لا يُثمر إلاّ حيثُ يجدُمناخا مُناسبًا لاحتضَانِه، ومن أهم شروط هذا المناخ، توفر رعاية مؤسسية تدعم البحث العلمي وتهيئ له الظروف المناسبة للازدهار والتطور. ولا شك أن الحضارة العربية الإسلامية في الفترة الكلاسيكية قد شهدت مظاهر وجوانب مشرقة بخصوص هذه الظاهرة، وهذه النقطة بالذات، هي ما حاولنا إبرازها في هذا البحث دون أن نغفل عن حدودها وما رافقها من عوائق.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق