مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

مسألة تأسيس مدينة فاس: التاريخ والإشكالية.

من أهم القضايا التي لا زالت تثير النقاش بين الدارسين والمهتمين بتاريخ الدولة الإدريسية مسألة تأسيس مدينة فاس على اعتبار اختلاف المصادر حول تاريخ هذا التأسيس وأسبابه وظروفه، وحول المؤسس نفسه، وحول التسمية ذاتها. إذ يورد بعض المؤرخين أن تأسيس هذه المدينة كان سنة 192هـ/808 م على يد إدريس الثاني( الأزهر)، ومنهم من يورد أن أباه إدريس الأول[1] ( الأكبر) هو الذي أقام نواتها الأولى قبل ذلك بسنين عديدة، وضرب فيها السكة.

وجاء الباحثون المحدثون، كل بمنهجه واقتناعاته واجتهاداته، ليؤيد بعضهم هؤلاء ويساند البعض الآخر أولئك، دون التمكن من الفصل البين في هذه المسألة التي، وإن كنا نرى الفصل فيها صعب المنال، نعود إليها بقراءة متأنية للمصادر وإنصات جيد للاجتهادات. فهل يمكن الفصل في هذه المسألة؟

1المصادر التاريخية وروايات التأسيس:

أ- المصادر التاريخية:

حظيت مدينة فاس بعناية العديد من الكتابات التاريخية والجغرافية المشرقية والأندلسية والمغربية على حد سواء، وذلك منذ أواسط القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي على اعتبار أنها عاصمة الدولة الإدريسية. فأورد ذكرها في مؤلفاتهم أحمد بن واضح اليعقوبي (ت.284هـ/897 م)[2]، وأبو القاسم محمد بن حوقل النصيبي (ت.367هـ/978 م)[3]، وأبو عبد الله شمس الدين المقدسي (ت.390هـ/1000م)[4]، وأبو عبيد عبد الله البكري (ت.487هـ/1095 م)[5]، وأبو عبد الله محمد الشريف الإدريسي (ت.560هـ/1165م)[6]، وشهاب الدين ياقوت الحموي (ت.626هـ/1229م)[7].

وقد أكد هؤلاء جميعا في وصفهم لهذه المدينة أنها كانت منذ نشأتها مدينة جليلة القدر، كثيرة العمارة، متميزة الحضارة. وأنها في حقيقة أمرها عُدْوتان أصيلتان توأمتان لكل منهما سور يحيط بها وأبواب تختص بها، وفي كل منهما جامع للخطبة وقيسرية وأسواق ودار للسكة، وبينهما نهر فاصل طارد لأثفالهما وأقذارهما.

كما نالت مدينة فاس عند الكثير من المؤرخين والجغرافيين والعلماء بعد القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي اهتماما ملحوظا متزايدا على قدر ما تعاظمت مكانتها الحضارية وكبر دورها التاريخي، بفضل اتخاذ المرينيين لها من جديد عاصمة لدولتهم. وهكذا حظيت بعناية أكبر وحظ أوفر على يد ثلة من المؤلفين نذكر منهم على سبيل المثال أبا العباس أحمد بن عذاري المراكشي (ت.683هـ/1295م)[8] ، وأبا الحسن علي بن أبي زرع الفاسي (ق.8هـ/14م)[9] ، وأبا الحسن علي الجزنائي (ق.8هـ/14 م)[10]، والحسن الوزان (ت.957هـ/1550م) [11]، وأبا العباس أحمد بن القاضي المكناسي (ت.1025هـ/1616م) [12].

يضاف إلى كل ذلك تلك الإشارات المفيدة التي وردت حول هذه المدينة وبعض من تاريخها عند أبي عبد الله محمد بن الآبار البلنسي (ت.657هـ/1259م)[13]، وأبي الحسن علي بن سعيد المغربي (685هـ/1286 م)[14]، ولسان الدين بن الخطيب (ت.776هـ/1374 م)[15]، وغيرهم.

واعتمادا على كل هؤلاء المؤرخين والجغرافيين والعلماء، نهلت الحوليات التاريخية وكتب التراجم والمناقب والأنساب المتأخرة حول مدينة فاس وحول مسألة تأسيسها الكثير من المعلومات والأخبار من جهة؛ كما نهلت الكتابات الأجنبية بدورها من جهة ثانية ما لا يُعد ولا يُحصى من الأحداث والوقائع والمظاهر الحضارية والأفكار معلقة عليها في غالب الأحيان، تارة بالسلب وتارة أخرى بالإيجاب. ونستحضر من كل ذلك في هذا المقام وعلى سبيل المثال لا الحصر مؤلفات أبي العباس أحمد بن خالد الناصري[16]، ومحمد بن جعفر الكتاني[17]، وهنري كَايار[18] وروجي لوتورنو[19] وليفي بروفنصال[20]، وآخرين كثر.

ب- روايات التأسيس:

إن كل غربلة علمية دقيقة لما أوردته المصادر في شأن تأسيس مدينة فاس تُفيد التمييز بين جانبين، جانب أسطوري وآخر تاريخي. ولعل أهم ما اشتهر من هذه الأساطير في حق هذه المدينة أسطورة تشبه إلى حد بعيد بعض تلك التي وردت حول تأسيس بعض المدن الإسلامية في المشرق أو المغرب، وخاصة منها بغداد العباسية في أرض الرافدين وتونس والمهدية في إفريقية. كما تُذَكر هذه الأسطورة كذلك بما كان يتداوله الناس في الأندلس خلال القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي بخصوص مدينة الزهراء الأموية ومدينة الزاهرة العامرية بضواحي قرطبة.

ومجمل هذه الأسطورة أن الإمام إدريس بنَ إدريس لما وقف بموضع مدينة فاس، عازما على اختطاطها وبنائها، صادفه هناك راهب ناسك متعبد جمع بين العلم بتاريخ المنطقة والتنبؤ بمستقبلها؛ فكان بينهما من المحادثة والحوار ما استبشر به المولى إدريس خيرا وقوى عزيمته على البناء وسارع به إلى الشروع في حفر الأساس[21].

وبخصوص روايات التأسيس تجمع المصادر التاريخية المغربية التي اهتمت بهذه المسألة، كروض القرطاس وجنى زهرة الآس وجذوة الاقتباس، أن مؤسس هذه المدينة بعُدوتيها هو الإمام إدريس بن إدريس[22].

أما المصادر الأندلسية، وهي ذات طابع جغرافي في مجملها، فإنها تتفق أن مدينة فاس مدينتان، وأن إحداهما بناها إدريس بن عبد الله، سنة 172هـ/789 م، وتعرف باسم عدوة الأندلس؛ وأن الثانية بناها إدريس بن إدريس سنة 193هـ/ 809 م، وتعرف باسم عدوة القَرْويين. وذلك حسب ما أورده بالخصوص أبو بكر الرازي (ت.سنة344هـ/956 م)[23] وابن سعيد المغربي (ت.سنة 685هـ/1286 م)[24]، وحسب ما يفهم ضمنيا من المؤرخ الغرناطي المجهول[25] الذي عاش في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.

والجدير بالملاحظة في هذا المقام أن هذه المصادر المغربية والأندلسية تتفق جميعُها أن إدريس بنَ إدريس هو مؤسس عُدوة القرويين “العالية” سنة 193هـ/809 م؛ وتختلف حول مؤسس عدوة الأندلس. إذ تؤكد المصادر المغربية أن تأسيس عدوة الأندلس “فاس” كان قبل ذلك بسنة واحدة عام 192هـ/ 808 م، على يد إدريس بن إدريس كذلك؛  وتؤكد المصادر الأندلسية أن تأسيس هذه العدوة كان قبل أختها بنحو واحد وعشرين سنة عام 172هـ/ 789 م على يد إدريس بن عبد الله.

ج- الرواية المأثورة[26]:

تحمل الرواية المغربية المأثورة عن حدث إنشاء مدينة فاس تفاصيل تنفرد بها دون غيرها. وهي تفاصيل يمكن أن تساعد على حل لغز المؤسس الحقيقي لهذه المدينة بصفة عامة ولعدوة الأندلس بالذات بصفة خاصة. علما أن هذه العدوة هي التي أشارت إليها كل المصادر على اختلاف مشاربها باسم “فاس” عند تأسيسها، قبل تعميم هذا الاسم على العُدوتين معا بعد حين من الزمن. وملخص هذه الرواية أن نجاح مشروع تأسيس المدينة سبقته محاولتان فاشلتان عقيمتان.

كانت المحاولة الأولى سنة 190هـ/806 م على صيغتين، جاء في الأولى التي يذكرها ابن أبي زرع الفاسي[27] أن إدريس الثاني لما استقام له الأمر وعظم ملكه، وكثر حشمه وجيشه، وضاقت بهم مدينة وليلي، عزم على بناء مدينة لنفسه يسكنها وخاصته وجنوده ووجوه أهل دولته وخرج من وليلي يتجول في جملة من النواحي ويتخير البقاع، إلى أن وصل إلى جبل زلاغ فأعجبه ارتفاعه وطيب تربته واعتدال هوائه وكثرة محارثه. فاختط مدينة بسنده من جهة الشمال وشرع في بناء المسجد والسور، وبنى قياده ووجوه دولته الديار وحفروا الآبار وغرسوا الزيتون والكروم والأشجار. ولما بلغ إدريس في بناء الأسوار ثلثها جاء السيل من أعلى الجبل في يوم عاصف ممطر وكانت الكارثة، وتهدم ما كان مبنيا وفسدت الأغراس وحمل السيل كل ذلك ورمى به في نهر سبو، فكان هذا الحدث كافيا لرفع اليد من البناء هناك.

وأورد الجزنائي[28] في الصيغة الثانية أن إدريس بن إدريس جال جملة من النواحي إلى أن بلغ جبل زلاغ وعزم أن يبني به ما كان يريد، فظهر له أن الهوام تكثر فيه زمن القيظ فانتقل لوادي سبو.

وكانت المحاولة الثانية[29] بخروج إدريس الثاني في شهر المحرم عام 191هـ/ أكتوبر 806 م من مدينة وليلي يتصيد ويرتاد لنفسه موضعا يبني فيه ما قد عزم عليه، فوصل إلى وادي سبو، وأُعجب بالموضع لقربه من الماء ومن حمة خولان (سيدي حرازم اليوم). فاستحسن الموقع وشرع في حفر الأساس وعمل الجير وقطع الخشب، وابتدأ بالبناء. ثم نظر إلى وادي سبو وكثرة مُدوده العظيمة في فصل الشتاء، وخاف على الناس الهلكة، ورفع يده عن البناء ورجع إلى مدينة وليلي.

هذا ومما لا يزال عالقا في أذهان أهل مدينة صفرو إلى اليوم، عوامها وخاصتها من المثقفين على حد سواء، اعتقادهم المتوارث شفويا عبر الأجيال أن المولى إدريس بن إدريس، وهو يرتاد النواحي بحثا عن موضع يقيم فيه مدينته، قد أقام عندهم حولين كاملين معجبا بخضرة مدينتهم وكثرة مياهها. ويستدلون على ذلك بالحي المعروف عندهم باسم” حبونا” المستلهم اسمه مما أفضى به المولى إدريس لبعض حاشيته، وقد نزل في صفرو وطاب مقامه بها، قائلا: “هؤلاء الناس أحبونا[30].

وجاءت المحاولة الناجحة[31] في الأشهر الأخيرة من نفس السنة 191هـ/ خريف 807 م، وتميزت بتفويض إدريس الثاني مهمة اختيار موضع إقامة المدينة إلى وزيره عُمير بن مُصعب الأزدي الذي خرج من وليلي من جديد ليرتاد الموضع المناسب. فجال في المناطق واخترق النواحي إلى أن وصل إلى فحص سايس، حيث أُعجب بفسحة الأرض واعتدالها وانبساطها وكثرة عيونها ومياهها، ونزل بجوار عين ماء غزيرة، غير بعيدة عن قصبة دار الدبيبغ الحالية، حملت اسمه منذئذ كما تؤكد ذلك المصادر التاريخية، “عين عُمَيِّر“، واحتفظت بهذا الاسم إلى أيامنا هذه.

ومن هناك تتبع الوزير عمير الأزدي مجرى النهر الذي  سيعرف فيما بعد باسم “واد فاس“، فقاده إلى موضع متميز بين جبلين، يخترقه النهر عدوتين، وهو غيضة ملتفة بالأشجار، مطردة العيون والأنهار، يسكنها قوم من قبائل زناتة. وهما فرعان؛ بنو يَزْغِتن الذين تعرب اسمهم مع الزمن في صيغة بني يازغة، والقائمون اليوم في مواطن لهم إلى الجنوب الشرقي من مدينة فاس؛ وزواغة المعروفون ببني الخير، والذين لا زال اسمهم يطلق بصيغته الواردة في المصادر على امتداد سهل يقع في الجنوب الغربي من المدينة الحالية. وكان هؤلاء الزناتيون على خلاف دائم فيما بينهم، لاختلاف أهوائهم ونزعاتهم، وتباين دياناتهم، إذ كان بعضهم على الإسلام، وبعضهم على النصرانية، وبعضهم على اليهودية، وبعضهم مجوسا عبدة للنار. فوقع اختياره على هذا الموضع مستحسنا كثرة وعذوبة مياهه، وطيب تربته، وصحة واعتدال هوائه.

استحسن الإمام إدريس الأزهر اختيار وزيره عمير بن مصعب ونزل بنفسه إلى أهل المنطقة، ووقف على تربتها الخصبة وتنسم هواءها المعتدل وشرب ماءها العذب وتحقق بُعدها من الصحراء والبحار والجبال الشامخة والسباخ العفنة[32]. ويفهم من سياق سرد ابن أبي زرع لتفاصيل الأحداث أن بني يزغتن كانوا سباقين إلى بيع عدوتهم الشرقية إلى الإمام إدريس، مقابل ألفين وخمسمائة درهم؛ وأنه أشهد عليهم بيعهم له بعقد تولى ضبطه كاتبه أبو الحسين عبد الله بن مالك الأنصاري الخزرجي، وذلك في الأشهر الأخيرة من سنة 191هـ/ خريف807 م. ونزل بهذه العدوة بالموضع المعروف إلى اليوم باسم “جَرْواوة“، وشرع في البناء يوم الخميس غرة ربيع الأول سنة 192هـ/ 4 يناير 808 م. فكانت مدينة ” فاس”[33].

ورغم سكوت المصادر عن مشاعر الإمام إدريس، فكل القرائن التاريخية المتوفرة توحي ببقاء شيء في نفسه بسبب عدم فوزه بصفقة العدوة الغربية، التي كانت أكثر ماء[34]، والتي كان قد استبشر كل الخير من لقب أصحابها بني الخير الزواغيين.

وضع الإمام إدريس حجر الأساس لمدينته، حسب الراجح، في حفل متميز حضره إلى جانبه خاصته وحاشيته ووجهاء دولته وأشياخ القبائل وأتباعه. وإيذانا بانطلاق أشغال البناء رفع يديه إلى السماء ودعا الله قائلا:” اللهم اجعلها دار علم وفقه يتلى بها كتابك، وتقام بها سُنَّتك وحدودك، واجعل أهلها متمسكين بالسُّنَّة والجماعة ما أبقيتها” ثم قال ” باسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين”[35].

هذا ويستشف من القراءة المتأنية للمصادر التاريخية، زيادة على ما سبق، أن الإمام إدريس الثاني رجع بعد ذلك إلى مدينة وليلي، لاستدراك ما كان يخططه ضده وضد دولته إسحاق بن عبد الحميد الأوربي، موالاة منه لبني الأغلب، فقتله يوم 7 ذي الحجة سنة 192هـ/ 3 أكتوبر 808 م، ثم قصد من جديد مدينة فاس- في العدوة الشرقية – وأقام هناك شهرا[36] يتفقد أشغال البناء والتشييد.

وأثناء مقامه هناك، أرسل إليه بنو الخير الزواغيون، جيرانه في العدوة الغربية التي كانت لا تزال غياضا على حالها، يدعونه لزيارتهم[37] إكراما له. فلبى رغبتهم[38] عناية بهم ولما أعجبه ما رأى هنالك من جمال الطبيعة وخصبها وكثرة العيون والأنهار وتدفق مياهها، استرضاهم، وابتاع منهم بقعتهم بثلاثة آلاف وخمسمائة درهم، وتخلى عن الإقامة في “فاس“، وانتقل إلى العدوة المقابلة لها ونزل بموضع يعرف باسم “المُقَرْمَدة” حيث ضرب قيطونه وشرع في البناء في غرة ربيع الثاني سنة 193هـ/22 يناير 809 م[39]. فكانت مدينة “العالية”، التي سُميت كذلك إما اعتبارا لعلوها الطبيعي وارتفاعها عن العدوة الشرقية، أو نسبة إلى علي بن أبي طالب جد الأدارسة، أو صفة لقيمة حضرتها التي شملت دار الإمام ومقامه[40]. إلا أن سبق تداول اسم “فاس” بين العامة والخاصة من الناس، كان ولا ريب من أسباب تغلب هذا الاسم ومن وراء إطلاقه على كل المدينة القائمة بعدوتيها.

د- تسمية المدينة:

1- فاس: اسم واحد وروايات متعددة:

أوردت المصادر التاريخية خمس روايات حول تسمية “فاس”:

الرواية الأولى هي للراهب المسيحي الذي كان إدريس الثاني قد استبشر بالحديث معه قبل التأسيس. ومجملها أن موضع مدينة “فاس” كانت تحتله في الأيام الخوالي مدينة تسمى “ساف” اندرست مع الزمن، وأن الإمام إدريس أخذ هذا الاسم وأمر الناس بقلبه فقلبوه وسُميت منذئذ مدينة “فاس”. ويعلق ابن أبي زرع على هذه الرواية بقوله : “وهذا أصح ما يكون في تسميتها ” فاس” والله أعلم”[41]. ويستشف القارئ الفطن أن الجزنائي- وهو ينقل هذه الرواية بالذات عن ابن أبي زرع- يستحسنها من بين الروايات الثلاثة التي نقل[42]. ويستطرد المؤلفان معا بعد هذه الرواية ويستدلان على صحتها عندهما بأن رجلا من اليهود لما احتفر أساس داره وجد فيه “دمية” من رخام على صورة جارية منقوش على صدرها بالقلم المسند: “هذا موضع حمام عمر ألف سنة ثم خُرب فأُقيم موضعه بيعة للعبادة”[43].

أما الرواية الثانية فتقول إن الإمام إدريس الثاني لما سُئل عن الاسم الذي اختار لمدينته قال سموها باسم أول وافد عليكم فيها، فوفد عليهم رجل اسمه “فارس” في لسانه لثغة سألوه عن اسمه فأجابهم مسقطا حرف الراء، فسمعه الإمام وقال لهم سموها بما نطق الرجل فسُميت مدينة ” فاس” [44].

وتقول الرواية الثالثة إن قوما من الفرس الذين وفدوا على إدريس بن إدريس من بلاد العراق آنذاك حضروا معه تأسيس المدينة، فسقط عليهم جرف فأهلكهم ولم ينج منهم إلا القليل، فسُميت مدينة “الفرس”، وخفف الناس الاسم فقالوا مدينة “فارس”، ثم اختصروه بإسقاط الراء فقالوا مدينة “فاس” [45].

أما الرواية الرابعة، وهي من أكثر الروايات شهرة، فتقول باقتباس اسم المدينة من “الفأس” الذي صنع لمؤسسها من ذهب وفضة وهو يشارك بيده تواضعا منه لله تعالى ورجاء الأجر والثواب في بنائها مع الصناع والفعلة والبنائين، فسُميت مدينة “فاس” [46].

إلا أن بعض المصادر في تعليق على هذه الرواية استبعدتها على أساس أن الإمام إدريس ما كان ليغيب عنه أن استعمال الرجال للذهب محرم في الإسلام[47]، وكأن هذه المصادر تـنزهه أن يكون قد اقترف حراما علنا.

وتقول الرواية الخامسة، وهي رواية مشهورة كذلك، ولعلها الأكثر شهرة، باقتباس اسم هذه المدينة من “الفأس” الذي عُثر عليه لما شُرع رسميا في حفر أساساتها في مرحلة الـتأسيس والبناء. وهو فأس سكتت المصادر عن المعدن الذي صُنع منه، طوله أربعة أشبار وسعته شبر واحد ووزنه ستون رطلا[48].

اعتمادا على كل ما سبق بخصوص روايات تأسيس مدينة “فاس”، وروايات تسميتها، يستنتج الباحث وكأن المصادر بهذه الروايات المختلفة قد تكاملت فيما بينها لتستحضر إبان تأسيس المدينة كل العناصر البشرية التي كانت فاعلة في مجتمعها الأول وتاريخها المبكر. وهكذا استحضرت هذه المصادر الإدريسين الأكبر والأزهر بصفتهما عربا وأشرافا من سلالة بيت النبوة. كما استحضرت كذلك بعضا من بطانة إدريس الثاني العربية: وزيره عمير بن مصعب الأزدي، وكاتبه أبا الحسين عبد الله بن مالك الأنصاري الخزرجي، وذلك إشارة منها للعناصر العربية التي وفدت على إدريس الثاني من إفريقية والأندلس سنة 189هـ/ 805 م[49]. كما استحضرت هذه المصادر كذلك العنصر الأمازيغي عبر حضور القبيلتين الزناتيتين، بني يزغتن وزواغة، أصحاب الأرض الأصليين. واستحضرت أيضا الفرس الوافدين على الإمام إدريس إذاك، والزنوج السود من خلال قصة العبد “علّون” قاطع الطريق الذي قتله الإمام إدريس بن إدريس وصلبه على رأس العين التي سُميت باسمه[50] إلى يومنا هذا. ولعل من أهم ما استحضرته هذه المصادر كذلك تلك الإشارات الواضحة حول الأهواء المختلفة لكل هذه العناصر المذكورة، إذ أكدت أن بعضهم كان على الإسلام وبعضهم على غير ذلك من المسيحية واليهودية والمجوسية. وكأن هذه المصادر بكل ذلك تشير صراحة إلى ما سيطبع مدينة فاس عبر مشوارها التاريخي الحافل من الانفتاح والتفتح، وما ستسير عليه من الاعتدال والتسامح، وما سيميز أهلها وقطانها من شمائل التعايش مع الآخر واحترامه دينا ولونا وفكرا.

يُضاف إلى ذلك أن ما أوردته المصادر بخصوص اللقى الأثرية العتيقة التي اكتُشفت في موضع مدينة فاس إبان فترة الـتأسيس، إشارة صريحة إلى عراقة الموضع وأصالته، وإلى حسن اختيار الإمام إدريس لعمارته.

2- فاس: التسمية والاجتهادات الحديثة:

في مقابل التسمية العربية للمدينة “فأس / فاس”، كما وردت في المصادر، مالت بعض الاجتهادات في السنين الأخيرة إلى فرضية الأصل الأمازيغي لاسم هذه المدينة. نسجل من بين هذه الاجتهادات أكثرها تداولا بين الباحثين: أن يكون اسم المدينة المندرسة“ساف”من أصل أمازيغي، على اعتبار أنه مجرد تحريف للفظة “أسيف/إسافن” التي تعني واد/ وديان. ويستدلون على ذلك بما اشتهر به موقع مدينة فاس من كثرة الوديان والجداول السطحية والباطنية [51].

كما مالت بعض الاجتهادات إلى فرضية الأصل اللاتاني للتسمية، وهي آخر ما استجد في هذا الموضوع. إذ يقترح أصحابها أن يكون اسم مدينة “فاس” مشتقا من لفظة لاتانية Fas التي تعني القدرة والإرادة الإلهية. ويستدلون على ذلك بأن مدينة وليلي التي انطلق منها إدريس الثاني كانت مدينة رومانية تشمل مجتمعا كان لا يزال على معرفة باللغة اللاتانية؛ وبأن لفظة “فاس” اللاتانية في حد ذاتها تعكس معنى العبارة الإسلامية “باسم الله”.

كما يقترحون كذلك أن تكون المدينة قد أُسست في يوم حسن الطالع، يوم سعيد، تصنفه الثقافة الرومانية التي كانت سائدة في حوض البحر الأبيض المتوسط آنذاك، ضمن” الأيام السعيدة” (Jours Fastes) Fastis Dies. ويستدلون على ذلك بما عرفته مدينة فاس من الأبهة والترف  Le Fasteعلى امتداد تاريخها ما دام أن لفظة Faste الفرنسية نفسها مشتقة من الأصل اللاتاني Fas[52].

1 2 3الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق