
الدكتور مصطفى مختار
باحث في مركز علم وعمران
أثثت حاضرةَ أصيلا مساجدُ شبه صغرى ملحقة بأضرحة المدينة أو محولة عن معالم أخرى. وأسهمت في تنظيم المجال الحضري، بحسب ما سنتطرق إليه تباعا :
مسجد سيدي مبارك الصحراوي :
يقع مسجد سيدي مبارك الصحراوي في الجهة الشرقية من المدينة العتيقة، بزنقة القاضي، ما بين مسجدي ابن عياد والزكَوري، قريبا من موقع دار القاضي [1].
جدد بناءه السيد الشنتوف، دفين روضة سيدي مبارك الصحراوي [2]. وبه قاعة صلاة مساحتها 50 مترا أو أكثر. فيها 8 سواري موزعة على أربعة أقواس في صفين. بين كل قوس وآخر 3 أمتار أو أكثر. في جدار القبلة محراب صغير، مقوس المدخل، مجوف، مبلط نصفه السفلي بالرخام. وعلى يساره مقصورة مؤذن صلاة الجمعة لأن المسجد بدون صومعة، فيتم أذان الصلوات الخمس خارج الباب الرئيسة.
وفي أعلى جدار القبلة نافذتان متوسطتان بإطارين من خشب، وزجاج أبيض شفاف، للتهوية والتشميس ودرء دخول الغبار [3]. وأما جدران المسجد وأرضيته، فمبلطة بصفائح من خشب رقيق [4]. وفي الجهة اليمنى لمدخل ضريح سيدي مبارك الصحراوي وصحنه دار وضوء مسجد الصالح نفسه. وبها بئر ماء [5].
وإذ تحدثنا عن بنية مسجد سيدي مبارك الصحراوي، ننتقل الآن إلى الحديث عن وظائفه الشرعية والعلمية. أما من حيث وظائفه الشرعية، فقد تولى خطبة الجمعة بهذا المسجد عدد من أعلام أصيلا. منهم القاضي أحمد بن عبد السلام اليملاحي [6]، دفين روضة سيدي محمد ابن مرزوق [7]. درس بفاس. وولي القضاء، بالعرائش وأصيلا. وكان يؤم صلاة عيد الأضحى، بمقبرة المصلى. ويضحي أمام بابها [8]. وكان ينوب عنه الفقيه الهاشمي بن محمد العمراني، الشهير بالمجلاوي [9]، النائب عن المؤقت سيدي عبد السلام بن أحمد البقالي في خطبة الجمعة، بالمسجد الأعظم، حين زار الزعيم المغربي علال الفاسي أصيلا [10]. تابع دراسته ببني عروس، فالعرائش، فتطوان قبل أن يمتهن القضاء ثم المحاماة [11].
وتولى خطبة الجمعة، بمسجد سيدي مبارك الصحراوي، بعد أحمد اليملاحي، الفقيه محمد بن امغايث بوشركة [12]. درس على الفقيه أبي ضمضام، بكتاب جامع ابن عياد، وعن والده الطالب امغايث، وعن بعض شيوخ فاس. وحين عوده تولى منصب عدل، بأصيلا، فمدرسا ومدير مدرسة ابتدائية بها [13]. وحل محل الفقيه محمد بوشركة، في خطبة الجمعة، بجامع سيدي مبارك الصحراوي، الفقيه العدل عبد السلام الحراق [14] الذي تولى الإمامة والتدريس، بجامع ابن عياد في وقت ما [15]. ولعل ذلك كان حينما خلفه الفقيه عبد القادر الوهابي العروسي في خطبة الجمعة، بجامع سيدي مبارك الصحراوي [16].
ومن المدرسين بالجامع الأخير سيدي عبد السلام البقالي الذي كان يدرّس به رسالة أبي زيد تطوعا [17]. درس بكتاب جامع ابن عياد، بأصيلا، وبمدشر "اخشابش"، وفاس. واشتغل مساعدا للفقيه سيدي الغزواني الغيلاني، بالكتاب المذكور، ثم عدلا بالمدينة، فمؤقتا لها، ومدرسا بجامع الزكَوري، فمديرا للمدرسة القرآنية (مدرسة ابن خلدون حاليا)، فمديرا لمدرسة البنات، مدرسا بها، متوليا منصب خطيب الجامع الأعظم، وإمامة صلاة عيد الأضحى، بمقبرة المصلى [18].
وإلى جانب ذلك ظل جامع سيدي مبارك الصحراوي يسهم في الاحتفال ببعض المناسبات الدينية التي على رأسها إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف [19]. وبذلك، أسهم جامع سيدي مبارك الصحراوي في تنظيم المجال الحضري، بمدينة أصيلا، وبالحيّز المسمى باسم الصالح المذكور [20]، الحيّز الذي شكل محددا مجاليا في كناش أحباس الحاضرة [21]، وأثثته بعض المعالم المحبسة على مساجد أصيلا [22]، مثل خربة بسيدي مبارك تحد غربا بملك الخضر غيلان، ومثل دار ملتصقة بضريح الصالح نفسه [23] عثرنا بخصوصها على وثيقة طريفة جاء فيها: "ثم دار ملتصقة بولي الله سيدي امبارك الصحراوي نفعنا الله آمين تحد قبلة شرفها الله بالضريح المذكور وشرقا الميضا المنسوبة للولي المذكور، وبحرا وغربا بالزقاق المفتوح بابها لجهة الغرب كانت للطالب سي محمد بن العربي الجباري الأصيلي حبسها سلفا على الحبس الأصيلي ولا زالت على ملكه إلى الآن وحتاه" [24].
ومن معالم حومة سيدي مبارك الصحراوي دار المهندس محمد الحساني بالحومة نفسها، المشارك في إحدى البعثات العلمية الحسنية [25]. ولعلها تجاور خربة هي في شركة مع الزاوية القادرية [26]، محبسة على مساجد المدينة.
ومن معالم زنقة سيدي مبارك الصحراوي دار القاضي أحمد بن عبد السلام اليملاحي الذي تكفل بنفقات كُتاب بجانب داره ومعها نفقات مدرره الفقيه محمد الأنجري. حيث درَس المؤلف عبد الرحيم بن أحمد الجباري [27]. ولعل هذا الكُتاب غير ذلك القريب من ضريح سيدي محمد ابن مرزوق [28].
ومن معالم الزنقة المذكورة دار أحمد بن العربي البسيري حيث ولد ابنه المؤلف أحمد البسيري [29]. درس بأصيلا والعرائش وطليطلة، ليلتحق ضابطا بالقوات المسلحة الملكية مدافعا عن وحدة التراب الوطني بصحرائنا المغربية [30].
ومن الطريف أن سيدي عبد السلام البقالي بعد عوده من مدشر "اخشابش" فتح دكانا بجوار جامع سيدي مبارك الصحراوي. وحدث أن وقف ببابه طالبَا علم ليشتريَا بعض الأغراض. ولما كانا يناقشان بعض الأمور العلمية تدخل في نقاشهما، فقال له أحدهما: "الأحسن أن تهتم بشؤون دكانك، فأنت رجل "قُبّان" لا علاقة لك بالعلم". فأثر ذلك فيه. فترك ممتلكاته، لعل منها دكانه المذكور، لمُدرسه، بكُتاب جامع ابن عياد، سيدي محمد الميلودي أبي ضمضام. وذهب إلى فاس لمتابعة دراسته [31].
وكان سيدي أحمد بن الفقيه امغايث الجباري يزاول التجارة في دكان قرب جامع سيدي مبارك الصحراوي بعد إنهاء عمله بغرسته، برأس السقاية، عند العاشرة صباحا إلى ما بعد صلاة العشاء [32].
وإذ أسهبنا في الحديث عن جامع سيدي مبارك الصحراوي ومحيطه، ننتقل الآن إلى الحديث عن مسجدين شبه صغريين، بأصيلا العتيقة، بحسب ما سنعرضه تباعا :
مسجد للا سعيدة :
جاور مسجد للا سعيدة أو الجامع السعيدة بابَ البحر، بحاضرة أصيلا [33]، فسمي، بذلك، مسجد باب البحر [34]. وسميت الساحة التي أمامه ساحة جامع للا سعيدة [35]. ويبدو أنه تم تحويله عن الكنيسة البرتغالية الكبرى [36].
ومهما يكن الأمر، فقد بني بالحجارة والجير في مساحة لا تزيد عن خمسمائة متر [37]. وهو قسمان من حيث هندسة البناء، بحسب أحد الباحثين [38]. قسمه الأول سقف سطحه على شكل قبب مثلثة بالقرميد الأحمر، مثل الجامع الأعظم وجامع الزكوري وجامع سيدي عامر. وسُقف جوفه الداخلي بصفائح خشبية عمودية تدعمها أعمدة من خشب عمودية منتهية إلى عمود خشبي قوي. تدعم الجميع أعمدة أفقية من شرق الجامع إلى غربه، وسواري مقوسة مستخرج من نصفها خطوط مستقيمة مموجة صغيرة ومتوسطة. بين كل واحد من الأقواس والآخر متران، تشكِّل هذه الأقواس، في اتجاه أفقي، جناحين للصلاة لا تزيد المسافة بينهما عن ثلاثة أمتار. والمحراب مقوس المدخل بدون زخرفة، جوفه الداخلي خارج جدار القبلة [39].
وأما القسم الثاني من الجامع، فقد سقف سطحه بالإسمنت المسلح. به قبة مربعة بأربع نوافذ متوسطة للتهوية والإضاءة. وفي أعلى جدار القبلة ثلاث كوات صغيرة للتهوية، ونافذتان متوسطتان بدفف من خشب، وزجاج شفاف لدرء تسرب الغبار.
ويدلف إلى الجامع عبر باب رئيسة مقوسة، مبنية بالحجارة والجير. وفوقها شماسة من حجر وجير مسطحة بالقرميد الأخضر. وأمام الباب يتم الأذان للصلاة. والباب نفسه خشبي من دفة واحدة واسعة. يؤدي إلى ممر عارٍ موصل لقاعة الصلاة.
وأما مراحيض جامع للا سعيدة، فهي خارجه، مقابلة له في آخر شارع الخرازين. بنيت هي أيضا بالحجارة والجير. وبها بئر ماء [40]. وإذ بينت عمارة جامع للا سعيدة قدمه وإسهامه في تنظيم المجال الحضري، بأصيلا، وبمحيطه المباشر، أشارت بعض المراجع، بشكل طريف، إلى ممارسة "علاجية" تتم داخله [41]، وإلى دوره في إيواء طلبة القرآن الآفاقيين الذين كانوا يُقدمون على أصيلا للمشاركة في مباريات كرة القدم ذات زمن مضى [42].
مسجد سيدي عامر :
يقع مسجد سيدي عامر في الجهة الغربية من المدينة، مجاورا ضريح سيدي محمد ابن مرزوق، غير بعيد عن جامع ابن عياد، وجامع سيدي مبارك الصحراوي [43]. ويُرجَع اسمه إلى صالح ضريحُه، بحي الزرقطوني، خارج الأسوار [44].
وقيل إن الصالح سيدي محمد ابن مرزوق، دفين روضته القريبة من المسجد، هو من بناه [45]. ويخبر أكثر من مرجع أن المولى عبد الرحمن العلوي صلى به العشاء، وتلا الحزب مع الفقهاء بعد الصلاة، خلال زيارته لمراسي الشمال [46].
ومهما يكن الأمر، فقد شُيد جامع سيدي عامر، خلال هذا العهد أو بعده، بالحجر والجير. وسُقف سطحه بالقرميد الأحمر، وجوفه الداخلي بالخشب، مثل الجامع الأعظم. وجعلت قاعة الصلاة فسحة واحدة بدون سواري ولا بلاطات. ويرفع الأذان أمام باب الجامع الخشبي، متوسط الحجم. وفوقه شماسة صغيرة. ومقابله بنيت ميضات الوضوء التي حفرت بها بئر ماء [47].
الإحالات :
[1] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص67؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية، ص151.
[2] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص152.
[3] نفسه، ص151.
[4] نفسه، ص151- 152.
[5] نفسه، ص152. استأنس بـ: أصيلا، تاريخ وأعلام، ج3، ص57.
[6] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص67.
[7] 1375 هـ/ 1956 م: نفسه، ج1، ص136؛ وط. 2، ص134؛ وج3، ص63.
[8] نفسه، ج1، ص136، 215، بتصرف؛ وط. الثانية، ص134، 198، بتصرف؛ وج2، ص134، 135؛ وج3، ص63، 84، 133.
[9] نفسه، ج2، ص67- 68.
[10] عام 1375 هـ/ 1956 م. راجع: أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص62.
[11] نفسه، ج2، ص134- 135؛ وج3، ص64.
[12] نفسه، ج2، ص68.
[13] نفسه، ج1، ص137، 215- 216؛ وط. الثانية، ص135، 198؛ وج2، ص66، 121؛ وج3، ص67، 120؛ وأصيلة الماضي والحاضر، ص47.
[14] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص68.
[15] عام 1380 هـ/ 1960 م: نفسه، ج2، ص66.
[16] نفسه، ج2، ص68.
[17] نفسه، ج1، ص194؛ وط. الثانية، ص181.
[18] نفسه، ج1، ص192- 195؛ وط.2، ص179- 182؛ وج. الثانية، ص62، 64، 65، 66، 102- 103؛ وج3، ص66، 84؛ وج4، ص88؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية، ص116؛ وأصيلة الماضي والحاضر، ص47، 48.
[19] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص152- 153؛ وأصيلة عادات وتقاليد، ص207- 215، بتصرف؛ وأصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص68.
[20] الأخير، ج1، 136؛ وط.2، 134؛ وج3، 20، 49، 53، 120، 133؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية، 115، 119، 143، 145، 146، 150، 151، 153.
[21] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج3، ص53، 57.
[22] نفسه، ص48.
[23] نفسه، ص51، 57.
[24] نفسه، ص57.
[25] نفسه، ص20.
[26] نفسه، ص51.
[27] نفسه، ج1، ص136؛ وط. الثانية، ص134؛ وج3، ص133.
[28] نفسه، ج2، ص100؛ وأصيلة الماضي والحاضر، ص40؛ وأصيلة عادات وتقاليد، ص158، الهامش رقم 186.
[29] 1356 هـ/ 1937 م: أصيلا، تاريخ وأعلام، ج3، ص120.
[30] نفسه، ص120- 122.
[31] نفسه، ج1، ص192- 193؛ وط. الثانية، ص180.
[32] نفسه، ج1، ص137؛ وط. الثانية، ص135.
[33] نفسه، ج1، ص88، 168؛ وط. الثانية، ص87، 90، 160؛ وأصيلة الماضي والحاضر، ص47، 54؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص98.
[34] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، ط. الثانية، ص87، 90؛ وأصيلة الماضي والحاضر، ص54؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص122.
[35] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص123، 177.
[36] نفسه، ص122، 123؛ وأصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، ص88؛ وط. الثانية، ص87، 90؛ والقمرة، مصطفى المهماه، الرباط، دار أبي رقراق، 2004 م، ص14.
[37] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص122.
[38] نفسه، ص122، 123.
[39] نفسه، ص122- 123، 127.
[40] نفسه، ص123.
[41] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج2، ص69؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية، ص123؛ وأصيلة عادات وتقاليد، ص142؛ والقمرة، ص14، الهامش رقم 14.
[42] أصيلة الماضي والحاضر، ص53- 54.
[43] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، ص212؛ وط.2، ص195؛ وج3، ص14، 92؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية، ص127، 148، 173؛ وأصيلة عادات..، ص250.
[44] أصيلة زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص127، 173.
[45] نفسه، ص148.
[46] أصيلا، تاريخ وأعلام، ج1، ص212؛ وط.2، 195؛ وج3، 14؛ وأصيلة زمكانية المعالم الأثرية، 128، 148، 173؛ وأصيلة عادات وتقاليد، 250.
[47] أصيلا زمكانية المعالم الأثرية والتاريخية، ص127، 128.