مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«معجم الهيآت والإشارات والرموز في القرآن الكريم من خلال تفسير «التحرير والتنوير» للإمام الطاهر ابن عاشور» (الحلقة العشرون)

الجيم

[8] جعل الأصابع في الآذان: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الخوف والهلع: قال الله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) [البقرة: 19].

وتأتي الآية في سياق الحديث عن المنافقين، فتصور حالهم بحالِ مَن أظلمت عليهم السماء وانهمر منها المطر المصحوب بالرعد والبرق والصواعق، فوقعوا في الحيرة والاضطراب والخوف، ولشدة الصواعق وطرقات الرعد تراهم قد وضعوا أصابعهم في آذانهم خوفا وهلعا، وهي صورة حافلة بالسخرية من هؤلاء الذين يظنون أنهم بذكائهم يخدعون المؤمنين، فإذا هم كالأطفال الخائفين المذعورين من ظاهرة طبيعية هي ظاهرة البرق والرعد، وهم لسذاجتهم يعتقدون أنهم أصبحوا في مأمن حين وضعوا أصابعهم في آذانهم(1)، وليس كذلك، فالله محيط بالكافرين في كل أحوالهم، قادر عليهم مهما فعلوا، وإنما خوفهم وهلعهم الأكبر من الموت الذي سيكون بعده الحساب وملاقاة الرب.

2- الإعراض والكراهة: قال الله تعالى: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [نوح: 7].

قال الطاهر بن عاشور: «فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الأَصَابِعِ فِي الآذَانِ وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ هُنَا حَقِيقَةً بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ قَوْمِ نُوحٍ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهِيَةً لِكَلَامِ مَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَيَجْعَلَ مِنْ ثَوْبِهِ سَاتِرًا لِعَيْنَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي الإِعْرَاضِ عَنْ قَبُولِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَةِ مَقَامِهِ بِحَالِ مَنْ يَسُكُّ سَمْعَهُ بِأَنْمُلَتَيْهِ وَيَحْجُبُ عَيْنَيْهِ بِطَرْفِ ثَوْبِهِ»(2).

وإِنَّ ما قام به قوم نوح عليه السلام من وضع أصابعهم في آذانهم لهو أبلغ من أي كلام يمكن أن يقولوه في هذا المجال للتعبير عن صدودهم ونفورهم(3)، وكذلك للتعبير عن عنادهم.

الراء

 [9] الرمز: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- إبلاغ المقصود: قال الله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [آل عمران: 41].

ويفهم من هذه الآية المباركة أن الرمز له القدرة على الإفهام وإبلاغ المقصود وإيصال المعلومة إلى الآخرين، فهو نوع خاص من اللغة الإشارية. وقيل: الرمز يسعف الإنسان في فهم المثال بالإشارة إليه وتمثيله وتمويهه في آن واحد(4).

وقد فسره الطاهر ابن عاشور مرة بالحُبسة في اللسان، ومرة بالامتناع من الكلام بعدما سُلِبَ قوة النطق، يقول: «وَقَوْلُهُ: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً)، جَعَلَ اللَّهُ حُبْسَةَ لِسَانِهِ عَنِ الكَلَامِ آيَةً عَلَى الوَقْتِ الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَ مَا لَهُ مِنَ القُوَّةِ فِي أَعْصَابِ الكَلَامِ المُتَّصِلَةِ بِالدِّمَاغِ إِلَى أَعْصَابِ التَّنَاسُلِ بِحِكْمَةٍ عَجِيبَةٍ يَقْرُبُ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ الإِحْسَاسِ لِمَنْ يَأْكُلُ البَلَاذِرَ لِقُوَّةِ الفِكْرِ. أَوْ أَمَرَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الكَلَامِ مَعَ النَّاسِ إِعَانَةً عَلَى انْصِرَافِ القُوَّةِ مِنَ المَنْطِقِ إِلَى التَّنَاسُلِ، أَيْ: مَتَى تَمَّتْ ثَلَاثَةُ الأَيَّامِ كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ ابْتِدَاءِ الحَمْلِ»(5). وأيا كان، فالرمز مُعين له على التواصل مع الناس وإبلاغ المقصود.

الزاي

 [10] زيغ البصر: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الرعب والذعر: قال الله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب: 10]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَ(الزَّيْغُ): المَيْلُ عَنِ الاسْتِوَاءِ إِلَى الِانْحِرَافِ. فَزَيْغُ البَصَرِ أَنْ لَا يَرَى مَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ أَنْ يُرِيدَ التَّوَجُّهَ إِلَى صَوْبٍ فَيَقَعَ إِلَى صَوْبٍ آخَرَ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ وَالِانْذِعَارِ»(6)، وذلك لأن رعبه وذعره يحول بين استقامة النظر واستوائه.

ومنه قوله تعالى: (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ) [سورة ص: 63].

وإذا كان زيغ البصر في الآيتين السابقتين قد ورد في سياق الذم فقد ورد في قوله تعالى: (مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم: 17] في سياق المدح للرسول صلى الله عليه وسلم إذ نفى عنه الله تعالى زيغ البصر ليلة الإسراء والمعراج، فقد كان صلى الله عليه وسلم ثابت البصر غير خائف ولا مذعور سليما مما يعتري الخلائق عند رؤيتهم ما يَرُوعُهُمْ في مشاهد غير مألوفة كمشهد الإسراء والمعراج.

[11] ازدراء العين: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- التحقير والاشمئزاز: قال الله تعالى: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [هود: 31]، قال الدكتور محمد الأمين أحمد موسى: «ازدراء العين نظرها بكيفية تنم عن التحقير وتقليل الشأن، كأن ينظر المرء من أعلى إلى أسفل ليدلل على وضاعة المرئي أو ينظر من التفاتة بطيئة مع تعبير وجهي يدل على الاشمئزاز. قال تعالى في الآية 31 من سورة هود: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)»(7). وليس من سمات المؤمن النظر إلى الآخر نظرة تنم عن التحقير، وقد وردت في القرآن في سياق ذم.

الضاد

[12] الضرب بالأرجل: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- جلب الانتباه: قال الله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ إِذَا لَبِسْنَ الخَلْخَالَ ضَرَبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ فِي المَشْيِ بِشِدَّةٍ لِتُسْمَعَ قَعْقَعَةُ الخَلَاخِلِ غَنَجًا وَتَبَاهِيًا بِالحُسْنِ، فَنُهِينَ عَنْ ذَلِكَ مَعَ النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ»(8).

إن الحركة الجسدية التي جاءت في هذه الآية تحمل دلالة جلب الانتباه، فقيام المرأة بضرب الأرض لتحريك خلخالها مع صدور صوت من هذا الخلخال فيه تنبيه من هذه المرأة لمن حولها أَنِ انْظُرُوا إليّ، فهي وإن لم تتكلم بلسانها، إلا أنها أوصلت مرادها من خلال صوت خلخالها، وهذا الفعل من أفعال الجاهلية التي حرمها الإسلام، لما فيه من خطر وإشاعة للفاحشة وإيقاظ للشهوة لدى الرجال(9).

الغين

[13] الغمز: «الإشارة بالعين والحاجب والجفن»(10)، ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- التنبيه: قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطففين: 29- 30]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَيُطْلَقُ الغَمْزُ عَلَى تَحْرِيكِ الطَّرْفِ لِقَصْدِ تَنْبِيهِ النَّاظِرِ لِمَا عَسَى أَنْ يَفُوتَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ فِي المَقَامِ»(11)، وقد فسر الدكتور محمد الأمين أحمد موسى هذا السلوك الإشاري بقوله: «وهو سلوك إيمائي رامز تقوم به العين لتوصيل رسالة كاملة لا تحتاج إلى الكلام. وقد ورد الغمز في الآية 30 من سورة المطففين في وصف سلوكات المشركين تجاه المؤمنين: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ). وقد ورد التغامز على صيغة التفاعل، مما يدل على أنه سلوك متبادل بين المشركين يستخدمون فيه إشارات متداولة ومفهومة من لدنهم»(12). والمراد به الاستهزاء والسخرية، وقد ورد في سياق الذم.

القاف

[14] قَصْر الطرف: ومن دلالات هذه الإشارة في القرآن الكريم:

1- الحياء والعفة: قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [الصافات: 48]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «و(قاصِراتُ الطَّرْفِ) أَيْ: حَابِسَاتُ أَنْظَارِهِنَّ حَيَاءً وَغُنْجًا»(13)، ومنه قوله تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ) [ص: 52]، وقوله تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن: 56]، وهي هيئة المرأة الحيية العفيفة التي تقصر نظرها على زوجها ولا تتجاوزه إلى غيره، وهذه صفة امرأة الجنة، وكلها واردة في سياق ذكر جزاء المؤمنين في الجنة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- لغة الجسد في القرآن الكريم ص: 75.

2- التحرير والتنوير 29/195- 196.

3- لغة الجسد في القرآن الكريم ص: 76.

4- الرمز ودلالته الإيحائية في القرآن الكريم ص:390، بحث منشور ضمن مجلة واسط العراقية للدكتورة سعاد بديع مطير.

5- التحرير والتنوير 3/243.

6- التحرير والتنوير 21/280.

7- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 215.

8- التحرير والتنوير 18/213.

9- لغة الجسد في القرآن الكريم ص: 82.

10- لسان العرب 11/83.

11- التحرير والتنوير 30/211.

12- الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم ص: 230.

13- التحرير والتنوير 23/114.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق