مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مقدمة فضيلة الدكتور عبد الرحمن بودرع لكتاب: في البلاغة والتصوف

 

هذا فنّ لطيفٌ من فُنون التأليف في بلاغة القول، وبابٌ من أبوابِ العلم في رصد وُجوه الحكمة في بناء ما بُني على نَمط من العلم مَخصوص، جَمَع مَباحثَ في تأمل خصائص الكَلامِ المُنْتَقى وما يميزُه عن غيره في النَّظمِ والنحو والأسلوبِ والمَعْنى، مما لو تأملتَه لوجدْتَ أنّ التأليفَ في خصائص بلاغة الكلام مقدّمةٌ لا يَستغني عنها قارئُ الكلام البليغ ومُلتمِسُ فوائدِه.
فقَد جمَع الكتابُ بين مَزيتيْن كُبرَيين من مزايا التأليف في بلاغة الخطاب، أولاهُما أنّه نَظَرَ في نصوص بليغةٍ ذاتِ قيمةٍ قوليّةٍ وإنجازيّة عاليةٍ، والثاني أنّه لفَتَ انتباه القارئ إلى قيمَة المَقاييس اللّغويّة ومَفاتيح المعرفَة البلاغيّة.

 

هذا فنّ لطيفٌ من فُنون التأليف في بلاغة القول، وبابٌ من أبوابِ العلم في رصد وُجوه الحكمة في بناء ما بُني على نَمط من العلم مَخصوص، جَمَع مَباحثَ في تأمل خصائص الكَلامِ المُنْتَقى وما يميزُه عن غيره في النَّظمِ والنحو والأسلوبِ والمَعْنى، مما لو تأملتَه لوجدْتَ أنّ التأليفَ في خصائص بلاغة الكلام مقدّمةٌ لا يَستغني عنها قارئُ الكلام البليغ ومُلتمِسُ فوائدِه.

فقَد جمَع الكتابُ بين مَزيتيْن كُبرَيين من مزايا التأليف في بلاغة الخطاب، أولاهُما أنّه نَظَرَ في نصوص بليغةٍ ذاتِ قيمةٍ قوليّةٍ وإنجازيّة عاليةٍ، والثاني أنّه لفَتَ انتباه القارئ إلى قيمَة المَقاييس اللّغويّة ومَفاتيح المعرفَة البلاغيّة.

أجَلْ، يُعيدُ الكتابُ مَنهَجَ النظرِ في بَلاغةِ الكَلام البليغ إلى نصابه، بعد الذي ابتُليَت به بلاغةُ اليومِ من استفحال التنظير وتورُّم الدرس البلاغيّ بالانقلاب على المقاييس، واتجاهِها إلى بناءِ المَوضوعِ المَدْروسِ بمعزل عن الخطاب المَدروس، لقَد أخذ النظرُ المُعاصرُ الذي يَزعُمُ أنه يُجدد في الخطاب البلاغيّ، ينْحو نحوَ بناء نماذجَ مجرَّدةٍ تَقومُ في بَدءِ الأمرِ على ظواهرَ طبيعيةٍ يَسيرةٍ مُنتقاة تتذرَّعُ بها وتركبُ مطيَّتها، ولكنّ هذه النّماذجَ النظريّةَ يُرادُ لها اليومَ ألاّ تَرتبطَ بظواهرِ الواقع المادّيّ وألاّ تغترفَ منه وأن تَعلُوَ عليْه، بل يُرادُ للنظرِ اليومَ أن “يبني” من جديدٍ أو “يَصنعُ” بدءاً، خطابا جديداً موضوعاً له خاصّاً به يفرضُه على واقع الدّرس البلاغيّ ويدَّعي شرعيّتَه، و”يُغَيِّبُ” أو “يُنْكر” كلَّ خطابٍ لا يَرتضيه ولا يَستجيبُ لعناصره النظرية.

يأتي هذا الكتابُ في سياقِ إعادَة الاعتبارِ إلى الخطابِ البلاغيّ في بَلاغةِ الخطاب، ويَضعُ مَقاييسَ نابعةٍ من قلب النصوص ومنبثقة من صلب البلاغَة العمليّة المُسْتخْلَصَة من التأمل في أساليب الكلام وأنساق نظمها وكيفَ دُلَّ على مَعانيها وأفكارِها بها.

تضمّن كتابُ الدكتور محمد الحافظ الروسي أصنافاً من الموادّ الأدبيةِ واللغويّةِ، يَجمعُها عُمقُ النّظرِ في النُّصوص البليغَة والتوسُّلُ إلى بُلوغِ مَرامِها بالمَقاييس المناسبَة؛ فمن الموادّ المَدروسَةِ تحليلُ أجناس الكلامِ في أدب النبوة، في مُخاطَبة المَوْتى والخَبَر عنهُم، وهذا بابٌ من أبواب الكشف عن النظمِ المخصوص والمَقال المُطابقِ لمُقْتضى المَقامِ.

 ومن مواد الكتاب تحقيق معنى [فأقبل بهما وأدبر] من  حديث الوضوء، والوقوف عند دلالة الواو وأثر ذلك في معنى العبارَة كلها والاحتمالات الواردَة وبيان فقه المقاصد في فَهم المَعْنى المراد، ثم الوقوف عند رأي الشريف السبتي في ترجيحه الوجه الأحسن في تأويل المسألة بناءً على منهج العرب في كلامها البليغ وإفادَةً من مباحث العلوم الشرعية والعقلية واللغوية .

ومن مواد الكتاب وأبوابه التحقيق في مسألة الإرتاج على عثمان رضي الله عنه، وما أثير حول ذلك من شبهات في مسألة فَصاحَته وعدم قدرته على ارتجال الكلام البليغ، ومن تعدد مَن نُسبَ إليْهم الإرتاجُ وما صاحبَ ذلك من ضروب الخلل والاضطراب في الروايات، واستدعى هذا الإشكالُ حديثَ المؤلف عن فن الخَطابة وطَبيعة الخُطَب وأحوال الخَطيب، وأن الإرتاجَ ظاهرةٌ طبيعية كانَت قبلَ عثمانَ وبعدَه ولم يكنْ أولَ المُرْتَج عليْهم، ولا يُحكَمُ على الخَطيب بالإرتاج من خطبة واحدةٍ، هذا إن صحت روايَة الإرتاج.

من مواد الكتاب أيضاً مفهومٌ من المفاهيم النقدية، قلما تنبه له النقاد القُدماءُ قبل المحدَثين، إنه مفهوم التشبيهات العُقْم والمَعاني العُقم، التي استلهَمَها الجاحظُ من بيتي عنترَة [والكلمة في الأصل للرشيد في حديثه مع الأصمعي] ، فانتباه الجاحظ لها أعطاها قوةً دافعةً كَسَبَتْها قوةً اصطلاحيةً ومفهومية في عالَم النقد، وقد أحسَن المؤلفُ الدكتور محمد الحافظ الروسي، إذ أثارَ المفهومَ وبَعَثَه من مَكمنه في كتاب الجاحظ والحاتميّ، وإثارَة الإشكال في باب العلم جَديرٌ بأن يجعلَ للمفاهيم وعباراتها الاصطلاحية مَكانا في قائمة المصطلحات النقدية، والمفاهيم التي ترصد توليد المَعاني وإبداعَ الصور غير المسبوقَة مثل التعلق بذيل المَعْنى، ونقل معنى الصفة التي هي فرع على المَعْنى الأول، والزيادَة في المَعْنى التي هي ضربٌ من الاختراع إن صادَفَ قوةً في البيان وتخييلاً محرِّكاً.

ومن مواد الكتاب شرحُ بيت الناصري المتعلق بالمفر إلى رحمة الله من سَخَطه، وما في البيت من المعاني العميقَة والأسرار الدقيقَة والصور البليغة، التي لا يُسعفُ بها إلا التأويل البلاغيُّ السّديد للخطابِ الصوفيّ، وهو تأويلٌ منتجٌ خصبٌ وَلودٌ لأنّه يَستدعي جُملةً من المَعاني التي تتداعى وتتناصُّ وتتفاعَلُ وتتناسَخُ في صُلب نص واحدٍ هو هذا البيتُ  الشعريُّ الرائعُ؛ منها الاستثناءُ البليغُ [إلاّ عبادَك منهم المُخلَصين] من الإغواء المَعْلوم [لأزيِّننَّ لهم في الأرضِ ولأُغويَنَّهُم أجْمَعين] ، ومن المَعاني المُستلزَمة أيضاً [إني ذاهبٌ إلى ربي سَيَهدين] وهو فرار إلى رحمة الله، ومن المَعاني أيضًا التماسُ الطُّمأنينَة [قالَ بَلى ولكن ليَطمئنّ قَلبي]، ومن المَعاني: [ضَلّ مَن تَدعونَ إلاّ إيّاه]، ومنها [ففرّوا إلى الله إنّي لكُم منه نذيرٌ مبينٌ]، وهو فرارٌ مَخصوصٌ لأن فيه الأمنَ والفرارُ إلى غير الله فيه الخوفُ والمَكاره.

فهذا أنموذج بليغٌ في تقريب الخطاب البليغ واستنباط المَعاني منه بالمقاييس العلميّة الرفيعَة التي تجَعَل النّصَّ المدروسَ عالَما حيا متحركاً متفاعلاً بالمَعاني غنياً بالأفكارِ، من غير إسقاطِ الأحمال النّظريّة والأثقالِ التَّجريديّة التي أرهَقَ به الدّرسُ الحَديثُ النصوصَ البليغةَ بالهموم الفلسفيّة والسياسيّة والثقافيّة الكَثيفَة التي تحجبُ بساطة اللغة البشرية وشفافيتَها وصَفاءَ البلاغَة.

ومن موادّ الكتاب عَقْد صَفحاتٍ في الحِجاجِ  البلاغيّ البَليغ لمُناقَشَة بَعض الأدعياءِ المُدَّعينَ في أمور العلم والثقافَة والتربية والتَّعليم، وقَد عادَ الخطابُ البلاغيّ البليغ لمُحاججةِ المُدّعينَ انطلاقاً من مرجعيّة مَتينة وأرض صلبةٍ تُثبتُ من المَعاني والقيَم ما يَنفعُ الناسَ في الأرضِ وتَكشفُ اهتزازَ الزَّبَد الجُفاءِ منه، وكانَت مناقشةُ الكاتبِ لكثير من أدعياءِ العلم والثّقافَة والشأن الاجتماعيّ ذاتَ عُمقٍ وقوّةٍ وتَماسُك لأنّها توسّلَت بالحوارِ العقليّ المُقْنع الذي يَدمَغ كلَّ صيحةٍ تَدّعي تصحيحَ المَسار ولكنَّها لا تستقرُّ  على قَرار .

ومن موادّ الكتاب الكتابةُ في فنٍّ جديد من فُنون التأليف يتعلّقُ بفنّ القراءَة والتّقديم للكُتُب والدواوين الشعريةِ التي تَستحقُّ القراءَةَ والتّقديمَ، في زمنٍ قلَّ فيه القرّاءُ. فكانَ فنُّ المُقدّمة خطاباً بلاغياً بليغاً لأنه قراءةٌ لما يَنبغي أن يَكون عندَ القرّاءِ مُقَرَّباً مَقْروءاً، وآلَةُ القراءَة والتّقديم لا تَخرجُ عن المقاييس اللغويّة والبلاغيّة التي هي المَسْلَكُ الأسنى لبُلوغ مرام النصوص ومقاصدِها من المَعاني والفَوائد.

ثُمّ، لا شكّ، بعد هذا الاستعراض لموادّ الكتابِ أن يُشارَ إلى أنّ منهَج الكاتبِ يَنطقُ بدعوةٍ صامتةٍ إلى اعتمادِ علوم العربيّة ومَقاييسها واعتمادِ ما تَراكَمَ عندَه من تَجاربِ السنين في الدّرس اللغوي والبلاغي والنقدي، وفي قراءَة المصادر، وتحليل النصوص، وما أسعَفَت به حلقاتُ التدريسِ والكتاباتُ الرصينَةُ في النصوص البليغَة وفي طرُق استنباط المَعْنى واستكشاف خصائص الإبداع والجَمال فيها. فذلك من كَمال الخطاب البلاغي في بلاغة الخطاب .

 

 

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق