مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«معجم الهيآت والإشارات والرموز في القرآن الكريم من خلال تفسير «التحرير والتنوير» للإمام الطاهر ابن عاشور» (الحلقة الثامنة عشرة)

[47] المشي الهون: ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- التواضع: قال الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «وَ(المَشْيُ الهَوْنُ): هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ضَرْبٌ بِالأَقْدَامِ وَخَفْقُ النِّعَالِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَشْيِ المُتَجَبِّرِينَ المُعْجَبِينَ بِنُفُوسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. وَهَذَا الهون ناشئ عَنِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ النَّفْسِ العَالِيَةِ وَزَوَالِ بَطَرِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ المِشْيَةُ مِنْ خِلَالِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الضِّدِّ مِنْ مَشْيِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ البَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»»(1). وهذه الهيئة هي ضد مشية المارح، لما يظهر فيها من التواضع وعدم الكبر والإعجاب بالنفس.

[48] مُصَاعَرَةُ الخَدِّ: من دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الاحتقار: قال الله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «يُقَالُ: صَاعَرَ وَصَعَّرَ، إِذَا أَمَالَ عُنُقَهُ إِلَى جَانِبٍ لِيُعْرِضَ عَنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّعَرِ بِالتَّحْرِيكِ لِدَاءٍ يُصِيبُ البَعِيرَ فَيَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ فَكَأَنَّهُ صِيغَ لَهُ صِيغَةَ تَكَلُّفٍ بِمَعْنَى تَكَلُّفِ إِظْهَارِ الصَّعَرِ «وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلِاحْتِقَارِ؛ لِأَنَّ مُصَاعَرَةَ الخَدِّ هَيْئَةُ المُحْتَقِرِ المُسْتَخِفِّ فِي غَالِبِ الأَحْوَالِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيُّ يُخَاطِبُ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ:

وَكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ*** أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا»(2)

فالذي يحتقر شخصا يُعرِض عنه بجانبه استخفافا به، وهي ليست من صفات المؤمنين، وإنما من صفات الجاهلين، ولذلك نهى الله تعالى عنها على لسان لقمان الحكيم.

[49] مشي المطيطاء: من دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الإعجاب بالنفس: قال الله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) [القيامة: 31- 32- 33]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «و(يَتَمَطَّى): يَمْشِي المُطَيْطَاءَ (بِضَمِّ المِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ طَاءٌ مَقْصُورَةٌ وَمَمْدُودَةٌ) وَهِيَ التَّبَخْتُرُ. وَأَصْلُ يَتَمَطَّى: يَتَمَطَّطُ، أَيْ: يَتَمَدَّدُ؛ لِأَنَّ المُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطَاهُ، وَهِيَ مِشْيَةُ المُعْجَبِ بِنَفْسِهِ»(3). وهي من صفات الجاهلين الكافرين، وقد جاءت في سياق ذم في القرآن الكريم، والمؤمن لا يعجب بنفسه، وإنما صفة المؤمن الحق: التواضعُ.

[50] المشي على استحياء: من دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الخفر والحياء: قال الله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص: 25]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «وَالمَعْنَى: أَنَّهَا مُسْتَحْيِيَةٌ فِي مَشْيِهَا، أَيْ: تَمْشِي غَيْرَ مُتَبَخْتِرَةٍ وَلَا مُتَثَنِّيَةٍ وَلَا مُظْهِرَةٍ زِينَةً»(4)، والحياء من سمات المرأة المسلمة، سواء في مشيها أو لباسها أو كلامها، وفي جميع معاملاتها.

النون

[51] النظر من طرف خفي: ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الذل والخشوع: قال الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) [الشورى: 45]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «وَجُمْلَةُ: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) فِي مَوْضِعِ الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ «خاشِعِينَ»؛ لِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ حَالَةٌ لِلْخَاشِعِ الذَّلِيلِ، وَالمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا تَصْوِيرُ حَالَتِهِمُ الفَظِيعَةِ […] وَ(الطَّرْفُ): أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ تَحْرِيكُ جَفْنِ العَيْنِ، يُقَالُ: طَرَفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، أَيْ: حَرَّكَ جَفْنَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى العَيْنِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، قَالَ تَعَالَى: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إِبْرَاهِيم: 43]. وَوَصْفُهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِـ(خَفِيٍّ) يَقْتَضِي أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ حَرَكَةُ العَيْنِ، أَيْ: يَنْظُرُونَ نَظَرًا خَفِيًّا، أَيْ: لَا حِدَّةَ لَهُ، فَهُوَ كَمُسَارَقَةِ النَّظَرِ، وَذَلِكَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ العَذَابِ، فَهُمْ يُحْجِمُونَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ لِلرَّوْعِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ مِنْهَا، وَيَبْعَثُهُمْ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَنْ يَتَطَلَّعُوا لِمَا يُسَاقُونَ إِلَيْهِ كَحَالِ الهَارِبِ الخَائِفِ مِمَّنْ يَتْبَعُهُ، فَتَرَاهُ يُمْعِنُ فِي الجَرْيِ وَيَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ الفَيْنَةَ بَعْدَ الفَيْنَةِ لِيَنْظُرَ هَلِ اقْتَرَبَ مِنْهُ الَّذِي يَجْرِي وَرَاءَهُ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الِالْتِفَاتَةِ أَفَاتَ خُطْوَاتٍ مِنْ جَرْيِهِ، لَكِنَّ حُبَّ الِاطِّلَاعِ يُغَالِبُهُ»(5). وما أبلغ كلام الإمام في وصف هذه الهيئة التي وردت في سياق وصف الحالة الفظيعة التي سيكون عليها أهل النار يوم القيامة، يوم يعرضون على النار وهي جزاؤهم!

[52] نضارة الوجوه ونعومتها: ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- النعيم والسعادة: قال الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22- 23]؛ قال الطاهر ابن عاشور: «فَالوُجُوهُ النَّاضِرَةُ المَوْصُوفَةُ بِالنَّضْرَةِ (بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الضَّادِ) وَهِيَ حُسْنُ الوَجْهِ مِنْ أَثَرِ النِّعْمَةِ وَالْفَرَحِ، وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَفَرِحَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: نَاضِرٌ وَنَضِيرٌ وَنَضِرٌ، وَكُنِّيَ بِنَضْرَةِ الوُجُوهِ عَنْ فَرَحِ أَصْحَابِهَا وَنَعِيمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين: 24]؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ»(6). كالفرح والسرور والغضب، وقد مر معنا آنفا أن سواد الوجه دال على الغضب والكآبة، وهكذا كل الانفعالات النفسية.

ومنه قوله تعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين: 24]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَالنَّضْرَةُ: البَهْجَةُ وَالحُسْنُ، وَإِضَافَةُ »نَضْرَةَ« إِلَى النَّعِيمِ مِنْ إِضَافَةِ المُسَبَّبِ إِلَى السَّبَبِ، أَيِ النَّضْرَةُ وَالبَهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ لِوَجْهِ المَسْرُورِ الرَّاضِي إِذْ تَبْدُو عَلَى وَجْهِهِ مَلَامِحُ السُّرُورِ»(7).

ومنه قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [الغاشية: 8- 9- 10]، قال الطاهر ابن عاشور: «و(ناعِمَةٌ): خَبَرٌ عَنْ (وُجُوهٌ)، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ «نَعُمَ» بِضَمِّ العَيْنِ «يَنْعُمُ» بِضَمِّهَا الَّذِي مَصْدَرُهُ «نُعُومَةٌ»، وَهِيَ اللِّينُ وَبَهْجَةُ المَرْأَى وَحُسْنُ المَنْظَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ «نَعِمَ بِكَسْرِ» العَيْنِ «يَنْعَمُ» مِثْلَ حَذِرَ، إِذَا كَانَ ذَا نِعْمَةٍ، أَيْ: حَسَنَ العَيْشِ وَالتَّرَفِ»(8).

والوجوه الناعمة هي وجوه أهل الجنة التي رضِيَت نفسُها بنعيم العيش وحسنه في الجنة، وسُرَّت بذلك، فأثرُ النعيم يظهرُ على وجوهها.

[53] النكوص: ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الإعراض: قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) [الأنفال: 48]، قال الطاهر ابن عاشور: «ونَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ: رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ»(9).

ومنه قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) [المومنون: 66]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَ(النُّكُوصُ): الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ أَتَى، وَهُوَ الفِرَارُ. وَالأَعْقَابُ: مُؤَخَّرُ الأَرْجُلِ. وَالنُّكُوصُ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ»(10).

والأول إعراض حقيقي، وهو إعراض عن القتال بالفرار، والثاني إعراض تمثيلي، وهو إعراض عن سماع آيات الله تعالى والامتثال لما فيها من أوامرَ ونواهٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- التحرير والتنوير 19/68.

2- التحرير والتنوير 21/166.

3- التحرير والتنوير 29/362.

4- التحرير والتنوير 20/103.

5- التحرير والتنوير 25/127.

6- التحرير والتنوير 29/353.

7- التحرير والتنوير 30/205.

8- التحرير والتنوير 30/299.

9- التحرير والتنوير 10/36.

10- التحرير والتنوير 18/85.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق