مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

ملامح من تجديد الفقه عند العلامة محمد بن الحسن الحجوي

لقد عُرف عدد من علماء القرويين باهتمامهم بإصلاح الجامعة فيما يخص نظامها المتعلق بالتدريس والمواد المدرسة ونظام الامتحانات ورواتب الأساتذة، وغيرها ..

من بين هؤلاء الغيورين على جامعة القرويين، يبرز الشيخ محمد بن الحسن الحجوي بفكره الإصلاحي  في مجال العلوم بحكم الوظائف التي تقلدها؛ حيث مارس التدريس في القرويين، وسمي نائب الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف؛ وقد أقر بأنه قبل بهذا المنصب رجاء نفع العلم (الفكر السامي 1/13)؛ وفي هذه المدة فتحت عدة مدارس ابتدائية بالمدن المغربية بعد خلوها منها، وباشر إدخال العربية ومبادئ العلوم الشرعية، من توحيد وفقه وأخلاق للمدارس الابتدائية والثانوية، وبسبب ذلك حصل الإقبال على التعليم ، وامتلأت المدارس شيئا فشيئا..فكان ذلك أول ترق أدبي فكري ناله المغرب، وقد كان العلامة الحجوي يرجو أن يعود ذلك بالرقي العظيم على الفقه الإسلامي بهذه الديار.(الفكر السامي 1/13).

كما أقبل الحجوي على الدرس والتأليف فألف ما يقارب خمسين مؤلفا ما بين مطول ومختصر، ومطبوع أو مخرج أو مسود ، وبعض منها عبارة عن مسامرة أو محاضرة .

وكان أهم مؤلفاته، كتابه “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” الذي يظهر فيه اهتمامه الكبير بالإصلاح التربوي في القرويين؛ حيث خصص له حيزا مهما باعتبار هذه الجامعة، المعهد الأعظم في إفريقيا الشمالية للعلوم والمعارف في وقته، لذلك سعى إلى تشكيل لجنة لتحسين حال القرويين تحت اسم مجلس العلماء التحسيني للقرويين عام 1332هـ ، لكن لم يكتب لمشروعه الذي أمل به إحياء التعليم في القرويين أن ينفذ، وقد عبر عن ذلك  متحسرا:”إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الإعمال، لكان محييا  للقرويين، مجددا لهيئتها التدريسية تجديدا صحيحا متينا”. (الفكر السامي 2/ 533 ).

وكان اهتمامه في ما يخص العلوم الشرعية منكبا على الفقه بسبب ما أصابه من الجمود والضعف، لذلك قال: ولو قدر لها (أي للقرويين) أن تسير على ذلك النظام، لارتقى الفقه عما هو عليه من الانحطاط الكلي عندنا حتى سقطت هيبته وهيبة حملته من القلوب.(الفكر السامي 2/534).

 استعرض العلامة الحجوي  في كتابه “الفكر السامي” تاريخ الفقه الإسلامي، وذيله بفكره التجديدي حين تناول موضوع  تجديد الفقه؛ فبعدما بين  ما صار إليه الفقه من القرن الرابع إلى وقتنا إجمالا، تحدث عن التقليد الذي هو السبب الأعظم في هرمه، ثم عن الاجتهاد الذي به الحياة.

وأثناء حديثه عن تجديد الفقه، أشار الحجوي إلى بعض المسائل التي رآها سببا في انحطاط الفقه عند المغاربة ، منها:

– التقليد:

انتقد الحجوي  أساليب التدريس المتبعة في تلقين العلوم الدينية من فقه وحديث ولغة، وخاصة الفقه الذي بلغ درجة من التقليد أفقد كل أمل في الاجتهاد والتجديد؛ إذ يقر أنه لا يوجد أي مجتهد مطلق من لدن القرن الرابع كما قال النووي، وإنما هم أهل الاجتهاد المقيد، وهم مجتهدو المذهب الذين تقيدوا بقواعد إمامهم، وآخر هذا النوع كان في القرن الخامس كاللخمي، والمازري، وابن العربي، وابن رشد ومعاصريهم من المذاهب الأخرى، ويظهر أن آخرهم في المغرب الإمام عياض في أواسط السادس. وينفي الحجوي أن يكون هناك كبير اجتهاد للعلماء من المائة الثامنة إلى الآن، ولا لهم أقوال معتبرة في المذهب أو المذاهب ، وإنما ينقلون الأقوال فقط ويقلدون من قبلهم.

 ظهور المختصرات.

ما إن ظهر مختصر خليل حتى أقبلوا عليه وبالغوا في العناية به، وبلغ الاختصار غايته، وكاد جل عبارته أن يكون لغزا، وانتقد الحجوي مبالغتهم في ذلك بقوله: “ولما أغرقوا في الاختصار… فات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار، وهو جمع الأسفار في سفر واحد، لتقريب المسافة وتخفيف المشاق وتقليل الزمان فانعكس الأمر؛ إذ كثرت المشاق في فتح إغلاق المتن،  وضاع الزمن من غير ثمن” (الفكر 703)؛ لأن الفقهاء التجأوا إلى شرح المختصر ثم بعد ذلك إلى الحواشي، ليحلوا ما هو مقفل، ويبينوا ما هو مجمل، “فحصل الطول وضاع الفقه الحقيقي ” (الفكر ص704).

ويرى الحجوي أن انشغال الفقهاء بكتب الاختصار وإقبالهم على كتب الأقدمين كان سببا في ضعف الفقه، فيقول  متحسرا: “إذ هؤلاء السادة(المتأخرون)  قضوا على الفقه، أو على من اشتغل بتواليفهم، وتركت كتب الأقدمين من الفقهاء بشغل أفكارهم بحل الرموز التي عقدوها… بسبب الاختصار، فترك الناس النظر في الكتاب والسنة والأصول، وأقبلوا على حل تلك الرموز..”(الفكر السامي 2/699).

لذلك دعا إلى تمرين الطلبة على الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة، والاشتغال بكتب الأقدمين التي كان يتمرن بها المجتهدون مثل”الموطأ” و”البخاري” و”الأم”  للشافعي….ويقع امتحانهم على ذلك، “فبهذا يتجدد مجد الفقه”.ص698.

ويجب التنبيه إلى أمرين اثنين حتى لا يعتقد أن الحجوي يدعو إلى التحرر من كتب المذاهب الفقهية أو إلى نبذ العلماء وعدم الأخذ عنهم :

أولا:  لقد عاب الحجوي على الفقهاء المتأخرين انشغالهم بالمختصرات وفك رموزها، عوض التحصيل والفهم ثم الارتقاء بالفقه عن طريق الاجتهاد؛ فوقت العلماء ثمين جدا لا ينبغي أن يضيع في حل العقود، وعقولهم طاقة لا يجب أن تتخدر بالانشغال بالمختصرات وترك باب الاجتهاد. وقد عبر عن ذلك، عبد العزيز اليحصبي  بقوله: “هذه الأعمار رؤوس أموال يعطيها الله للعباد يتجرون فيها، فرابح أو خاسر، فكيف ينفق الإنسان رأس ماله النفيس في حل مقفل كلام مخلوق مثله، ويعرض عن كلام الله ورسوله الذي بعث إليه”.اهـ (الفكر2/ 700).

ثانيا: عندما أراد الحجوي إصلاح التعليم، بترك الكتب المتأخرة المختصرة، فهو يقصد تدريب الطلبة على اكتساب مهارات النظر والتفكير والإبداع، ثم بذلك يستطيع أن يجتهد ويرتقي بالفقه إلى مرتبة الاجتهاد، لا البقاء في التقليد والجمود. يدل على ذلك قوله : “وليتنا نمرن طلبة الفقه على النظر في الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام وحفظها وفهمها فهما استقلاليا يوافق ما كان يفهمه منها قريش الذين نزل بلغتهم، وعلى النظر في السنة الصالحة للاستدلال وحفظها وإتقانها وفهمها كذلك، ونمرنهم على قواعد اللغة العربية، وأصول الفقه، ثم نترك لهم حرية الفكر والنظر كما كان عليه أهل الصدر الأول”(الفكر السامي 2/700).

وهو بهذا لا يقصد الاقتصار على القرآن والسنة، ونبذ ما سواهما –كما يذهب إلى ذلك بعض من يدعي العلم- بل يدعو أيضا إلى الاشتغال بكتب الأقدمين التي كان يتمرن بها المجتهدون..حيث دعا إلى جعلها كتبا دراسية للفقه ولأصوله.

السرد:

ينتقد الحجوي أولئك الذين يسردون الأقوال دون الاطلاع على  أدلتها؛ ويعتبرهم حاكين نقالين. (الفكر 2/705). فغالب الكتب التي يفتى منها عبارة عن سرد للفروع بدون دليل إلا ما كان من الموطأ وشروحه والمدونة. ويؤكد دائما على الرجوع إلى كتب الأقدمين؛ فعدم الاعتماد عليها فوت علينا خيرا كثيرا؛ إذ بكتب الأقدمين والأمهات يطلع على الأدلة والقياس، وتفهم أسرار الفقه، ويطلع على أفكار السلف، وكيفية استنباطهم ومداركهم.

وطالب الفقه لا يحتاج إلى مثل هذه الكتب، بل هو محتاج –في نظر الحجوي- إلى كتاب بين الصراحة واضح لا يحتاج إلى شرح جامع للمسائل الكثيرة الوقوع من كل باب دون النادرة أو المستحيلة، فبهذا تكون الدراسة والتعلم، وهذا الذي يفيد المبتدئين بل والمتوسطين. (الفكر2/706).

-عدم تنقيح كتب الفقه:

اعتبر الحجوي عدم وجود كتب فقه منقحة، يرجع إليها في الفتوى من موجبات هرم الفقه لاسيما في المذهبين الحنفي والمالكي، لتشتت مسائلهما في كتب الفتاوى، وهذا يؤدي بالمفتي إلى مراجعة أسفار كثيرة، ونظر عميق، “وتجديد الفقه محتاج لكتب دراسية  كما تقدم” (الفكر ص708).

فقه العمليات:

ذكر الحجوي أن العمل الفاسي وهو عمل مقيد بأهل فاس من موجبات هرم الفقه أيضا، فالعمل لا يعتمد إلا إذا جرى بقول راجح، أومن قاض مجتهد الفتوى بين وجه ترجيح ما عمل به.

ومن بين من ألف في فقه العمليات من علماء القرويين، علي بن القاسم الزقاق، وأحمد بن القاضي الفاسي، وسيدي العربي الفاسي، الذي ألف تأليفا فيما جرى به العمل من شهادة اللفيف خاصة، وهي مسألة- يقول الحجوي- لا تنطبق إلا على أصول الحنفية الذين يعتبرون المسلمين كلهم عدولا، ويقبلون شهادة مجهول الحال لا مجهول العين، فلا تقبل بإجماع، ولا تنطبق على قول في المذهب.، وجاء الشيخ ميارة، فألف في مسألة بيع الصفقة وجوزه، وبين شروطه على ما به عمل فاس وهي لا تنطبق على أصول المذهب، وسوغوها لضرورة كثرة الخصومات، ثم جاء الشيخ عبد الرحمن الفاسي، ونظم كتابا فيه نحو ثلاثمائة مسألة مما جرى به العمل بفاس، وعاب عليه الحجوي جمعه لمسائل تخالف كتاب الله، كترك اللعان، وأن عدة المطلقة ثلاثة أشهر لا قروء وغير ذلك مما انتقده عليه الهلالي في نور البصر”وغيره.

ومما زاد الفقه صعوبة في نظر الحجوي أن ما به العمل مقدم على المشهور عند المغاربة، فكم من قول مشهور في الدواوين المعتمدة، وهو مهجور لمخالفته العمل ولو أفتى به المفتي لردت فتواه (الفكر 2/711).

وإن العمل الفاسي عمل قاصر على أهل فاس لا يجوز أن يعمم في غيرها من البلدان إلا إذا كان نص على التعميم، لكن بعض المفتين والقضاة يغفلون، ويعممون الحكم، “والقاضي أو المفتي لا يجوز له الاسترسال في الإفتاء بما جرى به العمل، ويظنه حكما مؤبدا، بل هو مؤقت ما دامت المصلحة أو المفسدة التي لأجلها خولف المشهور، فإذا ذهبت رجع الحكم بالمشهور” (انظر الفكر 2/ 711).

اختتم الحجوي كتابه “الفكر السامي” بمبحث الاجتهاد الذي يمثل الأساس في تجديد الفقه، وركز على أمرين اثنين لتحقيق ذلك:

 الأول: عزيمة الطالب على إدراكه، “فإذا عزم نفسه على استقلال فكره، وشغله بتدبر كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وترك التمرن على كلام المتأخرين الجامدين، وجعل بدله التمرن على فهم الكتاب والسنة، وكلام أئمة الاجتهاد مثل مالك وأضرابه، وأحاديث مسلم و”الموطأ”…صرنا مجتهدين مثلهم.

الأمر الثاني: رياضة النفوس على الأخلاق الفاضلة، لتحصل الثقة العامة كما كانت حاصلة في المجتهدين.

وخلاصة ما دعا إليه العلامة الحجوي:

– الرجوع إلى كتب الأقدمين التي تذكر الفروع مع أدلتها، ونبذ المختصرات.

– ترك التقليد، وتدريب الطلبة على النظر والاجتهاد.

– تأليف كتب فقه منقحة يرجع إليها في الفتوى.

– اعتبار العمل الفاسي عملا قاصرا على فاس ومقيدا بظروف معينة. وكذلك الشأن في فقه العمليات.

وكما هو ظاهر، فإن العلامة الحجوي بهذه الانتقادات أرشد إلى تجديد الفقه وإحياء طرق الاجتهاد، بإصلاح مناهج الدراسة خصوصا في القرويين التي تعتبر منبع العلم والعلماء، وبتأليف كتب فقهية  تساهم في تنوير العقول، وتجديد الفقه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق