مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مفاهيم التماسك والانسجام من خلال كتاب « نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي حذف الاسم في سورة البقرة «نماذج مختارة» الحلقة 3

2- حذف المضاف:

هذا النوع من الحذف كثير في العربية، ويعنى به حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، يقول ابن يعيش:« اعلم أن المضاف قد حذف كثيرًا من الكلام، وهو سائغُ في سعةِ الكلام، وحالِ الاختيار، إذا لم يُشكِل. وإنّما سوّغ ذلك الثقَةُ بعلم المخاطَب، إذ الغرضُ من اللفظ الدلالةُ على المعنى، فإذا حصل المعنى بقرينةِ حالٍ، أوَ لفظٍ آخرَ، استُغنى عن اللفظ الموضوع بإزائه اختصارًا. وإذا حُذف المضاف، أقيم المضافُ إليه مقامَه، وأعرب بإعرابه، والشَاهد المشهور في ذلك قوله تعالى «وَاسْأَلِ الْقَرْيَة». والمراد: أَهْلَ القريةِ؛ لأنه قد عُلم أن القرية من حيثُ هي مَدَرٌ وحَجَر، لا تُسأَل؛ لأن الغرض من السؤال رَدُّ الجواب، وليس الحجرُ والمدرُ مما يُجِيب واحدٌ منهما.»[32] وسنمثل لهذا النوع من الحذف بأمثلة مختارة من سورة البقرة:

قال تعالى:« قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين»[البقرة:93]

وفي قوله تعالى: « وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون»[البقرة:171]

ففي قوله تعالى:« قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين»[البقرة:93] تقدير المحذوف في الآية الكريمة «حب» أي أشربوا في قلوبهم حب العجل بكفرهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، «وأشربوا» الواو حالية أو عاطفة، و «أشربوا» فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل«في قلوبهم»جار ومجرور متعلقان بأشربوا، «العجل» مفعول به ثان على تقدير مضاف، أي حب العجل«بكفرهم»جار ومجرور متعلقان بأشربوا، والباء للسببية، أي بسبب كفرهم [33] العجل: هو على حذف مضافين، أي حب عبادة العجل من قولك: أشربت زيدا ماء، والْإشراب مخالطة الماء الجامد، وتوسع فيه حتَّى صار في اللونين، قالوا: وأشربت البياض حمرة، أي خلطتها بالحمرة، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته، كما داخل الصبغ الثوب، وحسن حذف المضافين، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف. وقيل: معنى أشربُوا: أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به، من أشربت البعير: إذا شددت حبلا في عنُقه.[34] فالقرينة على حذف المضاف قرينة سياقية معنوية بدليلين، الأول: لأن معنى «أشرب» خالط، وأشرب في قلبه حبه أي خالطه [35] والآخر: إن إسناد الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كما أشار أبو حيان، كأنه بصورته أشربوه فالدليل على حذف المضاف هو دلالة المعنى[36] وينبغي أن نلتفت إلى ما أداه الحذف من فن بياني هو الاستعارة، يقول الشريف الرضي:«وهذه استعارة والمراد بها صفة قلوبهم بالمبالغة في حب العجل فأنها تشربت حبه فمازجها ممازجة المشروب وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ، وحذف حب العجل لدلالة الكلام عليه لأن القلوب لا يصح وصفها بتشرب العجل على الحقيقة» [37] ، فالحذف في هذه الآية أدى وظيفتين: نصية وبيانية، لتحقيق التماسك الدلالي والترابط اللفظي للآية.

وفي قوله تعالى: « وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون»[البقرة:171]  شَغَلَت هذه الآيةُ المعربين والمفسرين، واختلفوا فيها اختلافا كثيرا، وتبلغ الأوجه التي أوردوها أربعة نختار منها واحدا، وسنبدأ بإعراب الآية الكريمة: «ومثل» الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل للكافرين في عبادتهم للأصنام، «مثل» مبتدأ، «الذين» مضاف إليه «كفروا» فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، ولابد من تقدير مضاف قبل الموصول أي مثل داعيهم إلى الإيمان أي مثل داعي الذين كفروا، بمعنى أن من يحاول هدايتهم بمثابة من يخاطب ما لا يسمع، وإن سمع فهو لا يعقل شيئا مما يسمعه «كمثل» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «الذي» اسم موصول مضاف إليه «ينعق»فعل مضارع وفاعله هو والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول «بما» الجار والمجرور متعلقان بينعق«لا يسمع» لا نافية، ويسمع فعل مضارع، والجملة الفعلية صلة ما «إلا» أداة حصر «دعاء» مفعول به«ونداء» عطف على دعاء«صم بكم عمي» أخبار ثلاثة لمبتدأ محذوف، أي هم «فهم » الفاء عاطفة، وهم مبتدأ «لا يعقلون» الجملة الفعلية المنفية خبرهم [38] وفي هذه الآية وقع حذف المبتدأ، وتقدير الكلام: «هم صم بكم عمي» والدليل على المحذوف هو ضمير الرفع المنفصل«هم» في قوله تعالى: «فهم لا يعقلون»، يقول سيبويه:« وَمَثَلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً ، وإنَّما شُبّهوا بالمنعوق به. وإنَّما المعنى: مَثَلُكم ومَثَلُ الذين كفروا كمثل الناعِق والمنعوقِ به الذى لا يَسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإِيجاز لعلم المخاطَب بالمعنى»[39] وصرحوا بوجوب تقديره أنسبها[40]

«ومثل داعي الذين كفروا » بقرينة«لا يسمع إلا دعاء ونداء » بعدية داخلية لخلق نوع من التماسك النصي بين عناصر الآية الواحدة، ورأى السيوطي الحذف في هذه الآية ما يسمى احتباكا وعرفه بقوله:«الاحتباك وهو نوع عزيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول كقوله تعال:« وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» التقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به، فحذف من الأول الأنبياء لدلالة«الذي ينعق» عليه ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة «الَّذِينَ كَفَرُوا» عليه، [41] ولنا في تعريف الاحتباك دليل على أثر الحذف في تماسك النص وشد بعضه بعضا ولا سيما دلالة الحبك في اللغة: الشَّدُّ، واحْتَبك بإِزاره: احْتَبَى بِهِ وشدَّه إِلى يَدَيْهِ، والحبكة: الحبل يشد به على الوسط، والتحبيك: التوثيق، وقد حبكت العقدة أي وثقتها، والحباك: أن يجمع خشب كالحظيرة ثم يشد في وسطه بحبل يجمعه، قال ابن الأعرابي: « كل شيء أحكمته وأحْسنْتَ عملَه فقد احْتِبَكْتَهُ.» [42] هذا ومأخذ التسمية الاحتباك من الحبك الذي معناه الشد والإحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فحبك الثوب سد ما بين خيوطه من الفرج وشده وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفرج بين الخيوط [43]

 كما ورد في هذه الآية فنون عديدة  منها : التشبيه التمثيلي، فقد شبه من  يدعو الكافرين إلى الإيمان رغم لجاجتهم ومكابرتهم بمن ينعق بالبهائم التي لا تسمع إلا التصويت بها والزجر لها، فهو تشبيه صورة بصورة أو تشبيه متعدد بمتعدد، والاستعارة التصريحية في تشبيه الكافرين بالصم البكم العمي وحذف المشبه وإبقاء المشبه به، وكذلك الإيجاز في حذف مضاف تقديره: مثل داعي الذين كفروا، ولم يصرح بالداعي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم تمشيا مع الأدب الرفيع في حسن التلطف بالخطب والتهذيب الذي يجب أن يتسم به الشعراء والكتاب،[44]

وهكذا يأتي النص القرآني مجود النسج، متماسك الجمل مترابط الأجزاء، فضلا على أن هذا الحبك والإحكام أكسب النص تماسكا وتلاحما بين أجزائه.

حذف المفعول:

وقوله تعالى: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يابَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون» [البقرة:132] التقدير: ووصى بها يعقوب بنيه فحذف اختصارا لدلالة الأول عليه، [45] فوقع حذف في قوله تعالى:« وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» قدر بنيه ودل على هذا الحذف قرينتان: نحوية ولفظية، فمن النحوية وهي قبلية داخلية عطف «ويعقوب» على «إبراهيم» وبذلك يكون في الآية حذف لمفعول هو «بنيه» دل عليه المفعول المتقدم المذكور فيكون المعنى: ووصى بها يعقوب بنيه [46] وبهذا يكون تماسك نصي بين عناصر الآية الواحدة، ثم في الآية اللاحقة وهي :« أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون »[البقرة:133] يتبين أن فيها قرينة لفظية أخرى وهي بعدية داخلية على تعيين المحذوف والإحالة عليه، مما يكون الحذف معه رابطا للآيتين اللتين تماسكت جملهما، فحقق الحذف تماسكا بين النص الواحد ومع النص الذي يجاوره، مما شد عرى التعبير القرآني. [47] وبهذا يكون تماسك نصي بين عناصر الآية الواحدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[32] شرح المفصل لابن يعيش 2/192.

[33] إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/142.

[34] البحر المحيط في التفسير 1/494.

[35] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين – بيروت،  الطبعة: الرابعة 1407 هـ‍ – 1987 م 1/154.

[36] مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانیة، المجلد 28 ، العدد 8، حذف الاسم في سورة البقرة بين التراث واللسانيات النصية، عبد الحسن عباس حسن، جامعة جابر بن حيان الطبية ص: 49.

[37] تلخيص البيان في مجازات القرآن، محمد بن الحسين الشريف الرضي ، مطبعة المعارف بغداد، 1375-1955م، ص:9.

[38] إعراب القرآن الكريم وبيانه2/217.

[39] الكتاب لسيبوبه، 1/212.

[40] الكشاف 1/214.

[41] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: 1394هـ/ 1974م، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 3/204.

[42] لسان العرب ، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ ،10/407- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 4/1578.

[43] الحذف البلاغي في القرآن الكريم ص:35.

[44] إعراب القرآن الكريم وبيانه 2/218.

[45] الحذف البلاغي في القرآن الكريم ص: 58.

[46] الكشاف1/191- مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانیة، المجلد 28 ، العدد 8، حذف الاسم في سورة البقرة بين التراث واللسانيات النصية، عبد الحسن عباس حسن، جامعة جابر بن حيان الطبية ص: 54-55.

[47] مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانیة، المجلد 28 ، العدد 8، حذف الاسم في سورة البقرة بين التراث واللسانيات النصية، عبد الحسن عباس حسن، جامعة جابر بن حيان الطبية ص: 54-55.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق