مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي نماذج مختارة من سورة البقرة: الآيات من «260-265» أنموذجا الحلقة 6

إن التماسك والانسجام في القرآن الكريم مبني على نظم متميز تآلفت وانتظمت درره وتناسبت عناصره، فهو نظم متناسب في معانيه ومبانيه، وفي هذا الشأن يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني «تأمَّلوه سُورةً سورةً، وعَشْراً عَشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة يَنْبو بها مكانُها، ولفظةً يُنكرُ شانُها، أو يُرى أنَّ غيَرها أصلحُ هناك أو أشْبَه، أو أحرى وأخْلَق، بل وجدُوا اتِّساقاً بَهرَ العُقولَ، وأعجزَ الجمهورَ، ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً…» [1] وهذا ما نلمسه  في سورة البقرة، فهي أنموذج من الآيات المجتمعة التي التأمت فيها سلسلة متآلفة؛ تتعانق فيها الجمل والكلمات والحروف، فتشترك الآيات فيها على جملة من الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء السورة بعضها ببعض، وعليه جاء هذا العرض ليضع اليد  على الآيات «260-265» من سورة البقرة، للكشف عن أدوات اتساقها وطبيعة نظامها اللغوي، للوصول إلى مضامينها ودلالاتها، فقد جمعت السورة بضعا وثمانين ومائتي آية، واشتملت من أسباب نزولها نيفا وثمانين نجما، وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددا، وتشترك السورة وباقي سور القرآن كله في الاشتمال على جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء السورة الكريمة بعضها ببعض، وفي كل قطعة من قطع السور أسباب ممدودة في شبكة من العلائق المحكمة النسج،[2] قال الإمام الرازي في سورة البقرة «وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي لَطَائِفِ نَظْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي بَدَائِعِ تَرْتِيبِهَا عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِ وَنَظْمِ آيَاتِهِ»[3].

 وهنا سنقف على دراسة اتساق هذا المقطع القرآني والذي سنذكر فيه أهم أدواته بوضع هذه الآيات على محك التجربة والتطبيق، يقول عز وجل:

– «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم»[البقرة:261]«الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون »[البقرة:262]«قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيم»[البقرة:263]«ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين »[البقرة:264]

«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [البقرة:265]

– أدوات الربط التي أسهمت في تماسك الآيات وتعالقها:

في البداية لابد أن  نميز بين مفهوم الربط، ومفهوم أداة الربط، ذلك أن مفهوم الربط أكثر اتساعا من مفهوم أداة الربط، ومن هنا ينبغي أن نفرق بين الربط باعتباره ظاهرة تركيبية، وبين أداة الربط التي هي أداته المادية، فالربط قرينة من القرائن اللفظية التي تعمل على وصل أحد الطرفين بالآخر، على أن يكون الطرفان مركبين محوريين من النوع نفسه، والربط ظاهرة تصيب التراكيب اللغوية فلا تقل أهمية عن التضام أو الرتبة في سبك الجملة سبكا سليما، وفي صياغة أجزائها صياغة يحسن السكوت عليها، فبناء النظام النحوي للجملة يتم من خلال إدراك كامل أجزائها، والولوج إلى قانونها الداخلي العميق الذي ينظم تفاعل أجزائها، ومن هنا كان من الضروري لنمط الجملة أن يشتمل على قرائن تحفظ المعنى، وتعمل على إنعاش الذاكرة بوساطة إحدى الوسائل التي تعين على الوصول إلى هذه الغاية؛ فالربط إذن هو الحلقة الوسطى بين الارتباط والانفصال [4] وأما أداة الربط؛ فهي العلامة المورفولوجية التي تشيد العلاقة النحوية السياقية بين المعاني، فالرابط حرف أو ضمير يربط بين أمرين، أو هو العلاقة التي تصل شيئين ببعضهما البعض، وتعين كون اللاحق منهما متعلقا بسابقه، وقد يسمى الرابط بالعائد وذلك في الموصول، ولا ينحصر الرابط في موضع دون آخر، بل في مواضع متعددة، كما لا يرد الرابط على هيئة دون أخرى، فقد يكون الرابط ضميرا، وقد يكون بحرف الواو، وقد تكون الفاء رابطا، وكذا إذا الفجائية في مجال الشرط [5]

وفي ضوء هذه المعطيات يسهل علينا تتبع عمل أدوات الربط داخل النص القرآني وبيان دورها في الربط بين جمله وآياته، وكذا أثرها في نمو دلالاته، وتوضيح الدور الترابطي الذي تؤديه الحروف، ويعضد هذا القول ما جاء في كتاب سيبويه في معرض حديثه عن الحروف، وما تحمله من معاني، حيث يقول:«اعلم أن الواو ينتصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، وأنها قد تشرك بين الأول والآخر كما تشرك الفاء…»[6] وفي هذا القول يعبر سيبويه عن خاصية الربط التي يقوم بها حرفا الواو والفاء بالتشريك، لأن العطف بحرف الواو مثلا، ما هو إلا تشريك بين أجزاء الكلام، كذلك التفت المبرد في كتابه المقتضب إلى قضية الربط، وإن لم يفرد بابا للحديث عن الروابط، إلا أنه تحدث عن الدور الرابطي للحروف في مواضعها، فمثلا في باب حروف العطف ومعانيها تحدث عن دور هذه الحروف في الربط بين أجزاء الكلام، وفي حديثه عن معاني هذه الحروف فهو بذلك يتحدث عن علاقات الربط التي تفرزها الحروف الرابطة بقوله:«فَمِنْهَا «الْوَاو» وَمَعْنَاهَا إشراك الثانى فِيمَا دخل فِيهِ الأول وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيل على أَيهمَا كَانَ أَولا»[7] ويعني بالإشراك هنا الربط بين جزأين بإشراكهما في حكم واحد يكون من خلال حرف العطف الواو،كما أدرك أبو بكر بن السراج قيمة الربط، حيث تحدث عن العطف بالحروف  وما تقوم به من ربط وتشريك بين أجزاء الجملة، ففي باب العطف بالحروف يقول:«الواو ومعناها إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول وليس فيها دليل على أيهما كان أولًا»[8] ويلاحظ من خلال الآيات التي ذكرناها أن حرف العطف«الواو» تكرر بشكل ملحوظ في النص القرآني برمته، بل إنه يتكرر مرات عديدة في الآية الواحدة، ومن ثم فقد لعبت الواو دورا أساسيا في الربط بين مكونات النص وأجزائه، ففائدة العطف هنا هي وصل الكلام بعضه ببعض والإشراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، والدخول معه في المعنى حتى يكون النص وحدة كبرى، وتجدر الإشارة هنا إلى أن حرف«الواو» يختلف عن باقي حروف العطف الأخرى بحيث إن هذه الأخيرة«تفيد مع الإشراك معاني: مثل أن «الفاء» توجب الترتيب من غير تراخ و«ثم» توجبه مع تراخ و«أو» تردد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه، لكن الواو وليس للواو معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت الثاني الأول، فإذا قلت«جاءني زيد وعمرو» لم تفد بالواو شيئا أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبته لزيد والجمع بينه وبينه، ولا يُتَصوَّرُ إشراكٌ بينَ شيئين حتَّى يكونَ هناك معنى يقعُ ذلك الإِشراكُ فيه»[9]

وهنا سننطلق مما أشار إليه البقاعي بقوله «لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سبقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعدمن المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغة شفاء العليل يدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية، في كل سورة سورة».[10] كما أشار الإمام فخر الدين الرازي إلى أن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط [11]

 فما هي إذن أدوات الربط التي ساهمت في تماسك هذه الآيات وتعالقها؟

نقترح أن نورد أولا جميع أدوات الربط الموجودة في الآيات في جدول توضيحي:

أداة الربط عدد المرات الآية
«مثل» 6 مرات 261-264-265

حرف «الواو»

14 مرة من الآية 261-265
الاسم الموصول «الذي» 4 مرات 261-262-264-265
ثم مرة واحدة 262
حرف «الفاء» ست مرات

264-265

وعلى ضوء هذه التفاصيل يسهل علينا تتبع عمل أدوات الربط داخل النص القرآني وبيان دورها في الربط بين جمله وآياته وكذا أثرها في نمو دلالاته، فالآية الأولى استهلت بأداة من أدوات التمثيل«مثل» إذ مثل تعالى حال المنفقين في سبيله بالحبة التي أنبتت سبع سنابل بحيث مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة، والمنبت هو اللَّه، ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء، ومعنى إنباتها سبع سنابل، أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب، لكل واحدة سنبلة وهذا التمثيل تصوير للإضعاف» [12] وفي هذه الآية قد تم الربط بواسطة الأداتين«مثل»و«كمثل»وهذا النوع يعد وصل إضافي؛ الذي فيه يتم الربط بواسطة أدوات الربط منها«و»و «أو» وتندرج ضمن المقولة العامة للوصل الإضافي علاقات أخرى مثل التماثل الدلالي المتحقق في الربط بين الجمل. [13]

وقد اتصلت هذه الجملة بالتي بعدها«والله يضاعف لمن يشاء» عن طريق واو العطف وكذلك الأمر بالنسبة للجملة التالية«والله واسع عليم» فقد  اتسقت أجزاء هذه الآية بواسطة حرف العطف«الواو» الذي ساهم في وصل جملها، كما اتصلت هذه الآية بآية«الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون »[البقرة:262]» عن طريق الاسم الموصول«الذين» العائد على فئة المؤمنين عامة، والمنفقين في سبيل الله خاصة، حيث بين جل شأنه الإنفاق في سبيله بأن قال:«ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى» وتفيد «ثم» من الناحية الدلالية إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق، [14] ويقصد بالمن«أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه»والأذى: «أن يتطاول عليه بسبب ما أزال إليه»  [15] وقد جمع التعبير بينهما بواسطة الواو للدلالة على أن الأمرين كليهما يبطل المنفق ويحول بينه وبين مرضاة الله، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك كهذه الآية، وحاصله: أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وعنده فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها: وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها، وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلي تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخى زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى «ثُمَّ اسْتَقامُوا»أي داموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وكذلك قوله:«ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً»أي يدومون على تناسى الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان.[16] ويبدو أن هذه الآية وقعت مفصولة عن آية««قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيم»[البقرة:263] والفصل هنا لا يعني تفكك الخطاب وإنما تلاحمه واتساقه بحيث ارتبطت هذه الآية بالأولى ارتباطا على سبيل الإيضاح والبيان.[17]

وقد زاد التعبير القرآني الأمر بيانا وإيضاحا بأن دعا المؤمنين إلى عدم إبطال صدقاتهم بالمن والأذى كما هو الحال بالنسبة لمن ينفق ماله رياء الناس إذ يقول:««ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين »[البقرة:264]» وقد  اتسقت أجزاء هذه الآية عن طريق ثلاثة عناصر أساسية؛ فأما الأول فهو كاف«كالذي» التي لعبت دور الربط بين الجملتين من جهة، ومن جهة ثانية يجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال: أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق، فإن قلت: كيف قال: «لا يَقْدِرُونَ» بعد قوله: «كَالَّذِي يُنْفِقُ»؟ قلت: أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان، فكأنه قيل: كمن ينفق، [18] في حين يتجلى العنصر الثاني في أداة التمثيل«مثله، كمثل» لما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال: «فمثله» في إنفاقه مقارناً لما يفسده [19]، أما العنصر الثالث فهو «الفاء» «فأصابه وابل فتركه صلدا» ومعلوم أن الفاء توجب الترتب من غير تراخ، ومن ثم فقد وظفت لربط الصلة بين أجزاء هذا المشهد الذي يصور النفقة التي لا ينتفع بها البتة، بصفوان: بحجر أملس عليه تراب وأصابه مطر عظيم القطر، فتركه صلدا:  أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه [20] ومن جهة ثانية فقد وظفت «الفاء» للدلالة على السرعة في وقوع الحدث أو الترتب السريع للنتيجة، فربطت بين أزواج من الأحداث يعقب منها الثاني الأول ويفصله عنه مدى قصير جدا،  ويسمى هذا النوع من الربط بالربط الخطي التتابعي الذكري؛ والخطي هنا يعني التتابع في الزمان، وهو ربط بين الأحداث أو الحركات حسب تعاقبها على محور الزمن؛ حيث يوافق سرد الأحداث في النص تتاليها الكرونولوجي في الزمن الحقيقي.[21] وبهذا تبين لنا بأن أحداث هذه الآية جاءت على النحو الآتي:

وهكذا يستمر التماسك والربط بين الآيات لتحقيق التلاحم والاتساق بين الأجزاء حيث يمضي التعبير القرآني في ذكر الآيات وإحكام العلاقات بينها، وربط العناصر اللاحقة بعضها ببعض وتعلقها بالسابقة لها، كما أن أدوات الربط في هذه الآية لا يتوقف دورها عند الربط بين الكلمات المتجاورة، بل يتعداه إلى الربط بين الجمل والعبارات لتحقيق الاتساق النصي،كما أنها تساعد في حفظ الصلة بين أجزاء التركيب وبناء المعنى الذي تروم الآية التعبير عنه في الكشف عن اتساق النص .

الآليات البلاغية الموظفة في المقطع القرآني ودورها في تحقيق انسجام الآيات:

ففي قوله تعالى:«مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون »[البقرة:261-262] تشبيه تمثيلي، وتشبيه التمثيل هو تشبيه يقوم على التعدد في وجه الشبه، فهو تشبيه مركب بمركب، وكل طرف هيأة حاصلة من أمور يحسن تشبيه كل جزء من أجزاء أحد الطرفين بما يقابله من الطرف الآخر، ويقتضي التعدد فيه طولا في التركيب قصد استيفاء العناصر المكونة للصورة [22]،  فقد شبه نفقة المنفقين في سبيل الله بالحبة في مضاعفة الأجر، فهي عندما يغرسها الغارس تنبت ساقا يتشعب منه سبع شعب، لكل واحد سنبلة، وفيه تجسيد بديع بعقد المماثلة بين المشبه والمشبه به، والغرض من التشبيه هنا توضيح المعنى وتقريبه للأذهان أولا،  ثم تأييده بالدليل المحسوس الذي لا يكابر فيه المكابر، ولا يتعنث فيه المتعنث ثانيا، ثم تزيين المشبه وتجميله، وإلهاب الرغبة فيه، بحيث لا يتردد أحد في الإنفاق بعد أن رأى بعينه سلفا ما أعد له من جزاء ثالثا. [23]

وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم، بحال حبة أنبتت سبع سنابل زرعت في أرض نقية وتراب طيب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل، وحذف ذلك كله إيجازا لظهور أن الحبة لا تنبت ذلك إلا كذلك، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس والمشبه به هيأة معلومة، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبة، لأن تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها[24] قال الزمخشري: «ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق»[25]؛ يعني أن «ثم» للترتيب الرتبي لا للمهلة الزمنية ترفيعا لرتبة ترك المن والأذى على رتبة الصدقة؛ لأن العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحب المحمدة، فالمهلة في «ثم» هنا مجازية؛ إذ شبه حصول الشيء المهم في عزة حصوله بحصول الشيء المتأخر  زمنه. [26]

وبين المشهدين شبه يتجسم في مظاهر كثيرة يمكن ملاحظتها في عنصرين؛ عنصر قريب يتمثل في المضاعفة، إذ يضاعف الله تعالى أجر المنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته بقدر الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه «ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره»[27] ، أما العنصر البعيد لتشبيه الإنفاق في سبيل الله بالحبة التي أنبتت سبع سنابل في كونه تصوير للخصوبة الماثلة في  قلوب المؤمنين؛ وهذه الكشوف التي تقرب الأشياء بعضها من بعض ترينا ألفة وترابطا، وتكشف لنا الجانب الخفي من أسرار الوجود وذلك هو جانب التلاؤم وعلاقات التشابه الكامنة في الأشياء ولمح خصائصها.

وفي قوله تعالى:«ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين »[البقرة:264]

ومن مزايا جماليات النص القرآني في هذه الآيات أنه انتقل  من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق، وهو الإنفاق على المحاويج من الناس، وهو الصدقات، ولم يتقدم ذكر للصدقة، إلا أنها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله [28] فالآية من الاحتباك؛ ولما كان الزارع على مثل هذا عجباً في الضلال والغباوة، وكان التقدير: فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين، عطف عليه معلماً أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد، ومهما شاء فعل. [29]  وقوله: «كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ» الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا، أي لا تكونوا في اتباع صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية، فالموصول من قوله:«كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ» مراد به جنس وليس مراد به معينا ولا واحدا، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي، والمعنى تشبيه بعض المتصدقين المسلمين الذين يتصدقون طلبا للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمن والأذى، بالمنفقين الكافرين الذين ينفقون أموالهم، لا يطلبون من إنفاقها إلا الرئاء والمدحة، إذ هم لا يتطلبون أجر الآخرة، ووجه الشبه عدم الانتفاع مما أعطوا بأزيد من شفاء ما في صدورهم من حب التطاول على الضعفاء وشفاء خلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة، ومثل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبه به، تمثيلا يسري إلى الذين يتبعون صدقاتهم بالمن والأذى بقوله: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ»  وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس، لأنه لما كان تمثيلا لحال المشبه به كان لا محالة تمثيلا لحال المشبه، وكاف التشبيه في قوله تعالى: «كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ» صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق، وحذف المضاف بين الكاف وبين اسم الموصول، والتقدير إنفاقا كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس، وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق ماله في سبيل الله بحبة أغَلَّتْ سبعمائة حبة، فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس، ووجه الشبه الأمل في حالة تَغُرُّ بالنفع ثم لا تلبث ألا تأتي لآمِلها بما أمله فخاب أمله، ذلك أن المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدق فيتبع صدقته بالمن والأذى اندفاعا مع خواطر خبيثة.[30]

كما ورد تشبيه تمثيلي ثان في قوله تعالى:«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير»[البقرة:265] فقد شبه إنفاق الأموال الخالص من الرياء في سبيل الله وابتغاء مرضاته بالبستان الوريف الظلال فوق ربوة عالية، يكفيها القليل من المطر لتربو، وتهتز، وتمرع، وتخصب [31] عطف «مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله» على «مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس»، لزيادة بيان ما بين مرتبتين من البون وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص، وتفننا في التمثيل، فإنه قد مثله فيما سلف بحبة أنبتت سبع سنابل، ومثله فيما سبق بتمثيل غير كثير التركيب لتحصل السرعة بتخيل مضاعفة الثواب، فلما مثل حال المنفق رئاء بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيل، فإن الأمثال تبهج السامع كلما كانت أكثر تركيبا، وضمنت الهيأة المشبه بها أحوالا حسنةتكسبها حسنا ليسري ذلك التحسين إلى المشبه، وهذا من جملة مقاصد التشبيه.[32]

فالتشبيه في قوله تعالى: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً »للمبالغة، يقول البقاعي: «ولما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال «فمثله» في إنفاقه مقارنا لما يفسده، ومثل نفقته «كمثل صفوان» وما زرع عليه وهي مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة.[33]

فالقرآن يشبه القلوب القائمة على الإيمان بالحياة، و يشبه القلوب القائمة على الكفر والنفاق بالموت، وهكذا يؤلف التعبير القرآني بين الصور المتباعدة، ويقرن بين المعاني المتعارضة، كما أن هذه التشبيهات فيها انسجاما على مستوى البناء الفني؛ بحيث قامت على الجمع بين مشهدين اثنين بهدف تصوير قلوب المنفقين في سبيل الله من جهة،  وقلوب المنفقين رياء الناس من جهة ثانية، بالاستناد  على مجموعة من العناصر المتجلية في السنبلة، الحبة، الوابل، الطل، الجنة… وفي معرض الحديث عن هذه التشبيهات يتبين لنا التناسق الدقيق الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه،  وصدق الأستاذ سيد قطب في كتابه «التصوير الفني في القرآن» عندما بين جمال الانسجام في النص القرآني في كونه جملة موحدة تقوم على قاعدة التناسق بقوله: «لقد كان القرآن جميلا في نفسي، نعم ولكن جماله كان أجزاء وتفاريق، أما اليوم فهو عندي جملة موحدة تقوم على قاعدة خاصة، قاعدة فيها من التناسق العجيب ما لم أكن أحلم من قبل به، وما لا أظن أحدا تصوره»[34] لذلك فالقرآن الكريم مترابط الدلالة نسيجه واحد، يرتبط أوله بآخره، ويفسر بعضه بعضا، لذا فإن آيات الإنفاق ليست منعزلة عن نسيج السورة بل هي خيط يرتبط بنسيج النص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1]دلائل الإعجاز في علم المعاني، عبد القاهر الجرجاني، تح: محمود محمد شاكر أبو فهر، مطبعة المدني بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1413هــ – 1992م، ص:39

[2]  في لسانيات النص وتحليل الخطاب نحو قراءة لسانية في البناء النصي للقرآن الكريم، بحث مقدم للمؤتمر الدولي لتطوير الدراسات القرآنية، الدكتور عبد الرحمن بودرع، ص:66، 6/4/1434هـ- 16/2/2013م

[3] مفاتيح الغيب،أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ7/106.

[4] نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية،مصطفى حميدة، المقدمة ص:1

[5] أنظر معجم المصطلحات النحوية والصرفية، محمد سمير نجيب اللبدي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1 ص:90.

[6] سيبويه، الكتاب، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة –الطبعة الثالثة 1408-هــ 1988م 3/41.

[7] المقتضب، المبرد أبو العباس محمد بن يزيد،تحقيق: محمد عبد الخالق عظيمة، عالم الكتب، بيروت 1/10.

[8]الأصول في  النحو،ابن السراج أبو بكر محمد بن سهل، تحقيق: عبد الحسين الفتلي، ط2مؤسسة الرسالةبيروت 2/55.

 [9] دلائل الإعجاز، ص: 224

[10] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 1/18.

[11] مفاتيح الغيب10/110.

[12] تفسير الكشاف 1/310

[13] لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي ص: 23.

[14]الكشاف، الزمخشري1/311.

[15]نفسه 1/311.

[16] نفسه  1/311.

[17]نفسه 1/312.

[18] نفسه1/312.

[19] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور،  إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبيبكر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة80/4.

[20] انظر فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب،شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي،تحقيق: إياد محمد الغوج،الناشر: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم،الطبعة: الأولى، 1434 هـ – 2013 م، 3/521.

[21] نسيج النص، الأزهر الزناد ص:46

[22] دروس في البلاغة العربية، الأزهر الزناد، ص: 25

[23] إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير، 3/350.

[24] التحرير والتنوير 3/41.

[25] الكشاف 1/311

[26] التحرير والتنوير 3/42

[27] في ظلال القرآن 3/306

 [28] التحرير والتنوير 3/43

[29] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 4/84

 [30] التحرير والتنوير 3/46-47-48

[31]إعراب القرآن الكريم وبيانه3/354.

[32] التحرير والتنوير 3/50

[33] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 4/80

 [34]«التصوير الفني في القرآن،سيد قطب، دار الشروق القاهرة شارع سيبويه المصري، مقدمة الكتاب ص:10»

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق