مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

مقتطف من كتاب قواعد الأحكام في إصلاح الأنام للعز بن عبد السلام

     والطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها وتفسد بفسادها تطهيرها من كل ما يباعد عن الله وتزيينها بكل ما يقرب إليه ويزلفه لديه من الأحوال والأقوال والأعمال وحسن الآمال ولزوم الإقبال عليه والإصغاء إليه والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملال، ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات، وغير ذلك مما ذكرناه من أعمال القلوب، فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدق الشريعة، ولا ينكر شيئا منهما إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات وهم شر من قطاع الطريق لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات يطلقونها على الله ويسيئون الأدب على الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء من العلماء الأتقياء، وينهون من يصحبهم عن السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم.

والأحوال أنواع:

     أحدها. الخوف وهو ناشئ عن معرفة شدة الانتقام. النوع الثاني: الرجاء وهو ناشئ عن معرفة الرحمة والإنعام. النوع الثالث: التوكل وهو ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والإكثار والإقلال. النوع الرابع: المحبة ولها سببان أحدهما: معرفة إحسانه وعنها تنشأ محبة الإنعام والإفضال، فإن القلوب مجبولة على حب من أنعم عليها وأحسن إليها فما الظن بمحبة من الإنعام كله منه والإحسان كله صادر عنه. السبب الثاني: معرفة جماله وعنها تنشأ محبة الجلال وينبغي أن يكون كل واحد من المحبين أفضل من كل محبة إذ لا إفضال كإفضاله، ولا جمال كجماله. النوع الخامس: الحياء وهو ناشئ عن معرفة نظره إلينا واطلاعه علينا فمن حضرته هذه المعرفة استحيا من نظره إلينا واطلاعه علينا، فلم يأت إلا بما يقربه إليه ويزلفه لديه، ولا يأتي بما يبعده منه وينحيه عنه. النوع السادس والسابع: المهابة والإجلال ومنشؤهما معرفة جلاله وكماله فينبغي أن تكون مهابته وإجلاله، أعظم من كل مهابة وإجلال إذ لا إجلال كإجلاله ولا كمال ككماله. النوع الثامن: الفناء الناشئ عن الاستغراق ببعض هذه الأحوال وحقيقة الفناء غفلة وغيبة، وفراغ القلب عن الأكوان إلا عن السبب المغني، فمن فقد معرفة من هذه المعارف فقد ما يبتنى عليها من الأحوال، وما يناسب تلك الأحوال من الأقوال والأعمال، ومن دامت معارفه بهذه الصفات دامت له الأحوال الناشئة عنها والمستفادة منها، وتتفاوت رتب القوم بتفاوت دوام المعارف والأحوال المبنية عليها، وكذلك تتفاوت رتبهم بشرف الأحوال الناشئة عن المعارف المذكورة، فمراتب الخائفين والراجين دون مراتب المحبين لتعلق أسباب الخوف والرجاء بالمخوف من الشرور، والمرجو من الخيور وتتعلق المحبة بالإله، ثم المحبة الناشئة عن معرفة الجمال أفضل من المحبة الناشئة عن معرفة الإنعام والإفضال، لأن محبة الجمال نشأت عن جمال الإله، ومحبة الإنعام والإفضال نشأت عما صدر منه من إنعامه وإفضاله، والتعظيم والإجلال أفضل من الكل، لأنهما نشآ عن معرفة الجلال والجمال فنشآ عن جلال الله وكماله وتعلقاته فلهما شرف من وجهين اثنين، ومن أطلعه الله على أوصاف غير هذه الأوصاف، فنشأت عنها أحوال تناسبها غير هذه الأحوال لا يمكنهم العبارة عنها، إذ لم توضع عبارة عليها ولا الإشارة إليها، فإن دلالة الإشارة دون دلالة العبارة، فإن للأكابر علوما خارجة عن العلم الضروري النظري وهم فيها متفاوتون ولحضور هذه المعارف المذكورة في القلوب رتب أعلاها أن تبدأ القلوب من غير سعي في استحضارها واكتسابها، فيصدر عنها الأحوال الناشئة لها، ثم تدوم بدوامها وتنقطع بانقطاعها، وهذا ثابت للنبيين والمرسلين في أغلب الأحوال والقليل من الأبدال. الرتبة الثانية: أن يستحضرها العبد باستجلابها واستذكارها حتى تحضر وينشأ عنها أحوالها اللائقة بها ويختلف الناس في ذلك: فمنهم من تستمر عليه هذه المعارف، فتستمر به الأحوال الناشئة عنها، وهذا دأب الأولياء، ومنهم من تنقطع عنهم هذه المعارف والأحوال على الفور من استحضارها وهذا حال مثلنا وأمثالنا، ومنهم من يقع انقطاعها بين هاتين الرتبتين وهم يتفاوتون في سرعة الانقطاع وبطئه. الرتبة الثالثة: من لا تحضره هذه المعارف والأحوال الناشئة عنها إلا بسبب خارج، ولهم رتب. أحدها: من تحضره المعارف وأحوالها عند سماع القرآن، وهؤلاء أفضل أهل السماع. الرتبة الثانية: من تحضره المعارف والأحوال عند سماع الوعظ والتذكير، وهؤلاء في الرتبة الثانية. الرتبة الثالثة: من تحضره هذه المعارف والأحوال عند سماع الحداء والنشيد، وهذا في الرتبة الثالثة لارتياح النفوس

     والتذاذها بسماع الم تزن من الأشعار والنشيد، وفي هذا نقص من جهة ما فيه من حظ النفس. الرتبة الرابعة: من تحضره هذه المعارف والأحوال المبنية عليها عند سماع المطربات المختلف في تحليلها كسماع الدف والشبابات، فهذا إن اعتقد تحريم ذلك فهو مسيء بسماعه محسن بما يحصل له من المعارف والأحوال، وإن اعتقد إباحتها تقليدا لمن قال بها من العلماء فهو تارك للورع باستماعها محسن بما حضره من المعارف والأحوال الناشئة عنها. الرتبة الخامسة: من تحضره هذه المعارف والأحوال عند سماع المطربات المحرمة عند جمهور العلماء كسماع الأوتار والمزمار فهذا مرتكب لمحرم ملتذ النفس بسبب محرم، فإن حضره معرفة وحال تناسب تلك المعرفة، كان مازجا للخير بالشر، والنفع بالضر، مرتكبا لحسنات وسيئات ولعل حسناته لا تفي بسيئاته فإن انضم إلى ذلك نظر إلى مطرب لا يحل النظر إليه، فقد زادت شقوته ومعصيته.

     فهذه رتب من تحضرهم المعارف والأحوال بسبب ما يستمعونه، فالمستمعون بالقرآن أفضل هؤلاء لأن سببهم أفضل الأسباب، ويليهم من يستمع الوعظ والتذكير إذ ليس فيه غرض للنفوس حاصل من الأوزان، ويليهم من يستمع الحداء والأشعار، لما فيه من حظ النفوس بلذة سماع موزون الكلام، فإنه يلتذ به المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وليس لذة النفوس بذلك من أمر الدين في شيء، ويليهم من يسمع المطربات المختلف في تحريمها للاختلاف في قبح سببه، ويليهم من يسمع ما ذهب الجمهور إلى تحريمه، لأنه أسوأ حالا ممن تقدمه، وعلى الجملة: فالسماع بالحداء ونشيد الأشعار بدعة لا بأس بسماع بعضها. وأما سماع المطربات المحرمات فغلط من الجهلة المتشيعين المتشبهين المجترئين على رب العالمين، ولو كان ذلك قربة كما زعموه لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويعرفوه لأتباعهم وأشياعهم، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء ولا من أكابر الأولياء، ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} ولو كان السماع بالملاهي المطربات من الدين، لبينه رسول رب العالمين، وقد قال عليه السلام: “والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه”.
واعلم أن السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم أقسام. أحدها العارفون بالله، ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب، عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخلوقات وظهرت آثاره عليه من الحزن والبكاء وتغيير اللون. والخوف على أقسام أحدها: خوف العقاب، والثاني خوف فوات الثواب، والثالث خوف فوات الحظ من الأنس والقرب بالملك الوهاب، وهذا من أفضل الخائفين وأفضل السامعين، فمثل هذا لا يتصنع في السماع، ولا يصدر عنه إلا ما غلب عليه من آثار الخوف لأن الخوف وازع عن التصنع والرياء، وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيره فيه أشد من تأثير النشيد والغناء.

1 2الصفحة التالية
Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق