يقول الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات:
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام، أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالثة: أن تكون تحسينية.
أما الضرورية: فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.
والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام ، والحج، وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا، كتناول المأكولات والمشروبات، والملبوسات، و المسكونات، وما أشبه ذلك. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات. والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم.
والعبادات والعادات قد مثلت. والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع. والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال فشُرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ويتلافى تلك المصالح، كالقصاص والديات للنفس والحد للعقل، وتضمين قيم الأموال للنسل، والقطع والتضمين للمال، وما أشبه ذلك.
ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة.
وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لم يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة، وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات.
ففي العبادات كالرخص المخففة، بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر. وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال، مأكلا ومشربا ومسكنا ومركبا، وما أشبه ذلك. وفي المعاملات كالقراض، و المساقاة، والسلم، وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات، كثمرة الشجر، ومال العبد.وفي الجنايات كالتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك.
وأما التحسينيات: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات. ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان:
ففي العبادات كإزالة النجاسة، وبالجملة الطهارات كلها، وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات و القربات، وأشباه ذلك، وفي العادات كآداب الأكل والشرب، و مجانبة المآكل النجسات، والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات، وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة. وإنكاح نفسها. وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها. وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد. وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها. فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية و الحاجية، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.
من كتاب الموافقات في أصول الشريعة الجزء 2 الصفحة8