وحدة الإحياءحوارات

مقومات النهضة والاستقرار، وتخليق المجال العام.. المسألة الحقوقية وإصلاح التعليم

 حاوره: د. عبد السلام طويل

في هذا الحوار الفكر الرصين والماتع مع المفكر المغربي محمد الكتاني ارتدنا عوالم تجربته الحياتية؛ علما، وثقافة، وأدبا، ووطنية.. وقد صرح فضيلته من ضمن ما صرح به في هذا اللقاء؛ أن الثنائية التي نظرت من خلالها إلى الأدب العربي الحديث، بين قديم وجديد، ظلّت تشغلني فكرياً ومنهجياً في مقاربة كل الظواهر الفكرية، وأنها أخذت في كل عصر مصطلحات ومفاهيم خاصة، وأن شعوري بالمسؤولية تُجاه ثقافة إسلامية قطعت علاقتها مع حيوية العقل منذ قرون، فرض عليّ التماس المنهج النقدي، وأن التأويل ظلّ، في أغلب مظاهره، سعياً فكرياً واجتهادياً لإيجاد التوافق بين الوحي والعقل، وبين المطلق والنسبي، وأنّ التحدّي الحضاري الذي يواجهه المسلمون اليوم هو تحدّ فكري وثقافي، لا يمكن رفعه بغير آليات العلم ومناهجه، وبغير استرجاع قيم الكرامة الإنسانية، وأنّ بقاء المغرب بمنأى عن الاحتراب الطائفي يجد تفسيره في أن قيادته العليا ظلّت تمثل مؤسسة إمارة المؤمنين الحافظة للدّين من كل استغلال أو توظيف، وفي أن الشعب المغربي بحكم طبيعته النفسية، ونهجه الحضاري عزوف عن كلّ تطرف أو تشدّد في فهم الدّين..

وفي تصوره لفلسفة التغيير الاجتماعي يعتبر فضيلته أن كلّ واقع اجتماعي لابد من الرجوع في تحليله إلى أسبابه التاريخية التي نتجت عنها تراكمات يصعب القضاء عليها في زمن محدود، وأن القيم عندما تتعارض فيتعين أن يقدم منها العام على الخاص، والكلي على الجزئي، وأن الإسلام قد أسّس نظام الحقوق قبل ثلاثة عشر قرنا، لتغيير أوضاع المجتمع الإنساني وانتشال هذا المجتمع من العبودية لغير الله..

1. تمهيدا لهذا الحوار الذي أسعد بإجرائه مع فضيلتكم، هل لكم أن تبرزوا لقراء مجلة “الإحياء” أهم المحطات المفصلية التي أسهمت في بلورة شخصيتكم العَالِمَة، في تفاعلها مع التحولات المعرفية والأيديولوجية الكبرى التي شهدها فكرنا العربي الإسلامي المعاصر، باعتباركم علما من أعلامه؟ 

يرتكز سؤالكم على محورين اثنين: أوّلهما؛ العوامل التي أسهمت في بلورة شخصيّتي الثقافية، والثاني؛ تفاعل هذه العوامل مع التحوّلات الفكرية والإيديولوجية التي عرفها الفكر الإسلامي والعربي الحديث باعتباري أحد أبنائه، والمنتمين إليه.

أمّا عن المحور الأول فهو الذي تمثله العوامل الأساسية المؤثرة في تربيتي، وهي المدرسة والجامعة، والوسط الاجتماعي التي تقلّبت بين أحضانها، على مدى ثلاثة عقود من السنين. فقد ولدت بمدينة فاس سنة 1934، من أسرة معروفة بثقافتها الأصيلة وتقاليدها المحافظة. وبرغم الموارد الشحيحة التي كان يعيشها والدي رحمه الله. فقد حرص على أن يلتحق كلّ واحد من أبنائه بالمدرسة، وأن يتلقوا التعليم الذي يؤهّلهم للانخراط في الحياة التي تنتظرهم. فالتحقت بالمدرسة الابتدائية (مدرسة النجاح بالدار البيضاء التي كانت بحي الأحباس، ويديرها المرحوم الفقيه محمد الحمداوي). وبعد حصولي على الشهادة الابتدائية سنة 1946، قرّر والدي أن أتابع الدراسة بمدينة فاس، في إحدى المدارس الثانوية الحرّة. وكان من المصادفة أنّ مدرسة فاس كانت تسمّى أيضاً (مدرسة النجاح). وهي بزنقة حَجَّامة، ويديرها المرحوم الأستاذ عبد العزيز بن إدريس. وكان تعليمها تعليماً عربياً صرفاً، وموجّهاً لإلحاق خريجيه يومئذ بالمشرق العربي لاستكمال الدارسة. بيد أنّ السلطة الاستعمارية الفرنسية أغلقت هذه المدرسة، وأنا حينئذ في السنة الثانية من التعليم الثانوي، فما كان أمام تلاميذها إلا الالتحاق بجامعة القرويين، التي كانت تجمع في تعليمها العتيق بين التعليم الابتدائي في ثلاث سنوات، وبين التعليم الثانوي في ست سنوات، والتعليم العالي في ثلاث سنوات.

لقد عرفت السنوات الأخيرة من الأربعينيات وأوائل الخمسينيات تصعيد النضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي إلى الحدّ الأقصى، باعتقال رجال الحركة الوطنية، ونفيهم ومحاكمتهم، وإبعاد الملك الشرعي محمد الخامس عن العرش سنة 1953، فدخلت المقاومة الوطنية مرحلة المقاومة المسلّحة. في هذه الآونة اضطررت إلى التوقف عن متابعة الدراسة بجامعة القرويين في نهاية التعليم الثانوي بها، والتحقت معلّما بإحدى المدارس العمومية بالدار البيضاء. وبذلك طوَيْت المرحلة الأولى من تكويني بالتعليم الثانوي، وشرعت في مرحلة ثانية. وهي الانخراط في سلك الوظيفة العمومية، معلّماً بالمدارس الابتدائية، فمدرّساً بالمعاهد الثانوية. لكنّني انتقلت إلى هذه المرحلة بطموح وَثّاب لاستكمال تكويني الثقافي. فانكببت على القراءة، والتحصيل. وفي هذه المرحلة التي دامت أكثر من عشر سنوات، تبلورت شخصيتي المهنية والثقافية، فتعاطيت الكتابة الأدبية في بعض المجلاّت بالمشرق والمغرب، بحيث أكّدت لي أصداء ما كنت أنشره الثقة في نفسي، والطموح إلى غد أفضل، في سياق تاريخي أتّسم فيه الشعب المغربي بالانخراط في أوراش بناء الدولة المغربية على إثر الاستقلال سنة 1956، وما كان يعنيه ذلك من انفتاح سياسي وتجاذبات إيديولوجية، لم تخل من عنف وصراع.

لقد التحقت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس سنة 1959، وقرّرت التخصّص في الأدب العربي، لما كان يتوافر في تخصّصه يومئذ من أساتذة وفدوا من مصر وسورية، أمثال أمجد الطرابلسي وشكري فيصل ومحمد نجيب البهبيتي، ونجيب بلدي. وحسن إبراهيم حسن، وحسن ظاظا، وحكمت هاشم، وغيرهم من أساتذة الجامعات المصرية والسورية والعراقية. وهكذا بدأت مرحلة ثالثة في حياتي الثقافية هي المرحلة الجامعية، (1960-1980) التي انتهت بحصولي على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 1980. ولابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أنّ المرحلة الجامعية في تكويني العلمي مكّنتني من تحقيق طموحي الثقافي، بالانفتاح على ما كانت تعرفه الحياة الثقافية والسياسية في المغرب وخارج المغرب، من حركات في التجديد والنضال السياسي، ولاسيّما من خلال الأحداث الكبرى التي وضعت على محكّها كلّ انتظارات شعوبنا العربية والإسلامية وتطلعها إلى التقدّم الاجتماعي في ظلّ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولذلك عرفت هذه المرحلة الكثير من الصراع السياسي والإيديولوجي. وفي خضمّ هذا المناخ تفاعلت مع محيطي الوطني، سياسياً وثقافياً.

2. في صلة بالتساؤل الأول: كيف تفاعلت عناصر ومقومات الأصالة والتراث في شخصيتكم العالمة مع عناصر الحداثة والتحديث؟ ما مدى ائتلافها وصراعها؟ وكيف تطور وعيكم بها وبمآلاتها الخاصة والعامة؟

في هذا الصدد أقول لا يمكن لأحد أن يدّعي أنّه قد اختار الظروف التي تحيط بشخصه في كلّ مراحل تكوينه، وفق رؤية استشرافية للمستقبل. وإذا لم يكن ممكناً ذلك فإنّ التحكّم في التفاعل وفي شروطه يظلّ خارجا عن إرادتنا إلى حدّ بعيد. ومن ثمَّ لم يكن لي خيار في التوجّه الذي سرت فيه. فقد تهيّأت لي منذ طفولتي عوامل، صرفتني يومئذ عن نمط من التعليم، هو التعليم العصري، ووجّهتني إلى نمط آخر هو التعليم الأصيل. وبذلك تحدّدت وجهتي في التعليم الثانوي، والتعليم العالي. فكانت صلتي بالتراث العربي لغة وعلوماً ومناهج أقوى من صلتي بالعلوم العصرية ولغاتها. لكنّني كنت أشعر بأنّ قدري حين رسم لي هذا المسار، تحت تأثير تقاليد الأسرة، والنزعة الوطنية السلفية السائدة في الأربعينيات فقد حفزني في نفس الوقت على تجاوز هذا التحدّي. فاعتمدت على نفسي في تحصيل ثقافة عصرية. وهذا ما تعزّز بالتحاقي بالجامعة كما سلف القول، حيث وجدت في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس مناخاً علمياً يتجاوب مع طموحي، فدرست التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، وتعمّقت الأدب العربي والأدب المقارن. وفي الدراسات العليا التي قوامها البحث العلميّ جمعت بين البحث في أحد فنون التراث الإسلامي وهو التصوّف بدراستي وتحقيقي لكتاب (روضة التعريف في الحب الشريف لابن الخطيب). وبين البحث في أحد عصور الأدب العربي الأكثر حيوية وتفاعلاً مع الحداثة والمعاصرة. وذلك ما يمثله بحثي في (الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث). فهذا الموضوع مكّنني من الاطلاع المعمّق على عصر يمتدّ من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، في شتّى مظاهر حياته السياسية والاجتماعية والأدبية. وكان هدفي أن أقدّم تفسيراً تاريخياً أو علمياً لهذا الصراع، بفعل الإيديولوجيات التي سادته، ولاسيّما في بلاد مصر والشام. وهو ما فرض عليّ دراسة تاريخ العالم العربي الحديث، لأقف على العوامل التي كانت تحرّك ذلك الصراع على المستويين الإيديولوجي والأدبي. وفي هذا السياق تبيّن لي مدى تصادم الفكر الديني والفكر القومي والفكر الاشتراكي، ممّا أثر بقوّة على الحياة الأدبية، وفي مقدّمتها حركة الصحافة وحركة النقد والإبداع. وباعتباري قد تعمّقت ثقافة الأصالة والتراث فقد لاحظت مدى الشطط والاندفاع في نقدهما عند دعاة التجديد والحداثة، ولاسيّما أولئك الذين لم يكن لهم بهما صلة على الإطلاق. فالإنسان بطبعه عدوّ لما يجهله. ونفس المقولة تنطبق على خصوم الحداثة والتجديد. وقد تعلّمت من خلال معايشة هذه الحركة أنّ العلم بالأشياء هو المدخل الصحيح للحكم عليها.

3. اختلفت استراتيجيات التعامل مع التراث الحضاري للأمة باختلاف المنطلقات الأيديولوجية والمذهبية، وباختلاف الاختيارات المنهاجية والمعرفية، ما بين دعاة للقطيعة والفصل، ودعاة للتفاعل والوصل، ودعاة للإهمال والنبذ.. كيف تعقلون وتقيمون حصيلة هذا التدافع القديم/الجديد؟

أجل، في الوقت الذي كنت أقوم بإعداد أطروحتي للدكتوراه حول (الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث)، كنت مكلّفاً بتدريس مادّة (حركات الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر). فكانت دروسي تشكّل مواجهة بين تيارين متقابلين؛ تيار فكريّ إصلاحيّ وتجديديّ يدعو إلى التفاعل بين الإسلام والحضارة المعاصرة، وتيار فكريّ سلفيّ يدعو إلى القطيعة والانفصال عنها، وكان هناك تيار وسطيّ يدعو إلى التوفيق. وقد كنت حريصاً على إبراز نقاط التقاطع بين هذه التيارات بالرجوع إلى المنطلقات التأسيسية لها. والتي كان يمثلها العقل حيناً، والنصّ الديني حيناً آخر. والصراع بين هذه التيارات لم يكن جديداً؛ لأنّه ممّا عاشته الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، عند التقاء المسلمين بالحضارة الفارسية والثقافة اليونانية. ومن التوفيق بين هذين الفكرين نشأت حركة علمية معروفة.

لقد استغرقت مرحلة اطلاعي على التاريخ الحديث للصراع الفكري والأدبي، واعتماد النصوص المرجعية، ومتابعة الآراء والردود عليها عدّة سنوات. ووضعت نفسي موضع القاضي الذي يطّلع على مختلف الشهادات والتقارير المرفوعة إليه، ليحاكمها في ضوء توخّي الحقيقة. وإن كنت أعلم أنّ الصراع الإيديولوجي يحجب عنّا هذه الحقيقة في كثير من الأحيان. وأعترف بأنّني ظلِلت منبهراً بما عرفه عصر النهضة من ألوان الإبداع التي تجاوزت كلّ تقليد، ومن مناهج النقد الأدبي التي انفتحت على مناهج الغرب، ومن شجاعة الرأي لدى كبار المفكّرين. بل ومن النزعة الثورية، التي غيّرت وجه الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين. وقد كان كتابي (الصراع بين القديم والجديد) بمثابة بحث شامل، تعمّق هذا الصراع بكلّ دوافعه وتجلّياته. وانتهيت إلى أنّ أطرافه قد أفادت من بعضها البعض، في رؤية الحقيقة في إطارها النسبي. وأنّ مقوّمات التراث والأصالة لا يفيدها في شيء أن تنغلق على نفسها، كما أنّ مقوّمات الحداثة والمعاصرة لم يكن لها بدّ من تحقيق التوازن بين مطالب الهوية ومطالب التطوّر والتجديد.

إنّ الثنائية التي نظرت من خلالها إلى الأدب العربي الحديث، بين قديم وجديد ظلّت تشغلني فكرياً ومنهجياً في مقاربة كلّ الظواهر الفكرية. وهكذا وجدت نفسي بعد الفراغ من أطروحة الدكتورة أشتغل بثنائية (جدل العقل والنقل في الفكر الإسلامي). وهو الذي يشكّل كتاباً لي بهذا العنوان في مجلّدين. فقد تناولت فيه الصراع الذي كان دائراً بين النقل والعقل في الثقافة الإسلامية منذ العصور الأولى. وقد استمرّ هذا الصراع بين الدين والفلسفة، وبين مذاهب علم الكلام، وبين مذاهب الفقه الإسلامي. وخلال هذا التاريخ المديد أصبح منطق التأويل يخدم جانب العقل أو جانب النقل دون أن يتحقق التوازن بينهما، إلا لدى أفذاذ من العلماء والفلاسفة المسلمين.

هكذا تجلّى لي أنّ الثنائية الجدلية ظلّت تحرّك فكرنا الإسلامي على مرّ العصور، وأنّها أخذت في كلّ عصر أو في كلّ طور مصطلحات خاصّة ومفاهيم جديدة. وشعرت حينئذ بأنّني مسؤول فكرياً عن تحديد انتمائي لإحدى المرجعيتين. لا على أساس التوفيق أو التلفيق، وإنّما على أساس النقد الموضوعي، بدون تحيّز. وفي هذا الصدد كان عليّ أن أبرز دور العقل في صياغة الثقافة الإسلامية، التي طمست روحها تراكمات عصور التقليد والانغلاق، وتعاطي التصوّف البدعيّ، الذي لم يكن يمثل سوى هروب من الواقع الملبّد بالاستبداد السياسي والإحباط النفسي، بفعل الهزائم المتوالية على العالم الإسلامي منذ القرن الثامن الهجري. فشعوري بالمسؤولية تُجاه ثقافة إسلامية قطعت علاقتها مع حيوية العقل منذ قرون فرض عليّ التماس المنهج النقدي القائم على الرجوع إلى الأصول، ونقد الفروع في ضوئها. وهو منهج قام به الفكر الأوروبي الحديث، الذي عرف كيف يستعيد صلته بالواقع، وكيف ينفذ إلى عوامل التطوّر والتجديد. وقد تجلّى هذا النزوع في كلّ دروسي وأبحاثي، وأنا أزاول عملي كأستاذ جامعي، ولاسيّما في مادة الفكر الإسلامي. وازداد ذلك وضوحاً في كلّ المحاضرات والمشاركات التي دعيت إليها في مختلف الندوات الوطنية.

والخلاصة أنّ هذه التجربة الشخصية جعلتني أضع مسألة التدافع بين الأصالة والمعاصرة، أو بين السلفية والحداثة، في سياقهما التاريخي، وفي ضوء دوافعهما الذاتية والموضوعية، وأدركت أنّ التحدّي الحضاري الذي يواجهه المسلمون اليوم هو تحدّ فكري وثقافيّ، لا يمكن رفعه بغير آليات العلم ومناهجه من ناحية، وبغير استرجاع مجتمعاتهم لقيم الكرامة الإنسانية، وإعطاء الصورة المثلى للإسلام في حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. وبالتالي فإنّها رهانات علمية وسياسية يجب كسبها في نفس الوقت.

4. ينعم بلدنا، بفضل المنحى الإصلاحي الرشيد الذي اعتمده جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، باستقرار سياسي واجتماعي نحمد الله تعالى عليه. غير أنه استقرار محفوف بالكثير من التحديات بفعل ما بات يخترق أمتنا من مظاهر الإرهاب والعنف الذي يتغذى من الاحتراب المذهبي والطائفي المقيت. كيف تشخصون هذا الواقع؟ وهل لكم أن تسهموا في بلورة منظور تفسيري له؟ وما السبيل إلى تعزيز مكتسبات الاستقرار الاجتماعي العام الذي ينعم به بلدنا، بشكل يسهم في تخفيف حدة التوتر والاستقطاب الطائفي والمذهبي الذي يخترق أمتنا؟

أقول: في كلّ واقع اجتماعي لابدّ من الرجوع في تحليله إلى أسبابه التاريخية التي نتجت عنها تراكمات يصعب القضاء عليها في زمن محدود. وتعدّ الأمّية والجهل والتقليد الأعمى من هذه التراكمات، التي لا يمكن استئصالها من مجتمعنا، بين عشية وضحاها. ولمّا كان التطرّف في الدين يتغذى عادة من الجهل بمقاصده وجوهره، ومن عدم التمييز بين أصوله وفروعه، ولاسيّما من الأفهام الزائفة والمدسوسة فيه فإنّ الإسلام أصبح اليوم يأخذ صوراً شتّى، في مقدّمتها النمط الشائع عن الإسلام في وسائل الإعلام المغرضة عند الغربيين، والنمط الخرافي السائد عند الأميين. لذلك بات من الضروري أن تكون بداية التصحيح من تنقية أجواء الفضاء الديني من الجهالات، والتحريفات والأفهام المدسوسة. في كلّ وسائلها المشتغلة اليوم في الإعلام المرئي والمكتوب. وردّ الخطاب الإسلامي إلى مرجعياته العلمية الحقيقة، وإلى من يمثلونها. وربّما كان من الضروري التمهيد لذلك باسترجاع الثقة العلمية في المصادر المرجعية للإسلام، على يد علماء مؤهَّلين، يجمعون بين فقه الإسلام من ناحية وبين منهجية الخطاب الديني القائم على المهنية والكفاءة العالية من ناحية أخرى، لإبطال الضلالات وتقويم الانحرافات.

إنّ ما عبّرتم عنه بالاحتراب المذهبي والطائفي الذي يتجاذب المسلمين في مجتمعاتهم اليوم هو مظهر طبيعيّ للصراع الدائر بين الدوافع والنزوعات المختلفة، التي تستغلّ الإعلام والتواصل الرقميّ بكلّ مهارة. فمنها من يستغلّ الدين، لتأجيج العواطف، أو يستغلّ الجهل به لتحقيق مكتسبات شخصية، ومآرب ظرفية. وإذا كان المغرب ظلّ بعيداً عن هذه التجاذبات إلى حدّ بعيد فلكون قيادته العليا ظلّت تمثل مؤسسة إمارة المؤمنين. التي ليس معها مجال للمزايدة على الدين واستغلاله. وهي مؤسّسة دستورية مدعومة بآلياتها، وقائمة على مؤسّسة الوحدة المذهبية شريعة وعقيدة. فالمغرب لم يعرف خلال تاريخه العريق أيّ تجاوب، لا مع الجماهير الشعبية، ولا مع النخب العالمة، مع المذهب الخارجيّ، ولا المذهب الشيعي، ولا مع غيرهما. فظلّ المجتمع المغربي، متمسّكاً بالقرآن والسنة، مؤمناً بوحدة الجماعة، في ظلّ الوسطية والاعتدال، وفي ظلّ قيادته الملكية خلال القرون الستة الأخيرة. وقد حافظ على تقاليده الدينية بعد الاستقلال، وجعل الفضاء الديني مهيكلاً، مدعوماً بمؤسّساته بقيادة أمير المؤمنين الملك محمد السادس الذي جعل من الحرية الدينية في حدودها المعقولة ممارسة دستورية.

5. لا شك أن إشاعة وترسيخ قيم الوسطية والاعتدال في منظومة خطابنا الديني والدعوي من خلال مختلف وسائط التنشئة الاجتماعية، وكذا من خلال مختلف قنوات التواصل والإعلام، تمثل أحد أهم المداخل للحد من مظاهر التشدد والعنف والتطرف في مجتمعاتنا. ما تصوركم لهذا الأمر؟

الشعب المغربي بحكم طبيعته النفسية، ونهجه الحضاري عزوف عن كلّ تطرّف أو تشدّد في فهم الدين. ويمكن القول بناء على ذلك: إنّه لم يعرف المذهبية المنغلقة، فضلاً عن الطائفية. والمذهب المالكي نفسه كما يأخذ به المغرب قائم على منهجية في التشريع تجمع بين مراعاة النصّ وبين المصالح المرسلة وفقه الواقع. ومن ثَمَّ تميّز هذا المذهب في المغرب بمرونة تلائم التطوّر الاجتماعي، كما يدلّ على ذلك فقه النوازل، الذي كان يراعي البيئات المحلية، والعرف السائد فيها. ويؤكّد أنّ العديد من فقهاء المغرب كانوا روّاداً في الدعوة إلى الاجتهاد في عصرنا. نذكر على سبيل المثال الفقيه محمد بن الحسن الحجوي (توفي 1956م) الذي طالب بالإصلاح والاجتهاد في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولاسيّما في المعاملات، ليتلاءم الفقه مع مستجدّات العصر، وحتى لا يكون حجر عثرة في النهوض بالاقتصاد واكتساب القوّة والمنعة، على حدّ قوله. ومن أدلّة هذا التوجّه الاجتهادي القائم على مستجدّات العصر، ولاسيّما ترسيخ حقوق الإنسان مدوّنة الأسرة في المغرب، التي أمر صاحب الجلالة الملك محمد السادس بوضعها تجاوباً مع تطلّعات المغرب إلى إنصاف المرأة وتخويلها حقوقها المشروعة في ممارسة المسؤولية على قدم المساواة مع الرجل.

6. فيما وراء الاحتراب المذهبي والطائفي هناك احتراب وصراع أشد وأعمق وأسبق على مستوى تأويل النص الديني كتابا وسنة بغرض تملكه وتوظيفه، لدرجة الحديث عن صراع لاستراتيجيات التأويل. كيف تنظرون لهذا الأمر؛ من حيث مقتضياته وما يستدعيه؟

إنّ التأويل كما لا يخفى على أحد ظهر كمصطلح في العصر الأول. بدافع توخّي معرفة معاني القرآن، التي يحتمل أسلوبها أكثر من معنى. فالقرآن ينصّ على أنّ هناك آيات محكمات، وآيات متشابهات. يقول تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه، ءايات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله، وما يعلم تاويله إلا الله﴾ (ءال عمران: 7) وقد وقع الاختلاف في مناهج هذا التأويل، إمّا في دائرة النقل وإمّا في دائرة العقل. وبمرور الزمن ونشوء المذاهب أصبح التأويل متشعّباً بين عدّة فئات من العلماء والمفكّرين. فهناك فئة الفقهاء والأصوليين، الذين يرادف التأويل عندهم مفهوم التفسير. وهناك المتكلّمون الذين وظّفوا التأويل لحمل كلّ المعاني القرآنية العقدية على مقتضى منطق العقل كالمعتزلة، وهناك فئة الصوفية الذين نظروا إلى بعض الآيات، باعتبارها تتضمّن إشارات إلهية لا يدركها إلا الصوفية، وهناك فئة الشيعة، وفئة المتفلسفة الذين وظّفوا التأويل لدعم نزعاتهم. وهكذا نشأ احتراب وجدال اعتمد مناهج متباينة في تأويل القرآن. فالمسألة قديمة. وألّف فيها العلماء، ووضعوا لها ما يشبه (القانون). وتحدّث عنها الإمام الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة)، كما ألّف فيها الفقيه الأندلسي أبو بكر ابن العربي في كتابه (قانون التأويل)، وألّف فيها الفيلسوف ابن رشد في كتابه (مناهج الأدلّة). وألّف فيها غير هؤلاء من العلماء والفلاسفة، كالقاضي عبد الجبّار وابن تيمية.

لقد ظلّ التأويل في أغلب مظاهره سعياً فكرياً واجتهادياً لإيجاد التوافق بين الوحي والعقل، وبين المطلق والنسبي. ولذلك أخذ هذا التأويل مظهراً كلامياً وفلسفياً حيناً، كما أخذ مظهراً صوفياً وعرفانياً حيناً آخر. لكنّه لم يستعمل في فقه الشريعة الإسلامية؛ لأنّ أحكامها قطعية الثبوت، قطعية الدلالة في معظمها.

ونحن نتساءل: أيّ مجال للتأويل في النصوص القطعية الثبوت والدلالة فيما يتعلّق بالعقيدة أو الشريعة، إنّه لا يبقى من هذه النصوص الخاضعة للتأويل إلا ما يتعلّق بالمعتقدات، التي ينصّ عليها القرآن بأسلوب يندرج في الآيات المتشابهة. وفي العصر الحاضر انتقل مفهوم التأويل عند البعض إلى معنى آخر انبثق من الفكر الفلسفي الأوروبي، الذي يعتبر أنّ النصّ لا يمكن تحديد مضمونه إلا في سياق تاريخي، ومنظومة دلالية محدّدة بواقعها. فإذا استحضرنا هذه النزعات والمذاهب الفكرية في مجال التأويل أدركنا ما تحمله من معان أو مخاطر، عندما تتحوّل إلى دعم للطائفية والصراعات الإيديولوجية، وتظلّ هذه المسالة موضوعاً من اختصاص المفكّرين الأكاديميين.

7. تعلمون أستاذي الجليل أن مخرجات النظام الاجتماعي برمتها ترتبط ارتباطا عضويا بطبيعة ونوعية النظام التعليمي والبحث العلمي؛ فالطبيب، والمهندس، والقاضي، والمحامي، والأستاذ، والجندي، ورجل الأمن، ورجل الأعمال، والفاعل السياسي….كلهم ثمرة مباشرة لهذا النظام. ومن هنا فإذا كان هناك من قطاع سيادي في المجتمعات المعاصرة فهو قطاع التربية والتكوين والبحث العلمي. كيف يتحقق الوعي التاريخي بهذا الأمر على مستوى النخبة كما على مستوى مختلف الشرائح الاجتماعية؟ وكيف تشخصون واقع النظام التعليمي في بلدنا؟ وما تصوركم لإصلاحه والنهوض به؟

بالنسبة لهذا السؤال المتعلّق بواقع النظام التعليمي بالمغرب، وكيف أتصوّر النهوض به؛ فإنّ الجواب ينبغي أن يكون أكثر من انطباعات شخصية، إنّه يتطلّب جواباً مفصّلاً، موثقاً بالإحصائيات والمرجعيات المتعدّدة. وهذا ما لا يتّسع له المجال في هذا الحديث. لذلك أكتفي بالإشارة إلى البنية العامّة للنظام التعليمي ببلادنا وما يعرفه من اختلالات. فالملاحظ أولاً أنّ هذا النظام لم ينطلق منذ بداية الاستقلال من رؤية شاملة له، وأهدافه الوطنية العليا. وإنّما انطلق من ظرفية محدّدة، ومن إكراهات لم يكن سبيل لتجاوزها يومئذ. فوقع الاهتمام أولاً بتعميم التمدرس، وبمغربة الأطر، وبتعريب اللغة في ظروف معاكسة، وفَقْر في الوسائل، لذلك واجه تنزيل هذه الأهداف على أرض الواقع تحدّيات لم نستطع رفعها. وكما يلاحظ المتأمّل لهذا الواقع أنّ التعليم بالمغرب يتكوّن من قطاعات متعدّدة ومسارات متوازية، بحيث يتحرّك كلّ قطاع في انغلاق عن غيره تقريباً. فهناك التعليم الابتدائي، والتعليم الثانوي، والتعليم العالي. وهناك التعليم المهني، والتقني. وهناك التعليم الأصيل والعتيق، وهناك التعليم العصري. وهناك الكليات التابعة للجامعات، وهناك المدارس العليا المتخصّصة في العلوم الهندسية وفي التجارة وفي الإعلام. بل إنّ الباكالوريا المغربية نفسها متعدّدة. وهذه التعدّدية إن كانت تتلاءم مع تعدّدية التخصّصات فإنّها تعني انعدام الوحدة والتكامل والانتظام داخل نظام عامّ، يحقق أهدافاً وطنية عليا. وبالتالي ليست هناك مدرسة وطنية مغربية تهيّئ مواطناً مؤهّلاً، وبهوية موحّدة. وإنّما توجد مدارس تختلف انتماءاتها وتوجّهاتها.

وإذا استحضرنا أهداف نظام التربية والتكوين بصفة عامّة، وفي بلد كبلدنا فإنّنا نجد في طليعتها: أولاً؛ تأهيل الموارد البشرية وإعداد الأجيال الصاعدة للاندماج في ميادين التنمية والشغل، بكفاءات عالية. وثانياً؛ تعميم التربية والتكوين بصورة شاملة، وإن في طورين من أطوار التكوين على الأقلّ. وثالثاً؛ تكوين المواطن المغربي، القادر على الاندماج في دينامية التطوّر الحضاري والعلمي، مع الحفاظ على هويته من جهة، وعلى الانفتاح الإيجابي على عالمه من جهة ثانية. هذه هي الأهداف الأساسية لكلّ نظام تعليمي. لكنّ تحديد الوسائل والمنهجيات لبلوغ هذه الأهداف هو مجال التطوّر المطلوب لمواكبة الواقع والتفاعل معه. فهناك التأطير التربوي، وهناك التمويل. وهناك البنيات التحتية. وهناك الوسائل الديداكتيكية. وهناك التسيير الإداري، والتسيير المالي، والحكامة الجيّدة، وهناك المراقبة والتقويم. وهذه المقوّمات هي العمود الفقري لكلّ نظام تعليمي فعّال.

إنّ عموم الاختلالات التي يعرفها التعليم في المغرب حالياً تتجلّى في ضعف مردوديته، كما تؤكّد ذلك بطالة الخرّيجين من التعليم العالي، والعزوف عن المدرسة العمومية، والهدر المدرسي، والارتباك المزمن في توحيد لغة التعليم، هذا الارتباك الذي طال أمده. فلغة التعليم في المدرسة العمومية يحتاج إلى موقف حاسم، لا يدع أجيالنا الصاعدة عرضة للتجارب. فالتعدّدية اللغوية إن كانت في عصرنا مطلباً من مطالب الانفتاح على العالم، وعلى العلوم، وعلى الأسواق الخارجية فإنّها يجب أن تشكّل منظومة متكاملة لاكتساب المعرفة والتواصل والتأهيل للمستقبل. وذلك في ضوء تخطيط محكم ومتكامل. لكن هذه التعدّدية أصبحت في مدرستنا مصدر صراع ثقافي وتمزيق للهوية الوطنية. وفي هذا السياق أودّ التأكيد أنّ اللغة العربية تواجه اليوم تحدّياً حضارياً غير مسبوق. وهو عجزها أن تكون لغة علوم وبحث علمي وتكنولوجيّ وتنمية للمعارف الإنسانية، ما دامت مفتقرة إلى المصطلح العلمي والتقنيّ، وتعريب العلوم، عن طريق الترجمة لكلّ ما يجدّ في الساحة العلمية. وهذا ما يجعلها عاجزة عن مواكبة التطوّر في البحث العلمي والمختبرات العلمية. ومن المعلوم أنّ اللغة العربية، والعمل على تطويرها، والنهوض بها شأن عربي، لا يمكن تحقيقه إلا بتوافق بين البلدان العربية كلّها. بينما هذه البلدان غارقة في مشكلات واختلافات تجعل من اللغة آخر ما يمكن التفكير فيه. وقد كانت وثيقة بيروت 2012 بعنوان (اللغة العربية في خطر)، التي شارك فيها نحو 280 باحثاً، ممثلين لـ47 دولة، وللعديد من المنظّمات والهيئات مجرّد تأكيد للتحدّيات التي تواجهها هذه اللغة. فالإصلاح الشامل للتعليم ينبغي أن يتناول هذه الجوانب كلّها. وأظنّ أنّ المجلس الوطني الأعلى للتعليم والبحث العلمي جادّ في إعداد تصوّر شامل لهذا الإصلاح.

8. لقد كان لكم اهتمام ووعي علمي مبكر بأهمية وخطورة المسألة القيمية/الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة؛ حيث باتت الحاجة ماسة لتخليق السياسة والاقتصاد والطب، والقضاء وغيرها من الفعاليات الاجتماعية. كيف تنظرون للمسألة الأخلاقية في ظل صراع المرجعيات؟ وما هي أهم المداخل الإجرائية والنظرية لإصلاح هذا المجال؟

هذا السؤال يعود بنا إلى عوامل هذه الأزمة، باعتبارها نتيجة لمرحلة تاريخية سابقة، أدّت إلى اهتزاز القيم المرجعية، التي عاشت عليها الإنسانية ردحاً من الزمان. وفي مقدّمة تلك العوامل العامل الثقافي، أو قل إنّه الثقافة الغربية بمذاهبها الفلسفية ونزوعاتها الليبرالية والرأسمالية، التي برّرت لنفسها فلسفياً وأخلاقياً ممارسة تسخير الإنسان للإنسان وانتهاج الميكيافيلية السياسية. فالمذاهب الفلسفية منذ القرن التاسع عشر أفضت بمختلف نزوعاتها إلى القول بنسبية القيم الأخلاقية. ومنها ما انتهى إلى القول بالعدمية أو بالعبثية. وقد شهد العديد من المفكّرين الأوروبيين بانهيار الغرب أخلاقياً، وبالتشاؤم من مصير الإنسانية، وقد أكّدت الحربان العالميتان في القرن الماضي هذا الانحراف عن القيم التي ظلّ الإنسان يدافع عنها على مرّ العصور. وأذكّر في هذا السياق بما قامت عليه هذه الفلسفات المادية المعاصرة، وما كان يوازيها من نزعة (علموية)، من إنكار لوجود الله، وسخرية من القيم الدينية. وهنا أؤكّد ما قلته في كتابي (منظومة القيم المرجعية) من أنّه برغم ما قيل في مجال التشكيك في القيم الدينية، وفي غائية الحياة الإنسانية، فإنّ السلوك الإنساني لابدّ أن تكون له مرجعية تفرّق بين الحق والباطل، وتميّز بين الخير والشرّ. وبالتالي فإنّه لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الإيمان بالحق المطلق الذي يوجّهه في ظلام الحياة نحو المرفأ الأمين. أو بعبارة فلسفية لا يمكن للإنسان المحدود أن يستغني عن الوجود اللانهائي أو المطلق، الذي يشعره بأنّه لم يخلق عبثاً، ولا وجد مصادفة، وإنّما هو مسؤول عن كلّ أفعاله، وأمام ضميره الفطري، الذي هو شعاع من روح الله. ومن هذا الشعور المطلق ينبثق الوعي بالقيم المرجعية. التي توجد في طليعتها قيم الحق والخير والعدل والمسؤولية الإنسانية. وقد أكّدت على دور أو أثر الثقافة الغربية في إشاعة الشك والإلحاد والعبثية، من غير أن أنكر أثر العوامل السياسية والاقتصادية، وأثر الصراعات المدمّرة، والنزعات المادية في اهتزاز القيم، والتعتيم على المرجعيات.

أمّا على المستوى الوطني، فإنّ المجتمع المغربي برغم كونه يؤمن بمرجعيته الإسلامية، وبحكم ميراثه الحضاري، فإنّه تأثر بعد انفتاحه على الحضارة الغربية بكلّ حركاتها السياسية والثقافية، فاختلطت أمامه القيم، وتجاذبته ثقافته الأصيلة، وثقافته الحديثة، فأصبح مثل سفينة تحرّكها أمواج عاتية من كلّ جانب. ولا يبدو أنّ هناك تفكيراً جادّاً في مواجهة هذا التجاذب. وعندما انعكس اهتزاز القيم على حياتنا أصبحنا نطالب بتخليق الحياة العامّة، على مستوى المرافق العمومية في كلّ المؤسّسات الوطنية. وأصبحتا نعالج مظاهر الاختلال والفساد في جزئياتها. بينما الأزمة شاملة، وتتمثل في انعدام الإيمان بالقيم، أو في انعدام الإيمان بجدواها في الحياة المعاصرة. فالأزمة عميقة، ولابدّ من النظر إليها وتحليلها في ضوء منهج شامل. وهذا هو المدخل الأساسي لمواجهتها. بل هو المدخل لكلّ إصلاح. وهذا الذي أدعو إليه ليس جديداً، وإنّما هو تأكيد للعديد من الدعوات الإصلاحية التي عرفها الفكر الإسلامي الحديث.

9. مثلما كان لكم اهتمام مبكر وأصيل بالمسألة القيمية، كان لكم اهتمام مماثل وربما مساوق بالمسألة الحقوقية من منظور مقارن بين المرجعيتين الوضعية والإسلامية. في ظل دفاعكم عن المسألة الحقوقية باعتبارها كسبا إنسانيا، كيف عالجتم إشكالية العلاقة بين الكونية والخصوصية في هذا الإطار؟

لا شك أن موضوع حقوق الإنسان لا يكاد ينفك عن مسألة (القيم)؛ فهذه الحقوق ليست سوى تفعيل للقيم الإنسانية، على مستوى الممارسة وقد اعتقد الكثيرون في عصرنا أنّ حقوق الإنسان هي من ثمرات التقدّم الذي حققته البشرية في العصور الأخيرة، والذي تجلّى من خلال ثورات سياسية وتحريرية معروفة، مثل الثورة الفرنسية سنة 1789، والثورة الأمريكية سنة 1776. ونحن لا ننكر هذه الحقائق، ولكنّنا لا نساير القول بأنّ ريادة تأسيس الحقوق ترجع إلى التاريخ الأوروبي الحديث وحده، وإنّما ترجع إلى تاريخ إنساني عامّ، يعدّ الإسلام أحد مكوّناته الأساسية. وإنّه من الإنصاف لتاريخ الحضارة الإسلامية القول بأنّ الإسلام كان رائداً حقاً في تأسيس حقوق الإنسان، على مستوى التشريع وتحديد المسؤوليات، وليس على المستوى النظري والأخلاقيات. وذلك ما يتجلّى في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الصحيحة. ولذلك نلاحظ أنّه عندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن هيئة الأمم المتّحدة سنة 1948، وهو إعلان أخذ صفة العالمية بدون شكّ، فقد كانت له ردود أفعال، أهمّها ما صدر عن ممثّلي الأديان السماوية الثلاثة. وأنّه في الوقت الذي تحفظت فيه اليهودية والمسيحية على لسان من يمثلونها تجاه الإعلان العالمي في إبّانه، فإنّ الإسلام وحده على لسان من يمثلونه رحّب بهذا الإعلان، وقام الحقوقيون والفقهاء المسلمون بإصدار إعلان مماثل، يقوم على المقارنة بين الإعلانين، ويتضمّن الخصوصية التي يتميّز بها الإسلام في مجال بيان حقوق الإنسان. وضمنوا ذلك في دراسات مقارنة وأبحاث قيّمة. وهو ما يتضمّنه كتابي (حقوق الإنسان في الإسلام، مقارنة مع القانون الدولي العام).

لقد أسّس الإسلام نظام الحقوق قبل ثلاثة عشر قرناً، ولم يكن ذلك اعتباطاً ولا مصادفة، وإنّما جاء لتغيير أوضاع المجتمع الإنساني وانتشال هذا المجتمع من العبودية لغير الله، ومن ظلم الإنسان للإنسان. ولذلك أعطى الإسلام لمفهوم الحق معنى مزدوجاً أو مفهوماً متكاملاً؛ فالحق في الإسلام حق باعتبار، وواجب باعتبار آخر. فهو إلزام والتزام؛ إذ لا يتصوّر حق في الإسلام إلا وهو واجب على طائفة تُجاه من يستحقون ذلك الحق. والحقوق المخوّلة للإنسان هي واجبات على الدولة وعلى الأفراد. وهذا المعنى وارد بتفصيل في كتابي المشار إليه. أجل، هناك ما يميّز حقوق الإنسان في الإسلام عن الحقوق في القانون الدولي العامّ، وهذا ما يطرح أمامنا مسألة الكونية والخصوصية بالنسبة لهذه الحقوق. وهي مسألة عالجها قبلي عدد من المفكّرين، منهم المرحوم محمد عابد الجابري في كتابه (الديمقراطية وحقوق الإنسان). وأنا أتّفق معه في أنّ المسألة تعود إلى فلسفة تأصيل هذه الحقوق، وليس إلى المقارنة الشكلية. فالنظرية العامّة الفلسفية للحقوق في الفكر الوضعي، وفي الفكر الإسلامي لهما نفس الهدف. وهو تكريم الإنسان بتخويله ما يوفّر له الكرامة في حياته، وعلى نحو ما يمليه التطوّر الحضاري التي يرتقيه باستمرار.

إنّ حقوق الإنسان كما يحدّدها الإسلام لا تخصّ فئة المؤمنين به وحدهم، ولا تخصّ شعباً أو أمّة بعينها، وإنّما هي حقوق للإنسان حيثما وُجد هذا الإنسان. ومن ثمَّ فإنّها حقوق كونية أيضاً. ولذلك فإنّ طرح إشكالية الخصوصية والكونية لا معنى له في هذا المجال. نعم، لقد اعتقد البعض أنّ حقوق الإنسان في الإسلام لها خصوصية تتجلّى في أنّ الإسلام انطلق في شريعته عموماً من التركيز على الروح الجماعية للأمّة الإسلامية، ومن إيثار المصلحة الجماعية على الفردية. ومعنى ذلك أنّه لم ينطلق من التركيز على حق الأفراد كأفراد بغضّ النظر عن أي التزام آخر. أو اعتبار مصالح غير مصلحته. فالطابع الديني للحقوق في الإسلام يقابل الطابع الوضعي القائم على تعزيز الشخصية الفردية في نظرهم. وينبني على هذه المقارنة عند أصحابها الفرق بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية. وهذا مجال للمناقشة قد لا يتّسع المقام للدخول فيه.

وإذا كان الفقه المقاصدي في الإسلام قد ارتكز على ما اعتبره مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية، وأنّ هذه الأخيرة تكمّل ما يتوق إليه الإنسان من استكمال حاجاته المتجدّدة لحياة كريمة، فليس في شريعة الإسلام ما يمنع أن تظلّ حقوق الإنسان مجالاً مفتوحاً للتجدّد والتطوّر والاجتهاد. ونُشدان الكمال للحياة الإنسانية.

10. مع أن “حق الاختلاف” يكاد يمثل الأساس الذي تندمك عليه كل الحقوق الثقافية، إلا أنه قد يبدو، في نظر البعض، متعارضا مع “مبدأ المماثلة” والمساواة الذي يكاد يشكل أساس حقوق الإنسان برمتها، كما قد يتعارض مع مبدأ الوحدة؛ وحدة المجتمعات وتماسكها. كيف تنظرون لهذه المفارقة؟ وما السبيل إلى تجاوزها؟

أنا لا أرى وجود أي تعارض بين الأمرين؛ لأنّ كلاً منهما يهمّ حقلاً من حقول النشاط الإنساني. فإذا نظرنا إلى ظاهر الإشكالية المطروحة فإنّنا نجد أنّ المماثلة هي اصطلاح منطقيّ، يجب أن يؤخذ بدقته المنطقية. فهو ينصرف إلى الدلالة على وحدة الجنس في الأشياء المادية الجامدة والحية، ولكنّه لا يشمل المعاني الباطنية والاعتبارات العقلية والروحية للإنسان. والمماثلة في معناها المنطقي قد تعني المماثلة في الكيف، فتسمّى حينئذ مشابهة، وقد تعني المماثلة في الكمّ، فتسمّى حينئذ مساواة. وقد تعني المماثلة في الوضع فتسمّى حينئذ مطابقة. ولذلك، فإنّ المماثلة بالنسبة لحقوق الإنسان لا يمكنها أن تلغي الفروق الفردية والخصوصيات الشخصية. ومن ثمّ يعدّ تطبيق حقوق الإنسان بالنسبة لكلّ إنسان إنسان على سبيل المساواة الحرفية أمراً بعيداً، فلنأخذ مسألة مساواة المرأة مع الرجل على سبيل المثال. ففي هذه المساواة المطلوبة سياسياً ما يتجاهل الفروق الطبيعية بين الجنسين، وما تقتضيه هذه الفروق من خصوصيات. ومن ثمَّ يتعيّن أخذ كلّ حق من حقوق الإنسان بالتصوّر الدقيق لإنزاله على أرض الواقع، كحق الحرية والمساواة. لقد سوّى الإسلام بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات داخل نظامه الاجتماعي الشامل، القائم على التوازن بين المسؤوليات. ﴿ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف﴾ (البقرة: 226). ولكنّ الإسلام لم يسدّ الباب أمام المساواة السياسية. باعتبارها ممّا ينبغي الاجتهاد فيه بحسب الظروف والدواعي، والرجوع في ذلك إلى إجماع الأمّة، ومصالحها.

أمّا حق الاختلاف فهو من حقوق كلّ إنسان، للتعبير عن خصوصيته وذاته في فكره ومشاعره. والثقافة الوطنية أولى بهذا الحق في التعبير عن ذاتية الأمّة وخصوصياتها. وهو مبدأ لا يتنافى مع الوحدة الوطنية، ولا مع حقوق الإنسان بمعناها العامّ. ومن المعلوم أنّه عندما تتعارض القيم فإنّه يقدّم منها العامّ على الخاصّ، والكليّ على الجزئيّ. فالحفاظ على الوحدة الوطنية مقدّم على مراعاة الاختلافات الفردية كتقدّم الإرادة العامّة على الإرادة الفردية.

وقصارى القول فإنّني لا أرى أيّ تعارض بين قيم الاختلاف والتعدّدية، وبين قيم الوحدة والتكامل؛ لأنّني أتصوّر أنّ الاختلاف يقصد به التنوّع في التعبير عن ذات الشيء، وأنّ الوحدة تعني هوية الذات. والأمران متكاملان، لا متعارضان. وهذا الفهم هو سبيل تجاوز الإشكالية. وهنا أشير إلى الفرق بين الخلاف وبين الاختلاف؛ والفرق بينهما كالفرق بين الهوية والمغايرة. ولهذا نجد المتكلّمين المسلمين في القديم قد اعتبروا أنّ الاختلاف معناه عدم التشارك في جميع الصفات الذاتية للشيء نفسه، بينما الخلاف هو وجود التضاد بين الشيء وغيره. فالاختلاف يضفي على الشيء قوة الحضور والوجود، بينما الخلاف يفضي إلى التنازع والتنافي.

وأرى أنّ مرجع الالتباس في الكثير من المفاهيم التي نستعملها في لغتنا المعاصرة هو ما أضفاه الاستعمال العاميّ على لغتنا، من التعميم والتوهيم والخلط. بينما يتعيّن اعتماد اللغة المصطلحية الدقيقة في كلّ حوار أو نقاش.

د. محمد الكتاني

المفكر وكاتب الدولة وعضو أكاديمية المملكة المغربية

  • ولد الأستاذ محمد الكتاني بمدينة فاس سنة 1934، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدينة الدار البيضاء، ثم عاد بعد حصوله على الشهادة الابتدائية سنة 1946 إلى مدينة فاس، ليتلقى تعليمه الثانوي بجامعة القرويين.
  • حصل على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 1980.
  • عضو مشارك ومقيم بأكاديمية المملكة المغربية التي تعتبر من الأكاديميات المرموقة عالميا.
  • مكلف بمهمة بالديوان الملكي، برتبة (كاتب الدولة) منذ سنة 1997، وهو المنصب الذي يشغله حتى الآن.
  • نال عددا من أوسمة الدولة مكافأة له على جهوده الوطنية والمهنية.
  • اشتغل بسلك التعليم الابتدائي والثانوي أستاذا ثم مفتشا؛ حيث أسهم في عدد من المؤلفات التعليمية والتربوية التي كانت مقررة من لدن وزارة التربية الوطنية على مدى العقود الثلاثة 1960-1990 في التعليم الثانوي.
  • انتخب كاتبا عاما للنادي الثقافي الفني بمدينة الدار البيضاء، خلال سنوات 1956/1960.
  • حصل على اللسانس في الأدب العربي سنة 1963، ثم على شهادة تكميلية في الأدب المقارن سنة 1964، ثم على دبلوم الامتحان الخاص لولوج الدراسات العليا سنة 1966، محرزا بعد ذلك على دبلوم الدراسات العليا سنة 1970.
  • شغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة عبد الملك السعدي بمدينة تطوان، فقضى في عمادتها نحو الخمسة عشر عاما، لم ينقطع خلالها عن التدريس بأقسام الدراسات العليا فيها وفي كلية آداب فاس، وفي كلية أصول الدين (جامعة القرويين)، كما لم ينقطع عن الكتابة والبحث العلمي. بعد أن سبق له شغل منصب نائب عميد كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط. ورئيسا لقسم الدراسات الإسلامية بها.
  • تولى رئاسة تحرير مجلة كلية الآداب.
  • عضو اتحاد كتاب المغرب.
  • عضو بمجمع اللغة العربية بالسودان.
  • عضو بالمجلس العلمي الإقليمي لمدينة فاس وبمدينة تطوان.
  • وعضو مشارك في عدد من اللجن العلمية المحكمة منها: اللجنة الوطنية للثقافة (المغرب) سنة 1982، ولجنة جائزة الملك فيصل العالمية (الرياض) 1993/1996/1998/2001، ولجنة التحكيم في جائزة البابطين (القاهرة) 1994.
  • شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية.
  • صدرت له العديد من المؤلفات منها:

ـ محمد إقبال مفكرا إسلاميا، (إصدار دار الثقافة بالمغرب) سنة 1978.

ـ الصراع بين القيم والجديد في الأدب العربي الحديث. (مجلدان). دار الثقافة 1982.

ـ من المنظور الإسلامي. دار الثقافة 1990.

ـ جدل العقل والنقل في مناهج الفكر الإسلامي القديم. دار الثقافة 1991.

ـ جدل العقل والنقل في مناهج الفكر الإسلامي الحديث. دار الثقافة 2000.

ـ معجم التفاسير القرآنية بالاشتراك مع مؤلفين آخرين. الإيسسكو 1997.

ـ حقوق الإنسان في الإسلام، مقارنة مع القانون الدولي العام. إصدار الرابطة المحمدية للعلماء 2015.

ـ شخصية الحسن الثاني في مناقبها وأبعادها. دار الثقافة 2000.

ـ من تساؤلات عصرنا، دار الثقافة 2001.

ـ منظومة القيم المرجعية في الإسلام، إصدار الإيسيسكو 2004.

ـ مسارات مغربية في الحضارة والثقافة، دار الثقافة 2005.

ـ ثقافة الحوار في الإسلام، إصدار وزارة الأوقاف بالمغرب 2007.

ـ مطارحات منهجية حول الأدب والنقد، دار الثقافة بالمغرب 2009.

ـ رهانات الجامعة المغربية، إصدار كلية الآداب بتطوان 2011.

ـ موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي. في ثلاثة مجلدات، إصدار دار الثقافة بالمغرب 2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق