وحدة الإحياءدراسات عامة

مستقبل جامعة القرويين

في هذا الوقت بالذات الذي طغت فيه قضية التعليم وإصلاحه وتقويمه، والقيام بثورة فيه، شملت جميع مكونات الشعب المغربي وفئاته وهيئاته، كما وفقت العمادة في استقطاب هذه الصفوة من الأساتذة والعلماء والمفكرين لتنير لجامعتنا العتيدة، الطريق القويم، والمنهج السليم، الذي ينبغي أن تسير عليه، والذي يجمع بين أصالة الماضي، وطموح المستقبل، كي تستقبل جامعة القرويين القرن المقبل وهي أقوى كيانا، وأثبت عزيمة، وأقوم منهاجا.

ذلك لأن رسم المنهاج، وتوضيح المعالم، واستبيان الطريق الصحيح، يعتبر الخطوة الأساسية لكل إصلاح أو تقويم، كما تفعل الدول الواعية قبل كل شيء، تترك لعلمائها وأهل التربية والتخصص رسم المناهج الصحيحة، والبرامج القويمة لتعليمها وتربيتها، لتقوم الحكومة بعد ذلك بتطبيقها وتنفيذها، لإعداد الجيل الصالح، لبناء آمالنا في المستقبل. إن قضية إصلاح التعليم قضية وطنية مصيرية، وهي ليست مشكلة المغرب، وحده، بل هي مشكلة العالم الثالث كله، الذي أصبح التعليم فيه كمرقعة الدراويش، لاقتباسه من كل دولة ومنهاج، حتى أصبحت مناهجه ووسائله مختلفة متعارضة، تخرج حملة شهادات، وحفظة كتب ومقررات إلا من رحم الله.

وإذا كانت أعمار الأمم لا تقاس بالأعوام والسنين، وإنما تقاس بالأجيال والحقب، فما من بأس أن نعود إلى الصواب، فقد جربنا منذ الاستقلال، واجتهدنا حسب الظروف والأحوال، ولكن الأخطر أن نبقى كما نحن ننتقل من إصلاح إلى إصلاح، ومن منهج إلى آخر، مما لم يتحقق كثيرا، ولم يوجد نفعا، ناهيك وأن قضية إصلاح التعليم والتربية قضية تهم الأمة جمعاء، لتعلقه بمصير أجيالنا وشبابنا، ولكون الإصلاح أساس تقويم حاضرها، وضمان مستقبلها، ولهذا ينبغي أن يوكل إلى أهله فحسب، إلى رجال التربية والتعليم والمتخصصين منهم خاصة، والقائمين عليه، ولا بأس بعد أن يوضع منهج التعليم من طرف أهله، أن يعرض على أهل الحل والعقد، ليطلعوا عليه، وليبدوا الرأي والنظر فيه، وما فشل اللجنة الأخيرة عنا ببعيد كما أعلن صاحب الجلالة بنفسه.

كانت القرويين مناط الأمة على الدوام

لقد ظلت جامعة القرويين منذ إنشائها، المرآة الصادقة للمجتمع المغربي، تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، تقوى إذا قوي إيمان الناس، وصحت عزائمهم، وكثر طموحهم، وتضعف عندما يخبو إيمانهم، وينحسر طموحهم.

ومن هنا استمرت القرويين مناط اهتمام المغاربة ومراقبتهم على الدوام، ملوكا وعلماء وقادة، يرعونها بالغ الرعاية، ويعنون بها وبرجالاتها وطلبتها عظيم العناية، يراقبونها من قريب ومن بعيد، ويخصها الملوك بالزيارة والرقابة والرعاية، ويقدرون النابغين من علمائها وطلبتها، ويراجعون مناهجها وبرامجها، وقد سجل تاريخها تلك المبادرات الإصلاحية المستمرة، وتلك العناية الموصولة، وأحب أن أشير هنا إلى الإصلاح الذي بادر إلى القيام به في سنوات الاستقلال الأولى محمد الخامس رحمه الله، ثم الإصلاح الثاني الذي مسها في أول عهد جلالة الملك الحسن الثاني وقيام كلياتنا الأربع الجديدة[1].

المبادرات الدائمة لإصلاح القرويين

كما نلاحظ مبادرتين هامتين قام بهما مفكران جليلان، وعالمان نيران: هما الشيخ عبد الحي الكتاني، والفقيه محمد الحجوي، فقد رسم الشيخ عبد الحي في منطلق هذا القرن منهج إصلاح جامعة القرويين، وطريقة إحيائها، باعتبارها الجامعة الأولى في العالم الإسلامي، وأقدم مدرسة في الدنيا، وإحدى الجامعات الثلاث البارزات في الأمة الإسلامية، منطلقا من الإشارة إلى أهميتها، ودورها، ومركزها في إفريقيا والعالمين العربي والإسلامي، وما قدمته في الماضي، مما يدعو إلى العناية بها وإحيائها لتعود إلى مركزها الكبير مما جعلها محجا لطلبة العلوم، وعشاق الفنون الذين يدرسون فيها العلوم الدنيوية والدينية كما فصل في برنامجه لإصلاح العلوم التي كانت تدرس فيها، والتي ينبغي أن تعود إلى دراستها لتسترجع مكانتها العلمية العتيدة، ونادى بإصلاح جميع معالمها من أبواب، ومنارات، ومدارس الطلبة، وخزانتها، والزوايا المحيطة بها، ومجاناتها الأربع عشرة التي نالها البلى وعفى عليها القدر، واعتبر تجديدها وإصلاحها مقدمة واجبة لإصلاح مناهجها، وأساليب دراستها، مستدلا بالإصلاحات الهامة التي قام بها الملوك في مختلف الدول، وما سجله العلماء من محاسنها ومواقفها، موردا أقوالهم وتنويهاتهم، آخذا من عبر الماضي دليلا وأساسا، للدعوة الملحة إلى إحيائها، وإعادتها إلى مكان الصدارة في بلادنا كما كانت[2] مستدلا بأبيات شعرية رائعة منقوشة على جدرانها، وخاصة تحت قبة خاصة ماء الواد تحت الصومعة، كما عبر عنها بأنها ترمي إلى بديع الصنعة، وحكمة التطوير، وغريب الإبداع، مما هو فوق الوصف تقول القصيدة:

سـرح جفونـك كـي تــرى                    منـي جمــالا أزهــرا
أنا روض حسـن فائــق               بالأنـس أضحـى مثمـرا
ضربــت علــي قبــــة                      كالشمـــس تزهو منظـرا
في الجامــع القروي قــد               حـزت المقام الأكبـــرا
انظر شمائــل خصتـي                   مثـل النسيــم إذا ســـرى
[3]إن جئتـــها متعطـشـــا                    فاشــرب هنيـــئا كوثــرا

والمبادرة الثانية هي المحاضرة التي ألقاها الفقيه محمد الحجوي في المدرسة العليا سنة 1931، وخصصها لرسم منهج إصلاح جامعة القرويين، وضرورة عودتها إلى سالف مجدها، وقد أطلق صيحته في محاضرته قائلا: ” التعليم العربي بالقرويين وأمثالها من المعاهد الإسلامية، هو أول ما يجب على الأمة القيام به وإصلاحه، فإصلاحه صلاحها، وبقاؤه على فساده ذهابها، وقد تناول فيه:

  1. ضرورة تنظيم التدريس ليكون منتظما على الشكل النافع.
  2. وكذا انتقاء الكتب المفيدة، والانتهاء من كتب المتأخرين الشديدة الاختصار، المقفلة العبارة.
  3. وإصلاح كيفية التدريس ” كي لا يبقى قائما على الإملاء، والتلاميذ صموت كالأحجار”.
  4. وجوب تربية الملكة في التلاميذ بالتفهم والتدريب.

وقد رسم في هذه المحاضرة منهج العلوم التي ينبغي أن تدرس، وكذا الكتب التي ينبغي استبعادها، والكتب الواجب إحياؤها في التعليم وتدريسها، وتناول الكتب المقررة واحدا واحدا، داعيا إلى وجوب تهذيبها لتؤتي ثمارها، وصيرورة الفقه فقهين: فقه قديم، وعمليات.

ودعا في محاضرته إلى إحياء تعليم البنات، موردا الدليل الشرعي، حاثا الأمة إلى الإقبال على تعليم بناتها، لأنه هو الطريق الصحيح الذي ينبغي أن تسلكه الأمة، ضاربا بأمهات المؤمنين اللائي أمرهن الله أن يخبرن بما أنزل الله من القرآن في بيوتهن، وما يريد من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله حتى يعرف الناس ذلك فيعملوا به وقد ختم محاضرته بصيحته قائلا:

(فلتندبوا إخواني أمتكم إلى الإفاقة من هذا النوم الطويل، وأصلحوا التعليم وانصحوا تفلحوا، واعلموا أن الزمن قد تغيرت أحواله، وتراكمت أهواله، وصرنا مطالبين بعلوم كثيرة، وخاصة إحياء البقية الباقية من علوم لساننا وآدابنا وديننا، للحفاظ على هذه الأمانة التي أودعها الله في صدورنا، وبين أيدينا قبل أن تضيع…)[4].

الإصلاح المنشود لجامعة القرويين

عندما استقلت بلادنا اتجهنا إلى تأسيس تعليمنا العالي، وبناء جامعاتنا، لكن ذلك كان على حساب جامعة القرويين، الجامعة الأم للمغرب التي لم ينلها إصلاح جوهري حتى سنة 1963، وهي سنة تأسيس كلياتها الثلاث، غير أن هذا الإصلاح كرس التعليم المدني، مما همش القرويين، وحولها عن رتبتها وريادتها التاريخية، ناهيك وأنه ليس هناك مغربي واحد ينكر قيمة جامعة القرويين في حياة المغرب، وريادتها، وضرورة عودتها إلى صدارة جامعاتنا كلها، باعتبارها هويتنا ولساننا، وأؤكد هنا بأنه لولا جلالة الملك ورابطة علماء المغرب لما مسها إصلاح، كالذي تحقق سنة 1963، ولغدت مجموعة مدارس أو معاهد لا جدوى لها، من كثرة المعاول التي أصابتها، والمضايقات التي تعرضت لها، والحمد لله أنها بقيت صامدة ثابتة، تؤدي بعض رسالتها، وتعلن عن نفسها.

إن الإصلاح المنشود للقرويين هو الإصلاح الذي يقوم به أبناؤها الأكفاء، والذي سيعيدها إلى مكانتها الأولى لتكون بحق حفيدة القرويين الأم، القوية، العتيدة، الصامدة، المؤثرة في بلانا وأجيالنا، الفاعلة في حياتنا ومسيرتنا، المشعة علما وإيمانا على من حولنا من البلاد والأنحاء، الرابطة بيننا بروابط الإيمان والمعرفة وبين العالمين العربي والإسلامي وإفريقيا، وغيرهما، والتي ستعطي لبلادنا بعد إصلاحها وتقويتها جيلا مؤمنا عالما قويا، يحقق آمالنا في الصحوة الإسلامية والتقدم والنمو، ويعيد الاعتبار إلى أهلها، وإلى التعليم، جامعة تقضي على هذا الانفصام في حياتنا وفي مناهج جامعتنا بين التعليم المدني والديني، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الدين والحياة، فيتخرج منها المحامي، والمهندس، والطبيب، والجيولوجي، والفيزيائي، والفلكي، والعالم الذري، إلى جانب المفسر، والمحدث، والأصولي، والنظار، والأديب، والإعلامي، كما كان حالها أيام كانت جامعتنا الأولى، فهذا هو قدر جامعة القرويين، وهو قدر بلادنا الذي طبع حياتها الإسلام، وعاشت به منذ الفتح الإدريسي.

كانت القرويين جامعة بين علوم الدنيا والدين

إن سر خلود هذه الجامعة، وصمودها في وجه التحديات، واستمرارها قائمة حية، أنها تحملت الأمانة بقوة وعزم، وأخذت على نفسها تبليغ رسالة الإسلام، ورسالة الفكر، مما جعل أهل المغرب، والأقطار المحيطة بها، والقريبة منها، يلتفون حولها ويلوذون بحماها، ويجعلونها رائدهم في الحياة، ومرشدهم في دينهم ودنياهم[5].

ومما لاشك فيه أن حملها لهذه الأمانة جعلها تقاوم خلال تاريخها الطويل ثلاثة أخطار وتنجح في مقاومتها:

– هي محو اللغة العربية، وإحلال الفرنسية محلها.

-وتشويه الإسلام وإيهام ضعاف العقول بأن مبادئه تتنافى مع العلم والتطور.

– وثالثهما تمزيق وحدة الشعب عن طريق دعوات الإدماج والتجزئة في القضاء، أو تمزيق وحدة العرب والبربر[6].

ولقد تمكنت القرويين من ذلك بفضل مناهجها الجامعة بين علوم الدين والدنيا، وبفضل كفاءة علمائها الذين يتولون التدريس فيها، والذين تعدى إشعاعهم حدود المغرب العربي إلى الأندلس ومختلف البلاد الإفريقية والأوربية، كابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد[7]. لقد كانت مناهج الدراسة تشمل التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وعلوم العربية، إلى جانب التوقيت، والتنجيم، والتعديل، والطب، والفيزياء، والكيمياء، والحساب، والهندسة، والتاريخ، والجغرافية، فازدهرت بذلك كل تلك العلوم وخاصة الطب المغربي في عهد الموحدين، وكان جزء من الطب الأندلسي يعتمد على اللغة العربية في الطب على الدراسة الإغريقية الطبية، وكان أغلب الأطباء يتقنون اللاتينية كابن عبد الله الصقلي الذي كان يتكلم الإغريقية، ونبغ أطباء كبار اشتهروا في الشرق وأوربا، كقسطنطين التونسي الذي كان أبرز أطباء القرن الرابع الهجري، وترجم عشرات الكتب إلى اللاتينية، وتعلمت منه الجامعات الأوربية الكثير من نظرياته وكتبه[8] وكان من النابغين أيضا أبو العلاء ابن زهر العبقري الكبير، الذي وضع كتبا خالدة في الطب، واكتشف عدة علاجات لكثير من الأمراض، وبرز الأطباء المغاربة سواء في الجراحات أو في التمريض، وأقيمت أبرز المستشفيات والصيدليات، وكان علم الطب مشاعا بين طبقة من الفقهاء والمحدثين والأدباء، حتى  نجد الإمام السنوسي شارح البخاري له شرح على رجز ابن سينا في الطب، إلى جانب شرح كبير على الكوفية في الفرائض والحساب[9].

ودرس علم القرويين علم التنجيم والتوقيت والتعديل وبرزوا فيها، حتى انتشرت المراصد للنجوم في مراكش وفاس وغيرهما، ونشير هنا إلى مرصد فاس لمراقبة النجوم بباب “الجيسة” يسمى (برج الكواكب) كانت به نوافذ على عدد شهور السنة يراقب كل شهر بواحدة منها.

ويذكر “كلينار” الذي أقام بفاس في عهد السعديين سنة 1540 م في رسائله التي كتبها عن القرويين، والدراسة فيها، والعلوم التي تدرس فيها، أنها كانت تشمل جميع العلوم شرعية وأدبية وعلمية، وركز على براعتهم في علوم الطب والحساب والتنجيم وغيرها من جميع العلوم[10] مما جعل القرويين مركز العلم والمعرفة، ومكن المغرب من التقدم الاقتصادي والاجتماعي باستمرار، لارتباط هذا التقدم العلمي والحضاري بتقدم العلم والتعليم في جامعة القرويين على الخصوص، كما ذكر الدكتور “رينو” بأن فاس مهد الحضارة التي تجلب العلماء والطلبة من العالم أجمع، وهي كعاصمة أثينا بالنسبة للإسلام حيث كانت تدرس جميع العلوم والفنون والآداب[11]. ونشير هنا باعتزاز إلى شهادة علي بن ميمون لجامعة القرويين وهو يتكلم عن فاس على عهده، بأنه ما رأى مثلها ومثل علمائها في الحفظ والإتقان والضبط وذلك في سائر العلوم النقلية والعقلية[12] خاصة وأن فروع المعرفة المختلفة التي كانت فيها لها صلة بالدين، كان العامل القوي في حفظ التراث الإسلامي والعربي، الذي كان خصيصة لازمة لجامعة القرويين في كل ما مر عليها من عهود وعصور.

ولابد أن ننوه هنا بأن القرويين كانت بعد سقوط الأندلس المقصد الأول لعدد كبير من مشاهير العلماء في شتى العلوم وأنواع المعرفة، نذكر منهم على سبيل المثال الفيلسوف ابن باجة، والوزير المعروف العالم لسان الدين بن الخطيب، والعالم الكبير أبا العلاء ابن زهر، وأبا القاسم الغساني، والجغرافي الشهير الشريف الإدريسي وغيرهم كثير، وقد كانت هذه الهجرة واللقاء بين هؤلاء العلماء وبين علماء القرويين وطلبتهم، كانت السبب في حيوية الحركة العلمية والتراث الإسلامي، فازدهرت العلوم كلها حتى غدت هذه الفترة من تاريخ القرويين وتاريخ العرب الإسلامي فترة ذهبية متميزة.

لكي يتحقق الإشعاع العلمي الجديد لجامعة القرويين

لكي تعود جامعة القرويين جامعة عتيدة، جامعة تحتل مكانتها الأولى بين مؤسساتنا الجامعية، وتعود إلى دورها التاريخي لا في بلادنا فحسب بل في القارة الإفريقية جمعاء، لابد من تحقيق أمرين أساسيين:

أولا: إصلاح مناهجها لتعود جامعة المجتمع والحياة، تجمع بين علوم الدين والدنيا، وتوجه مسيرتنا كلها كما كانت مهوى أفئدتنا ومحط اهتماماتنا، عندما كانت تدرس فيها سائر فروع المعرفة.

ثانيا: ربط الجسور العلمية والثقافية بينها وبين الجامعات والمؤسسات العلمية في العالمين العربي والإسلامي ومع العالم أجمع كما هو تاريخها.

ولكي يتم ذلك ويتحقق لابد من أن نكون متحدين صادقين صرحاء، مع أنفسنا ومع أمتنا، وألا نبقى نراوح مكاننا مكتفين بالتعديلات الجزئية للمراسيم والقوانين، فقد آن الأوان ليسترد التعليم كله هويته، ويسترجع التعليم الإسلامي مكانته الأولى كما كان طوال تاريخه العتيد، وكما كان قبل أن يحجمه الاستعمار، والتخلف، والفرصة الآن مواتية، وإصلاح التعليم أصبح قضيتنا الأولى، ولا يمكن أن يحقق التعليم مطامحنا في التنمية الشاملة، ويضمن تواصل فتوحنا العلمية إلا بإصلاحه إصلاحا جذريا وفي صدارة ذلك جامعة القرويين، وبالعمل على وضع مناهج تحدث ثورة جديدة في مناهج تعليمنا كما دعا إلى ذلك جلالة الملك في خطاب عيد الشباب الأخير، إصلاحا يقضي على النظرة المتميزة والازدواجية بين تعليم القرويين وبين التعليم العام.

وذلك بإصلاح التعليم العام في المغرب، وبنائه على أصول الإسلام وعقائده وقيمه على جميع المستويات، وفي جميع المراحل، وفي كل التخصصات، ليحصل أبناؤها جميعا على قسط أساسي من التعليم الأساسي، الذي ينبغي أن يكون قاسما مشتركا بين سائر الفروع والتخصصات، علمية كانت أو أدبية أو سياسية، أو اقتصادية، وذلك حتى لا تنعزل جامعة القرويين عن غيرها من الجامعات، أو يصبح خريجوها كرجل الدين في المجتمع المسيحي، وحتى لا يعود الطبيب والمحامي والمهندس غريبا عن دينه في وطنه، كما خرجت لنا المناهج فيما بعد الاستقلال هذه النماذج المفتقدة إلى المعرفة الضرورية لدينها ولغتها[13].

وينبغي أن يكون إصلاح القرويين إصلاحا شاملا يحقق التمازج بين التعليم الديني والمدني، أو بين العلوم الشرعية والأدبية، وبين سائر العلوم الرياضية والطبيعية كما كان منهج القرويين طوال تاريخها، وتصبح القرويين تضم إلى جانب كليات الشريعة، والأصول، واللغة العربية، كليات الطب، والهندسة، والصيدلة، والعلوم، وغيرها ليصبح خريجوها نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه العالم المغربي في عصر الصحوة الإسلامية، محققا لوجوده في الحياة، مرتبطا بها، فاعلا فيها، وأمامنا تجربة رائدة بادر إليها الأزهر الشريف منذ الستينات، بإدخال ثورة إصلاحية على الأزهر، ومناهجه، وكلياته، ومؤسساته، وطبقت هذه التجربة كأحسن ما يكون التطبيق، وأعطت نتائجها الباهرة، وتحول الأزهر في أقل من عقدين من الزمن من مؤسسة عتيقة باهتة، إلى جامعة علمية عتيدة، تضم أكثر من مائة ألف طالب يدرسون في كلياتها ومعاهدها ومؤسساتها العلمية، التي حققت رسالة الأزهر في تخريج أطر إسلامية نموذجية، عاملة للدين والدنيا، وللمعاش والمعاد، وقد تحقق ذلك بتضامن من الأمة مع الحكومة في إنجاح الإصلاح، وعاد الأزهر إلى إشعاعه المعهود، وإشراقه المعروف[14] فلتستفد من هذه التجربة الرائدة، خاصة وبيننا وبين الأزهر توأمة مازالت تراوح مكانها، وتنتظر أن تنتقل إلى مرحلة التطبيق والتنفيذ، لتحقق مقاصدها في تعاون الجامعتين العتيدتين إلى ما فيه صالح الإسلام والمسلمين.

ولعل صاحب الجلالة كان يقصد ما يريد عندما استدعى أحد الأطباء العرب وهو الدكتور محمد هيثم الخياط ليحاضر في موضوع: “الصحة والبيئة” في الدروس الحسنية الأخيرة، من مطلق حديث شريف، ولعل المحاضر أخذ بألباب المغاربة جميعا لا كطبيب متخصص فحسب، بل كمسلم يعرف حقائق دينه وتوجيهات عصره، مما جعله يجمع في محاضرته بن أصالة الإسلام قرآنا وسنة، وبين ما وصلته الإنسانية في مجالي الطب والبيئة من إنجاز وتقدم، وكيف استطاع الربط بين الأمرين، في أسلوب عربي مبين وإحاطة كبيرة، متمنيا أن يكون في مجتمعنا أمثلة لهذا الطبيب المسلم النموذجي[15] وأنا أحب أن أذكر هنا بالموقف الشجاع لرابطتنا رابطة علماء المغرب في الدفاع عن التعليم الإسلامي في المغرب، وحراسته والوقوف إلى جانبه منذ انطلقت الرابطة في الستينات وإلى اليوم، ولم يخل مؤتمر من مؤتمراتها، ولا ندوة من ندواتها، من العناية بقضية التعليم التي كانت دوما قضية الرابطة الأولى، وهمها الأكبر الذي جعلته في مقدمة توصياتها، وفي أخص قراراتها.

وعلى رابطة العلماء أن تتحمل اليوم مسؤوليتها، وتأخذ الأمر بعزم وحزم، فتجمع أمرها، وتقوم بالتعاون مع جامعة القرويين، بوضع منهج صحيح لإصلاح التعليم على أساس سليم، يضمن للأمة تعليما عاما، منبثقا من عقيدة الأمة ومقدساتها، يضمن لها تكوين جيل قوي صالح، يجابه تحديات القرن المقبل بثبات وعزم ويقين، تعليما يبعث المغرب من جديد، ويحقق آمال أهله في النمو والتطور تعليما ينقلنا من المحاكاة والتقليد إلى عهد البحث العلمي الجاد الذي عرفته القرويين في تاريخها العتيد، والابتكار والتجديد والتقدم، كما حقق ذلك تعليمنا في أزهر عهود تاريخنا، وجعل فتوح المغرب الثقافية توازي فتوحه السياسية.

الآفاق المستقبلية لجامعة القرويين

ولذلك ينبغي أن نتجه في دراستنا اليوم لآفاق القرويين ومستقبلها إلى دراسة الحاضر المعيش، واستشراف آمال جامعة القرويين المقبلة، بنقد نزيه، ودراسة عميقة، وتخطيط حكيم فقد آن للقرويين أن تنطلق من عقالها، وأن تعود إلى مكانتها، وأن تتوفر على منهج أصيل يربط حاضرها بماضيها، ويعمل على صنع مستقبلها المشرق، حتى تصبح جامعة المغرب الأولى كما كانت في العهود الزاهرة، جامعة الدين والدنيا، والحاضر والمستقبل، التي تعكس آمال المغاربة وطموحهم، إن الإصلاح مطلب يفرضه زمننا كي تنسجم البنيات مع المهمة التي أوجدت من أجلها القرويين، إذ أن المسافة في الوقت الراهن بين المهام وإمكانيات العمل السريع تعتبر شاسعة، وينبغي التحلي بالشجاعة لتحقيق الإصلاح المنشود.

إن جامعة القرويين ومدينة فاس لم تعرف منذ أكثر من ألف عام إلا حياة مشتركة واحدة، ومن النادر أن تشهد ارتباطا متينا كهذا بين جامعة ومجتمع، أو بين جامعة وشكل من أشكال الحضارة الإنسانية، وتظهر معالم هذه الرابطة الوثيقة في كل شيء يحيط بنا اليوم كما أكد ذلك الأستاذ رينيه ماهو نائب المدير العام لمنظمة اليونيسكو[16].

إن هذه الوحدة العميقة والرابطة القوية التي تلم شعث تاريخنا، وتحفظ كيان مجتمعنا، ومظاهر ثقافتنا، وتقوم شاهدا على إيماننا، هي التي تطبع جامعة القرويين بطابعها الفريد، والتي ما تزال محتفظة بقيمتها حتى الآن بما قد تنطوي عليه من أهداف جديدة[17].

لقد أثر عن المغاربة تشبثهم بالدين الحنيف، وهيامهم بكل فضيلة، وتقديسهم للعلم، وتقديرهم للعلماء، ويرجع الفضل في ذلك إلى جامعة القرويين التي كان لها آثار بعيدة المدى في تكييف الحياة المغربية، وخطت لهم النهج الذي ساروا عليه زهاء ألف عام، فغدت مركز الحضارة الإسلامية، والمنبع الذي تفجرت منه الثقافة الإسلامية في غرب العالم الإسلامي، وأصبحت لها رسالة سامية، وقفت نفسها على أدائها في المغرب وما وراءه من أقطار وأمصار، حتى صارت مهوى الأفئدة وقبلة الأنظار كما أكد ذلك جلالة المرحوم محمد الخامس في خطابه في الاحتفال بذكرى المائة بعد الألف على إنشاء جامعة القرويين[18]، وأحب أن أوكد أخيرا أن إصلاح التعليم على أساس عقيدة الأمة وأصولها المقدسة، هو الطريق لترشيد مسار الأمة، وبناء المغرب الجديد، وأن إصلاح جامعة القرويين، وجعلها جامعة قوية وعتيدة، هو روح هذا الإصلاح وأساسه، لأنها قلعة الإسلام، وهويته في هذه الديار، وقد كان دوما ازدهار القرويين وإشعاعها، مظهر ازدهار وتطور المغرب، في أزهي عصوره، وذلك هو ما أكده جلالة الملك في خطاب العرش الأخير بقوله: والبرهان على بناء صرح الحاضر على أسس سليمة، هو الجسر المؤدي إلى الغد المشرق الزاهر…ولن يتأتى لنا إنجاز ما نصبو إليه من إصلاحات، إلا إذا ساير تعليمنا متطلبات التحول الذي يفرضه العصر، فالغاية من التعليم لم تعد التثقيف وحده، بل بالأخص الإعداد والتكوين للإسهام في الإنتاج، وهذا يفرض علينا أن نؤهل من الآن أجيالنا لما قد يظهر من حاجيات بعد عقد أو عقدين، أي على برمجتنا أن تساير تطور المعرفة بما يلزم من المرونة ومسابقة الابتكارات.

إن جامعة القرويين لم تصن التراث الروحي والعقلي للعرب والمسلمين، ولم تحفظ اللغة العربية من الضياع فحسب، وإنما حفظت الأمة العربية نفسها في المغرب من الذوبان والتبعية، ولذلك ينبغي أن نعمل على تمكينها من الاستمرار في أداء رسالتها، ونشر إشعاعها، واسترجاع مكانتها، وحظوتها، حتى تنهض من عثرتها، وتجمع قوتها بيدها، فتؤدي الواجب المنتظر منها كما دعا إلى ذلك أستاذنا الفاروق الرحالي رحمه الله، وذلك كي تقوم جامعة القرويين التي نترقبها وننتظرها، لتأكيد الصلة بين الدين والحياة، والربط بين العقيدة والسلوك، والصمود في مواجهة التحديات التي تعترض طريقنا في الحاضر والمستقبل إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

(انظر العدد 14 من مجلة الإحياء)

الهوامش

[1]. انظر الظهير الشريف عدد 162249 المحدث لكلياتها بتاريخ رمضان 1382- يناير 1983.

[2]. انظر تفصيل ذلك في برنامج الشيخ عبد الحي الكتاني بعنوان “ماضي القرويين ومستقبلها” الخزانة الكتانية عدد: 3354- الخزانة العامة بالرباط.

[3]. انظر المرجع السابق لوحة 15.

[4]. راجع منهج إصلاح التعليم في محاضرة الفقيه الحجوي، مخطوط- الخزانة العامة تحت عدد 118 ح.

[5]. جامعة القرويين للأستاذ عبد الهادي الشرايبي – الكتاب الذهبي – ص125.

[6]. أثر القرويين في حماية اللغة العربية للأستاذ أنور الجندي – المصدر السابق- ص112 و113.

[7]. انظر بحث الدكتور دينون المنشور في نشرة معهد الدروس العليا 1: 42.

[8]. نفح الطيب للمقريء 1: 244.

[9]. نيل الابتهاج ص353.

[10]. تاريخ التعليم الإسلامي بالمغرب عبد العزيز بن عبد الله – الكتاب الذهبي – ص118.

[11]. الطب القديم في المغرب ص77 نقلا عن الكتاب الذهبي ص114.

[12]. سلوة الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني 1: 74.

[13]. انظر تفصيل الموضوع في بحث الكاتب “الأستاذ عبد الوهاب التازي والإشعاع العلمي لجامعة القرويين” في ندوة تكريمه بالرباط سنة 1416: 1996.

[14]. راجع تطور جامعة الأزهر وكلياتنا ومؤسساتنا العلمية في تقويم جامعة الأزهر- الصادر سنة 1413: 1992.

[15]. راجع محاضرته في الدروس الحسنية بعنوان: “المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء” ص241 سنة 1916.

[16]. الكتاب الذهبي لجامعة القرويين ص63.

[17]. المصدر السابق ص64.

[18]. الكتاب الذهبي ص33.

الوسوم

د. يوسف الكتاني

أستاذ علم الحديث، كلية الشريعة

جامعة القرويين-فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق