مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

معارضة خبر الآحاد لعمل أهل المدينة وأثر ذلك في اختلاف الفقهاء 1

الدكتور عبد الحق يدير

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس سايس

          عمل أهل المدينة أصل من أصول مذهب مالك رحمه الله، انفرد به عن غيره من أئمة الفقهاء، وهو عنده في المرتبة الرابعة بعد القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع: الأدلة الأصلية لمصادر الأحكام.[1]

وعمل أهل المدينة كما يقول الحجوي الثعالبي رحمه الله: “إذا جرى في المسألة واتفق عليه علماؤها، يقول مالك بحجيته وتقديمه على القياس بل الحديث الصحيح، بل عمل جمهورهم يحتج به ويقدمه على خبر الواحد لأنه عنده أقوى منه، إذ عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد …”[2]

ومن الأسباب التي دعت مالكا رضي الله عنه وأصحابه من بعده –إضافة إلى ما ذكره الحجوي- إلى الاعتداد بهذا الأصل واعتباره حجة شرعية ودليلا من أدلة الأحكام ما ثبت من آثار في فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالبركة، وما اختصت به من علم وإيمان وسنة وقرآن، وأنها دار الهجرة، ودار النصرة، ومستقر الإسلام، ومهبط الوحي، ومحل سكنى النبي صلى الله عليه وسلم، وموضع قبره، ومجمع الصحابة، وأن أهلها أعلم بالأحكام ممن سواهم، وهم شهداء آخر العمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرف بالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول وموارد الأحاديث.[3] هذا من جهة الإجمال.

وأما من جهة التفصيل؛ فمن الآثار الواردة في فضل المدينة والدعاء لها ولأهلها ما رواه مالك وغيره عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللهم بارك في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومدهم”[4]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه”.[5]

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة”.[6]

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع[7] طيبها”.[8]

وفي حديث أبي هريرة: “تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد”[9]

وفي رواية أخرى عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال”[10]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يأرز الإيمان إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها”.[11]

وقد فسر أبو مصعب الزهري (ت242هـ) هذا الحديث بقوله: “والله ما يأرز إلا إلى أهله الذين يقومون به، ويشرعون شرائعه، ويعرفون تأويله، ويقومون بأحكامه. وما ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحا للأرض والدور، وما ذاك إلا مدحا لأهلها، وتنبيها على أن ذاك باق فيهم، زائل عن غيرهم حين يرفع العلم، فيتخذ الناس رؤساء جهالا، فيُسألون فيقولون بغير علم فيَضلون ويُضلون”.[12]

 

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص322 وما يليها.

 


[1] – انظر المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية ص114 للدكتور عمر سليمان الأشقر، وكتاب العرف والعمل في المذهب المالكي لعمر الجيدي ص271.

[2] – انظر الفكر السامي 2/388.

[3] – انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/600-601.

[4] – رواه مالك في الموطأ في الجامع باب الدعاء للمدينة وأهلها، واللفظ له ولمسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.

[5] – نفسه.

[6] – رواه مسلم في كتاب الحج باب الترغيب في سكنى المدينة وفضل الصبر على لأوائها وشدتها، ومالك في الموطأ في الجامع باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، والترمذي في كتاب المناقب باب في فضل المدينة.

[7] – ينصع –وفي رواية الترمذي –تُنَصّع- أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، ومنه قولهم: ناصع اللون أي صافيه وخالصه ومعنى الحديث: أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه ويبقى فيها من خلص إيمانه (انظر شرح صحيح مسلم: 9/165)

[8] – رواه مالك في الموطأ في كتاب الجامع باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، والبخاري في كتاب الأحكام باب بيعة الأعراب، ومسلم في كتاب الحج باب المدينة تنفي خبثها وتسمى طابه وطيبة والترمذي في كتاب المناقب باب في فضل المدينة، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[9] – نفسه.

[10] – رواه مالك في موطئه في الجامع باب ما جاء في وباء المدينة، والبخاري في كتاب الفتن باب لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم في كتاب الحج باب صيانة من دخول الطاعون والدجال إليها.

[11] – انظر ترتيب المدارك للقاضي عياض: 1/37، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي.

[12] – انظر المصدر السابق: 1/37-38-39.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق