مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

مفهوم النفس وأدلة وجودها عند الإمام الغزالي قراءة في كتابه: معارج القدس في مدارج معرفة النفس

بين يدي القراءة: النفس في القرآن [2]

ذكر الله عز و جل النفس في القرآن في مائتين و ثمان و تسعين موضعا بالمعاني التالية:
1.   بمعنى  الكائن الخفي الموجود داخل الجسد و الذي نتحدث عنه هنا
2.   بمعنى الإنسان بجملته
3.   بمعنى ” الذات” المعنوية
و قد استطعنا أن نعرف من كل تلك الآيات الشريفة حقيقة النفس و صفاتها و أفعالها وأحوالها و مراحل تطورها منذ ابتداء خلقها ثم في حياتها و عند مماتها وانتهاء بحسابها وجزائها.  و علاوة على ذلك فإن الله تعالى يأمرنا بأن نزيد علمنا بالنفس عن طريق إمعان الفكر فيها فقال (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
و قد درج بعض المفسرين على اختيار المعنيين الثاني و الثالث في تفسيرهم لكلمة نفس الواردة في بعض آيات القرآن أي أنهم اعتبروا أن كلمة (نفس) الواردة في تلك الآيات تشير إلى ذات الإنسان أو الإنسان بكامله. و هنا نقول إن القرآن حينما يكني عن الإنسان بجملته بكلمة (نفس) في عدد من الآيات فذلك لأن النفس التي فيه هي الكائن المعتبر في الخطاب و في التكليف و هي أنفس و أثمن ما في الإنسان. وأما البدن و الروح فهي كائنات تابعة للنفس.  و ذلك في مثل قولنا: جاء الملك وذهب الملك مع أن في معية الملك دائما وزراء و حاشية و أناسا كثيرين، و لكننا لا نذكرهم بل نذكر أعظم من فيهم. و لذلك فإن جميع الآيات التي ترد فيها كلمة نفس بمعنى الإنسان بجملته هي في النهاية تشير بالفعل إلى أهم ما في الإنسان أي إلى الجزء العاقل فيه وهو النفس.
و الذي نلاحظه من كل ذلك أن القرآن تناول قضية النفس بتفصيل و إسهاب و وضوح وجعلها ميدانا مفتوحا للبحث و الدراسة بل إنه حمل الإنسان مسؤولية الجهل بها بقوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).

قراءة في كتاب”معارج القدس في مدارج معرفة النفس”

يعتبر كتاب«معارج القدس» المرجع الأساسي في دراسة النفس عند الغزالي، حيث صب فيه جل آرائه في النفس والعقل، بالإضافة إلى مقتطفات متفرقة تتعلق بنفس الموضوع في كتبه الأخرى، وهذا الكتاب من الكتب التي نوه بها، وأعلن رضاه عنها، ولفت إليها، لكسب سناها واغتنام هداها، وقد ذكر في هذا الكتاب من نتائج القريحة النقادة والفكرة الوقادة، وما كشف الغطاء عن أسرار النفس المخزونة وكنوز العلوم المكنونة، وقال إنه دل عليها وأبداها تقربا إلى الإخوان الذين لهم وفور العقل، وصفاء الذهن، وصحة الغريزة، واتقاد القريحة، وحدة الخاطر، وجودة الذكاء والفطنة، وجزالة الرأي وحسن الفهم، تخليدا للعلم وتوريثا له.
وقد صدر الإمام كتابه بما يكشف عن محتواه، فهو يقول:« ونحن نعرج في هذا الكتاب من مدارج معرفة النفس إلى معرفة الحق جل جلاله، ونذكر مخ ما يؤدي إليه البراهين من حال النفس الإنسانية، ولباب ما وقف عليه البحث الشافي من أمرها، وكونها منزهة عن صفات الأجسام، ومعرفة قواها وجنودها، ومعرفة حدوثها وبقائها وسعادتها وشقاوتها بعد ا لمفارقة، على وجه يكشف الغطاء، ويرفع الحجاب، ويدل على الأسرار المخزونة والعلوم المكنونة المضنون بها على غير أهلها، ثم ختمنا فصول معرفة النفس فحينئذ ننعطف على معرفة الحق جل جلاله…»
ثم يسرد المؤلف محتويات كتابه تحت عنوان «فهرس الكتاب» ثم يفصل بعد ذلك فيبين في المقدمة رأيه في الألفاظ الأربعة: النفس، والقلب، والروح، والعقل، فيميز بينها في ذلك سالكا مسلكا جديدا لم يسبقه إليه المتقدمون؛ إذ لا حظ في كل منها معنيين، أحدهما مادي والآخر روحي؛ فهو يطلق لفظ النفس للدلالة به على معنيين: أحدهما أن يطللق ويراد به المعنى الجامع للصفات المذمومة، والثاني أن يطلق ويراد به حقيقة الآدمي.
والقلب أيضا يطلق بمعنيين: أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في جوف الإنسان من جانب اليسار، والثاني هو الروح الإنساني المحتمل لأمانة الله المتحلي بالمعرفة، المركوز فيه العلم بالفطرة.
ونلاحظ أن الغزالي يستعمل هذا اللفظ مرادفا للنفس في أكثر موضع في كتبه، ولكنه يميل في كتبه المتأخرة إلى استعمال القلب كما يستعمله الصوفية، أي متميزا عن النفس، وعند ذلك يكون القلب محلا للحقائق الميتافيزيقية التي يصل إليها الإنسان حين يتحرر من سلطان البدن والحواس.
وكذلك الروح يستعمله الغزالي مرادفا للنفس في أكثر كتبه، مثل «الإحياء» و«الرسالة اللدنية» و«الروضة» و«الميزان» و«الأربعين في أصول الدين»، ولكنه هنا يميز فيطلق الروح حيث «يراد به البخار اللطيف ا لذي يصعد من منبع القلب ويتصاعد إلى الدماغ بواسطة العروق»، ويطلق أيضا ويراد به القرآن، وعلى الجملة فهو عبارة عما به حياة ما على  الجملة .
والعقل أيضا يميز له ثلاثة معان فهو يطلق ويراد به العقل الأول، والإطلاق الثاني يراد به النفس الإنسانية، والإطلاق الثالث يراد به صفة النفس.
وراء هذه الإطلاقات المختلفة لهذه المعاني يبدو لنا فكرة أو علاقة مادية وراء كل لفظ من هذه الألفاظ، فوراء القلب بالمعنى الروحي يكمن القلب اللحمي الصنوبري الشكل، وخلف الروح يكمن الروح الحيواني الذي ينبعث عن القلب الجسماني، وخلف النفس يوجد الجسد، وهي تشير بالوقت نفسه إلى معرفة وإدراك القدرة الربانية التي تعبر عنها هذه الألفاظ.
بعد بيان الغزالي للألفاظ الأربعة، ينتقل إلى بيانه وبراهينه على إثبات وجود النفس وجوهريتها، فيعتبر أولا أن النفس«أظهر من تحتاج إلى دليل في ثبوتها، فإن جميع خطابات الشرع تتوجه لا على معدوم بل على موجود حتى يفهم الخطاب، ولكنه يستظهر في بيانه ويفصل براهينه على وجود النفس، ويمكن تلخيصها بالأدلة التالية:
1- البرهان الطبيعي: وهو يستند إلى فكرة الحياة والحركة بالإرادة، فالأجسام كلها تشترك في أن لها أبعادا ثلاثة متقاطعة، ولكنها تختلف في الحركة والسكون، وهي لا تتحرك بذاتها بل بمعنى وراء الجسمية هو النفس.
هذا هو البرهان نفسه بتفصيله نجده عند ابن سينا في الشفاء والإشارات.
2- البرهان السيكولوجي:  بما أن الإدراك أم امتازت به الكائنات المدركة، فلا بد لها من قوى زائدة لتقوم بأدائه، فالحيوان فيه ما في النبات، ويحس ويتحرك بالإرادة، ويهتدي إلى مصالح نفسه، وله طلب لما ينفع وهرب عما يضر، فنعلم قطعا أن فيه معنى زائدا على الأجسام النباتية، هذا المعنى الزائد هو النفس.
3- برهان إدراك المعقولات:  بما أن المعقولات ليست أجساما، فإن محلها لا يكون جسما، وإنما هو شيء يضاف إلى الجسم «فالانسان فيه جميع ما في النبات والحيوان من المعاني، ويتميز بإدراك الأشياء الخارجة عن الحس، مثل أن الكل أعظم من الجزء، فيدرك الجزئيات بالحواس الخمس، ويدرك الكليات بالمشاعر العقلية، ويشارك الحيوان في الحواس، ويفارقه في المشاعر العقلية، فإن الإنسان يدرك الكلي من كل جزئي، ويجعل ذلك الكلي مقدمة قياس، ويستنتج منه نتيجة، فلا الإدراك الكلي ينكر، ولا المدرك الذي يجحد، ولا العرض ولا الجسم القابل للعرض، ولا النبات ولا الحيوان غير الإنسان يدرك الكلي حتى يقوم به الكلي فينقسم بانقسام الجسم، إذ الكلي له وحده خاصة من حيث هو كلي لا ينقسم البتة، فلا يكون للإنسان المطلق كلي نصف وثلث وربع، فقابل الصورة الكلية جوهر لا جسم ولا عرض في جسم ولا وضع له ولا أين فيشار إليه، بل وجوده وجود عقلي أخفى من كل شيء عند الحس، وأظهر من كل شيء للعقل، فثبت بهذا وجود النفس، وثبت على الجملة أنه جوهر، وثبت أنه منزه عن المادة والصورة الجسمانية».
ويعتبر هذا البرهان من أهم البراهين على وجود النفس عند الغزالي، وقد قال بهذا البرهان قبل الغزالي ابن سينا في الشفاء وفي رسالته في معرفة النفس الناطقة.
4- برهان الرجل الطائر: يشير الغزالي إلى أن هذا البرهان يصلح لأهل الفطانة ومن فيه لطف الفهم والإصابة، وملخصه أن الإنسان إذا تجرد في تفكيره عن كل شيء من المحسوسات والمعقولات، فلا يمكنه أن يتجرد عن تفكيره في أنه موجود وأنه يستطيع أن يفكر، ويشرح ذلك بقوله:« إذا كنت صحيحا مطرحا عنك الآفات، مجنبا عنك صدمات الهوى وغيرها من الطوارف والآفاف، فلا تتلامس أعضاؤك ولا تتماس أجزاؤك، وكنت في هواء طلق(أي معتدل) ففي هذه الحالة أنت لا تغفل إنيتك وحقيقتك، بل وفي النوم أيضا، فكل من له فطانة ولطف وكياسة يعلم أنه جوهر، وأنه مجرد عن المادة وعلائقها، وأنه لا تعزب ذاته عن ذاته، لأن معنى العقل حصول ماهية مجردة للعاقل وذاته مجردة لذاته، فلا يحتاج إلى تجريد وتقشير، وليس ههنا ماهية ثم معقولية، بل ماهيته معقوليته ومعقوليته ماهيته».
ويدلل الغزالي على صحة برهانه بقوله:« والدليل على صحة هذا البيان الخاص أنه لو لم يكن المدرك والمشعور به هو حقيقتك ـ أي نفسك ـ بل يكون هو البدن وعارضه، لكان لا يخلو إما أن يكون الشعور به جملة بدنك أو بعضه، وبطل أن تكون الجملة، لأن الإنسان في الفرض المذكور قد يكون غافلا عن جملة البدن وهو مدرك نفسه، وإن كان بعضا منه فلا يخلو إما أن يكون ظاهرا أو باطنا، فإن كان ظاهرا فهو مدرك بالحس، والنفس غير مدركة بالحس، كيف ونحن في الفرض المذكور قد أغفلنا الحواس عن أفعالها، وفرضنا أن الأعضاء لا تتماس، وإن كان النفس والذات عضوا باطنا من قلب أو دماغ فلا يجوز أيضا، لأن الأعضاء الباطنة إنما يوصل إليها بالتشريح، فثبت أن مدركك ليس شيئا من هذه الأشياء، فإنك قد لا تدركها وتدرك ذاتك ضرورة، فما ألجئت  إلى إدراكه ضرورة لا يكون قطعا ما لا يدرك إلا بالنظر.
فإذن ثبت بهذا أن ذاتك ليس من عداد ما تدركه بالحس أو مما يشبه الحس بوجه من الوجوه».
هذا البرهان اقتبسه الغزالي عن ابن سينا، كما نجده عند أوغسطين الذي أخذه عن آباء الكنيسة الشرقية، وهذا البرهان يقترب كثيرا من الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود».
5- البرهان الشرعي: يعتبر الغزالي أن بيان جوهرية النفس ثابت من جهة الشرع، فجميع خطابات الشرع تدل على أن النفس جوهر، وكذلك العقوبات الواردة في الشرع بعد الممات تدل على أن النفس جوهر، فإن الألم وإن جل بالبدن فلأجل النفس، ثم للنفس عذاب آخر يخصه، وذلك كالخزي والحسرة وألم الفراق.
وهذا البرهان نجده عند أفلاطون، كما نجده عند ابن سينا.
6- برهان الاستمرار: وخلاصة هذا البرهان أن الجسد عرضة للتغير والتبدل والزيادة والنقصان، أما النفس فباقية على حالها لأنها بسيطة، ويشرح الغزالي بأن يقول:« إنك تعلم أن نفسك مذ كنت لم تتبدل، ومعلوم أن البدن وصفات البدن كلها تتبدل، إذ لو لم تتبدل لكان لا يغتذي، لأن التغذي أن يحل بالبدن بدل ما تحلل، فإذا نفسك ليس من البدن وصفاته في شيء».
وقد ذكر ابن سينا هذا البرهان قبل الغزالي…
لا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض هذه الأدلة الستة التي ذكرناها اشار إليها الغزالي بوصفها أدلة على روحانية النفس وجوهريتها، فاعتبرناها في ملخصنا أدلة على وجود النفس الإنسانية أيضا.

 

                                                                            إعداد الباحث : يوسف الحزيمري

الهوامش:

[1] أحمد شمس الدين : مقدمة كتاب”معارج القدس في مدارج معرفة النفس” لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1988م. (ص: 10-16).
[2] ماهية النفس تأليف أحمد كرار أحمد الشنقيطي بحث منشور على الشبكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق