وحدة الإحياءدراسات عامة

مرحلة الختم وعلاقتها بوعي المرجع

نبحث من خلال هذه الورقة، النقلة النوعية التي تمت مع التجربة الإسلامية، التي تلت نزول القرآن وانتشار الإسلام، والتي مكنّت العالم من وعي مرجعية الكون في ما يخص عالم الفعل، ودخول المرحلة العلمية التي تعيش البشرية اليوم، والتي تشكّل استعارة ضرورية لوعي القرآن الحكيم كمرجع للوجهة، فيما يخص عالم الهداية، التي يحتاجها الإنسان لمواصلة رحلة كدحه إلى الله.

القرآن الحكيم ومعالم المرحلة

يقدّم نزول القرآن العظيم، بسورة القدر، على أنّه من أمر الله، دخل مرحلته بقدر ليكون فرقان الوجهة، ومرجع الهداية الذي يحتاجه إنسان المرحلة: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1) وإنّه نزل بإذنه تعالى نزولا معظّما تحميه الملائكة والرّوح لمنع وصول أي تحريف إليه، بليلة: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر: 4)، كما يؤكد القرآن الكريم في مواضع أخرى؛ بأنه ﴿ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، ﴿الفُرْقَان﴾، و﴿لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً[1]، كما يعلن القرآن العظيم أن الهداية مصدرها الله وحده: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى. وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ (الليل: 12-13)، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الرعد: 34، والزمر: 22 و35، وغافر: 33) .

يحرص القرآن العظيم على تمكين الإنسان من وعي الكون، ووعي سنن الله المتحكمة فيه، كما يدعو القرآن المبين، الإنسان دوما للتساؤل، والتفكّر، والتبصّر بما يدون حوله، وما يدور بداخله، كما ولّد القرآن مصطلح الآية وعمّم ذلك في المجال الكوني وفي المجال القرآني، فسمى كل وحدة للمعنى داخل القرآن آية، ودعا للنّظر إلى الكون بنفس الطريقة، ولم تستطع التجارب البشرية السّابقة أن تعي الكون كما تمّ وعيه بعد نزول القرآن.

إنها تجارب بشرية تشترك في كثير مع التجربة التي تلت نزول القرآن المبشر بمرحلة جديدة، فمثلا قامت تجارب جمعت عددا هائلا من الثقافات تحد كيانها، وكانت متنوعة ثقافيا، وعرقيا، ومناخيا، متسعة لرقعة كبيرة من الأرض وشعوب متعددة ، كتجربة قرطاج، ورومة، وبابل، واليونان، وفارس، والصين، وألمانيا، غير أن التجربة الإسلامية كانت تجربة خاصة ونوعية لا يمكن فهم قيامها خارج القرآن وبدون نزوله، فهو ما ميّزها عن باقي التجارب، وهو من دفعها لأن تعي الكون كمرجع للفعل، وأن تعي وتقبل ختم النبوة وتجهز نفسها لمرحلة جديدة، وأن ترفض تأليه الكون أو تأليه أي ظاهرة كونية، أو أن تشرك بالله غيره، أو أن تقبل أن يكون اتخذ ولدا سبحانه لا إله إلا هو.

وما من شك أن القرآن هو من حرّر إنسان التجربة الإسلامية من عبادة نجوم الكون، ورفض آلهة متعددة متحكمة فيه، فقد قدّم القرآن العظيم الكون على أنّه كون خاضع لسنن الله الصّارمة التي لن تجد لها تبديلا ولن تجد لها تحويلا، كما أوحى للإنسان أنه قادر على معرفة تلك السنن ودعاه ليقوم بدور الاستخلاف في العالم.

ولقد تولّد عن وعي الكون كمرجع للفعل استخراج المنهج العلمي وتمكين العالم منه، وأهم من ساهم في ذلك ابن الهيثم في كتابه المناظر، وتم إدخال الاجتماع البشري كمرجع لمعرفة حركة التاريخ نفسه، وفعل الإنسان فيه على يدي ابن خلدون، ليتم وعي الغربيين بمرجعية الكون بعد أن ترجم كتاب المناظر لابن الهيثم، ووصل المنهج العلمي إلى العالم جميعا.

والشيء الهام جدا هو أن بقاء الإنسان داخل العالم لآلاف السنين لم يمكنه من وعي مرجعية الكون إلا عندما أعلن القرآن دخول البشرية مرحلة الختم، والتي يعول فيها الإنسان أساسا على قدراته اعتمادا على شاهدي الوجود: الكون والقرآن فيما يخص فعله وهدايته.

والقرآن يؤكد أن الإنسان نفسه، لا يمكنه أن يعرف حتى نفسه إن لم يتم إرشاده إلى ذلك: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى. وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ وليس وعي البشرية اليوم بضرورة حضور مرجع الفعل حتى يكون الفعل ممكنا إلا استعارة محسوسة ستساهم في وعي فكرة أكثر تجريدا، والتي هي وعي أن يكون للهداية مرجعا، حتى تصير هداية الفعل لحياة كريمة مبتهجة ممكنة وعلمية، وحتى نقف عن معنى هذا التحول، وكيف تجلى في كتابات علماء التجربة الإسلامية، سوف نعرض لبعض ما جاء في كتاب المناظر لابن الهيثم، وكتاب المقدمة لابن خلدون، ومفاتيح الغيب للرازي.

أولا: ابن الهيثم

1. وصف ابن الهيثم للحيرة السائدة حول فهم الإبصار

قبل أن يشرع ابن الهيثم في تبيان حقيقة الإبصار، يورد في أول كتاب المناظر، وصفا دقيقا حول الحيرة الكبيرة السّائدة التي كدّرت الأفهام وأدت إلى العجز في حل الاختلاف الكبير في شرح كيفية الإبصار، كما يؤكد ابن الهيثم في نفس المقدّمة كيف أن الإنسان وحواسّه غير مأمونة من الغلط، وغير قادرة لوحدها أن تؤدي إلى حل الاختلافات الكثيرة والإشكالات التي تعترض الباحثين المهتمين بالوصول إلى فهم كيفية الإبصار.

إن المتقدمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر، وأعملوا فيه أفكارهم، وبذلوا فيه اجتهادهم، وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليه، ووقفوا منه على ما وقفهم البحث والتمييز عليه، ومع هذه الحال فآراؤهم في حقيقة الإبصار مختلفة، ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متفقة؛ فالحيرة متوجّهة، واليقين متعذر والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه، فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط، فطريق النظر معفى الأثر، والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل، فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتت الآراء، وتفترق الظنون، وتختلف النتائج، ويتعذر اليقين…

يضيف ابن الهيثم أمرا هامّاً للغاية، وهو اختلاف علماء الطبيعة وعلماء التعاليم (الرياضيات) حول فهم الإبصار، وبعد إفهام كل منهم عن الاتفاق حول حقيقته، فعلم الطبيعة يدرس الحواس، والحواس متصلة بالبصر، وعلم الرياضيات يهتم بدراسة الشكل والوضع والعظم والحركة والسكون والسّموت المستقيمة، وكلها تدخل في مجال مباحث كيفية الإبصار.

غير أن الجميع على اختلاف الطبيعة وعلى اختلاف تفسيراتهم استقر عندهم الرأي على أن الإبصار ينتج عن ورود صورة من المبصر إلى البصر، واستقر الأمر عند علماء التعاليم على أن البصر يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المُبْصر، وهكذا يتم الإبصار، ومن ثم يقف ابن الهيثم على أول تضاد بين أصحاب الطبيعة وأصحاب التعاليم، غير أن الإشكال الأكبر ليس في وجود الاختلاف، ولكن في كيفية حله؛ فالتجربة التي ستصاحب كل أعمال ابن الهيثم التي تبحث عن حل هذا الاختلاف، تعكس الوعي التام لضرورة إدخال الكون كشاهد يرجع إليه في كل ادعاء اتصل به؛ أي أن هناك منهجا جديدا يسمح بحل مثل هذه الاختلافات وإخراجها من الحلقة المفرغة التي تحاول حله عبر نقاشات مغلقة بين الكتب والعلماء لا علاقة للكون بها.

وكل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً، وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة، ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث، فلم يقدر على الوصول إلى الغاية، فوقف دون الغاية، ووصل أحدهما إلى الغاية وقصر الآخر عنها، فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة، وقد يعرض الخلاف أيضاً في المعنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق المباحث، وإذا حُقّق البحث وأنعم النظر ظهر الاتفاق واستقر الخلاف.

ولما كان ذلك كذلك، وكانت حقيقة هذا المعنى مع اطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر ملتبسة، وكيفية الإبصار غير متيقنة، رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونتأمله، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، ونميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس..

 ثم نرقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء، فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدريج والتلطّف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وتنحسم بها مواد الشبهات، وما نحن، مع جميع ذلك، برآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور.

وحتى يصل ابن الهيثم إلى مبتغاه، فإنه يضيف، و بشكل دائم، الكون كشاهد على صحة ما يريد الوصول إليه، كما يقوم بتوليد مصطلحاته فيسمي ما نصطلح عليه نحن بالمجرّب: المعتبر، ويسمى ما نصطلح نحن عليه اليوم بالتجربة: الاعتبار، كما أنه يقوم بصناعة ما يحتاج من آلات تسمح له بالقيام بتجاربه، كما يدل من يريد التثبت في ما وصل إليه إلى كيفية صناعة الآلة وكيفية استعمالها ليقف بنفسه على ما وصل إليه ابن الهيثم عبر التجربة والملاحظات المطردة والاستقراء المتصل بالتجربة والملتزم بها في جميع الأوقات.

وإذا استقرئت جميع المبصرات في جميع الأوقات، واعتبرت وحررت، وجدت على الصفة التي ذكرناها مطردة لا تتغير، فيدل ذلك على أن كل مبصر يدركه البصر، ويكون معه في هواء واحد، وإذا كان إدراكه له لا بالانعكاس، فإن بين كل نقطة من سطح المبصر وبين نقطة ما من سطح البصر، أو أكثر من نقطة، خطاً مستقيماً أو خطوطاً مستقيمة لا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة…

فأما كيف يعتبر هذا المعنى اعتباراً محرراً فإن اعتباره ممكن مستهل بالمساطر والأنابيب، فإذا شاء معتبر أن يعتبر ذلك ويحرره فليتخذ مسطرة في غاية الصحة والاستقامة موازياً لخطي نهايتها، ويتخذ أنبوباً أسطوانياً أجوف طوله في غاية الاستقامة، واستدارته في غاية ما يمكن من الصحة، ودائرتا طرفيه متوازيتان…

ومن ثم يتخذ ابن الهيثم من المنهج التجريبي الذي أسس له طريقا لرفع الشبهات، وحصول الاتفاق،  ورفع الحيرة التي سقط فيها من قبله عندما غاب الكون كمرجع لفعلهم، يرجع إليه لهداية العقل لمعرفة ما صحّ وما بطل من ادّعاءات؛ أي أن التجربة التي يقوم بها ابن الهيثم تعي تماما الدور الذي يلعبه الكون في صحة تفسير شيء ما من عدمه، كما أنه يجعل منها المرجع الأوّل الذي يرفع خطأ الحواس وإمكانية سقوط العقل في تصديق الباطل، فالباطل هنا، فيما يخص عالم الفعل، يرتبط بكل ما لم يصادق عليه الكون؛ أي أتت التجارب المتتالية بما ينقض صحته.

… فيجب من هذا الاعتبار وجوباً، تسقط معه الشبهات، أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه لا بالانعكاس، إلا على سموت الخطوط المستقيمة فقط، التي تتوهم ممتدة بين سطحه وبين سطح البصر…

… فقد تبين من جميع ما ذكرناه مما يوجد بالاستقراء والاعتبار، ويوجد مطرداً لا يختلف ولا ينتقض، أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد، ويكون إدراكه له لا بالانعكاس، إلا إذا اجتمعت للمبصر المعاني التي ذكرناها، وهي أن يكون بينه وبين البصر بعد ما بحسب ذلك المبصر، ويكون مقابلاً للبصر، أعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم، ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره، ويكون حجمه مقتدراً بالإضافة إلى قوة إحساس البصر، ويكون الهواء الذي بينه وبين سطح البصر أو الجسم الذي بينه وبين سطح البصر مشفاً متصل الشفيف، لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة، ويكون كثيفاً أو فيه بعض الكثافة؛ أعني أن لا يكون فيه شفيف، أو يكون مشفاً وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء المبسوط بينه وبين سطح البصر، أو الجسم المشف المتوسط بينه وبين سطح البصر، وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون، وكذلك المشف الذي فيه بعض الغلظ، فهذه المعاني هي التي لا يتم الإبصار إلا بعد اجتماعها للمبصر، وإذا اجتمعت هذه المعاني للمبصر، وكان البصر سليماً من الآفات، فإنه يدرك ذلك المبصر، وإذا عدم البصر واحداً من هذه المعاني إذن هي خواص البصر التي بها وباجتماعها يتم الإبصار.

يقودنا ابن الهيثم داخل كتاب المناظر التي يخرج فيه للعالم منهجه التجريبي العظيم، الذي سوف يغير وجه العالم إلى الأبد ليدخله مرحلة العلم، أين يرتبط صدق الفعل من عدمه بالكون كشاهد دائم على إمكانيته، وأين تستعمل الأداة كسبيل للتواصل مع الكون، وتستعمل الرياضيات كقدرة الإنسان على محاصرة الباطل عند تعامله مع الكون من ناحية، وعند تسجيله لنتائج استقرائه وتجربته وتواصله مع أبناء جنسه، من ناحية أخرى.

 تختلف أداة ابن الهيثم هنا اختلافا جذريا عن أداة الإنسان من قبل، والتي ترتبط ارتباطا مباشرا بحاجته إلى الفعل لجعل حياته ممكنة، كالمحراث للحرث، والقوس للصيد، أي حاجة مباشرة ملحة مرتبطة بالحياة، وأما أداة ابن الهيثم فهي أداة من نوع جديد، فرضها وعي دائم بضرورة حضور الكون فيما يخص كل ما اتّصل به من ادعاءات، إنها أداة تسعى لجعل التحاور مع الكون ممكنا لمعرفة صدق ما توصل إليه الاستقراء من عدمه.

 فهي أداة للاعتبار و”التجربة”، ومن ثم تؤدي تلك الأداة عند مصادقة الكون على صحة الاستقراء، إلى عدد لا متناهي من الأدوات التي تليها كتطبيقات علمية لما توصل إليه علميا، عبر المنهج العلمي الذي أسس له ابن الهيثم؛ أي كما كانت نتائج الاستقراء لوحده ضعيفة ومحدودة في مستوى التطبيقات والأدوات المرتبطة بها، فإنه على العكس من ذلك تماما، تؤدي التجربة العلمية المعتمدة على ضرورة حضور الكون وعيا لمعرفة صدق أيّ ادعاء مرتبط بعالم الفعل، إلى نتائج وتطبيقات لا محدودة واكتشافات علمية تجعل عالم الفعل متسعا دوما في حركة اقتراب دائم من الحق في ما اتصل بعالم الفعل.

يتحرك ابن الهيثم من أمثلة محسوسة إلى تعميم ذلك على الكون كضوء الكوكب من الكواكب،  والقمر والشمس؛ أي إن ابن الهيثم يولّد المصطلحات ويرى الكون كوحدة متماسكة تسمح له بتعميم ما توصل إليه وإثباته ذلك بالتجربة، ومن ثم فكرة كونية النتائج عنده.

وإذا اعتبرت هذه الحال أبداً وجدت مطردة لا تختلف ولا تتغير، وذلك يظهر للحس ظهوراً بيناً إذا تفقدت الأضواء التي تدخل من الثقب والخروق والأبواب إلى البيوت المغدرة… فيتبين من جميع ذلك أن ضوء الشمس ليس يمتد إلا على المسافات المستقيمة، وكذلك ضوء القمر إذا اعتبر وجد على هذه الصفة، وكذلك ضوء الكواكب: فإن الكواكب الكبار كالزهرة، والمشتري إذا كان في قربه الأقرب، والمريخ أيضاً إذا كان في قربه الأقرب، فإن الكوكب من هذه الكواكب إذا كان مقابلاً لثقب يفضي إلى بيت مظلم في ليل غير مقمر، فإن ضوءه  يظهر في ذلك البيت، ويوجد مقابلاً للثقب وإذا جعل الناظر بصره عند ذلك الضوء، ونظر إلى الثقب رأى الكوكب في تلك الحال مقابلاً له، فإذا راعى الكوكب زماناً مقتدراً حتى يتحرك الكوكب مسافة محسوسة، وجد ضوءه الذي في البيت قد انتقل عن موضعه وصار في مقابلة الكوكب على السمت المستقيم، وكلما تحرك الكوكب تحرك ذلك الضوء، ويوجد أبداً الضوء والثقب والكوكب على سمت الاستقامة.

ويلاحظ من كل ما تقدّم التحول الكبير الذي حدث في مستوى عمل ابن الهيثم مقارنة مع منهج العلماء من قبله، كما هو الحال، مثلا، في التجربة اليونانية السابقة للتجربة الإسلامية، حيث التعويل على التخمين، وفرض النتائج على الكون لعدم وعي مرجعتيه المتجسّد في ضرورة التجربة الدائمة لمحاورته، كما هو الحال مع ابن الهيثم، حتى يتم التأكد من صحة الاستقراء أو عدم صحته على حسب استجابة الكون له أو رفضه؛ فالاستقراء، والملاحظة، والتجربة، والأداة، والرّياضيات صارت كلها متداخلة عند ابن الهيثم، وصار الرّجوع إلى الكون في كل ما اتصل به هو أساس تجاوز الاختلاف والطريق إلى حلّه..

 كما أن كونية النتائج هي الأخرى تعكس الوعي التام بوحدة الكون الخاضع أساسا لوحدة الخالق، واستحالة أن يكون هناك آلهة متعددة، لأن ذلك سوف يؤدي لذهاب كل إله بما خلق، ومن ثم فساد الكون كله، واستحالة كونية النتائج كذلك[2]؛ فالإيمان بخالق واحد ليس قضية عقدية لا علاقة لها بما يجرى بواقع الإنسان والكون المحيط به، ومن ثم هل يمكن أن يكون لما بعد فلك القمر قوانين خاصة مختلفة عن تلك التي تحكمه تحته؟ وهل يمكن أن يكون ضوء القمر، وضوء الشمس، وضوء شمعة لكل منهم قوانينه الخاصة، ولكن هل يجب التوقف عند قول أن الأمر غير صحيح لان ذلك لا يجوز عقائديا؟ بالنسبة لابن الهيثم، لا يعول على العقل لوحده لما توصّل له من استقراء، وإنما يجب إخضاع ذلك للتجربة، أي التشاور مع الكون كشريك لمعرفة صحّة تلك النتائج من عدمه.

لم يعد المشتغل بالحكمة، الفيلسوف، متعالياً على الحرفي مع ابن الهيثم، لعلو شأن العقل المرتبط أساسا بالتعالي عن الكون، حيث يؤدي ذلك التعالي المستمر، إلى العقل الأول، وليس هناك مفر عمليا من أن يكون العالم حرفيا كذلك عند ابن الهيثم، ذلك أن صناعة الأداة صار ضروريا عند ما تم وعي الكون كشريك دائم لمعرفة صحة ما اتصل بالكون فيما يخص عالم الفعل، ولم يعد مع ابن الهيثم أمر الاختلاف بين العلماء أمر يجب ردّه إلى الكتب، والغرف المغلقة، والتعليق على الحواشي، وإنما يحسم الاختلاف بالعودة إلى الكون في كل ما اتصل به، ولم تعد النتائج والرؤى نهائية، وإنما تصير متحركة بطبعها، خاضعة هي الأخرى لتعديلات مستمرة حتى تسمح بتجاوز التناقضات النّاجمة عن تجارب جديدة..

 فمثلا إذا سلمنا أن الأجسام كلما كانت كبيرة، كان سقوطها أسرع لأن كل جسم محكوم بالعودة إلى حالته الطبيعية الأصل، كما كان معتقدا عند أرسطو مثلا، فلماذا تكون سرعة ورقة مختلفة عن سرعتها، عندما نعجنها لنغير شكلها إلى كرة مثلا؟ ولكن كيف يمكن أن يحصل مثل هذا الأمر ووعي مرجعية الكون، والتجربة غير حاصل؟

ثانيا: ابن خلدون

هذه الحيرة التي عبر عنها ابن الهيثم في كتاب المناظر، نجد شبها لها عند ابن خلدون، والتي عبر عنها في مقدمة مقدمته الشهيرة، فابن خلدون مثله مثل ابن الهيثم، كان يؤسس لعلم ومنهج للمعرفة جديدين، وكان عليه أن ينحت هو الآخر مصطلحاته كما فعل من قبل ابن الهيثم، ولأن اصطلاح ابن الهيثم على المجرب الواعي بالكون بالمعتبر، والتجربة التي يكون الكون حاضرا معها بالاعتبار، فإن ابن خلدون يسمّي كل تاريخه بـ: كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.

يستفتح ابن خلدون مقدمته الشهيرة للتاريخ بطرح الإشكال الرئيس الذي جعله يقدم على عمله الهائل: “اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل، غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط[3]“.

يبين ابن خلدون أن حقيقة التاريخ هي أنه خبر عن الاجتماع الإنساني؛ الذي هو عمران العالم بكل ما يحدث فيه، وبما أن الكذب يتطرق للخبر بطبيعته وجب معرفة الأسباب التي تقتضي ذلك، ووجب العمل على تصفية الأخبار مما لحقها طبيعيا من كذب، وكلمة طبيعته هنا هامة جدا بالنسبة لمن قرأ لابن خلدون، ذلك أنها تعني أن الخبر والكذب متداخلان بقطع النظر عن الناقل، ومن ثم وجب الانتباه إلى ذلك وتطوير وسائل تساعد على تجاوز الكذب المرتبط طبيعيا بالكذب ومحاصرته دوما، ولكن ما هي أصح الطرق المؤدية إلى ذلك حسب ابن خلدون؟ وقبل أن نلج إلى ما يطرحه ابن خلدون لمحاصرة الكذب المتطرق للخبر لطبيعته، يكون مهم أن نرى الأسباب التي عدّها ابن خلدون سببا هاما في ما تحتويه الأخبار من كذب،  ومن الأسباب الرئيسية لتطرق الكذب للخبر يقول ابن خلدون هو:

1. ابتعاد النفس عن الاعتدال عند قبول الخبر بتشيعها للآراء والمذاهب، فيقف ذلك حاجزا بين النفس وبين تمحيصها لما يصلها من أخبار، حتى تعرف الصدق من الكذب، ويؤدي تشيّعها لرأي أو نحلة قبول ما يوافق ذلك الانحياز من أخبار لأوّل وهلة، لتقع في قبول الكذب ونقله.

2. وقد تكون الثقة بالناقلين للأخبار سببا وراء قبول الخبر الكاذب، ويرجع ابن خلدون تجاوز ذلك إلى التعديل والتجريح.

3. الذهول عن مقاصد ما عاين الناقل من خبر، فينقله كما ظنه.

4. توهم الصدق، والذي هو كثير عند الناس، يشكل، كذلك، مصدرا لتطرق الكذب للأخبار التي يتم تداولها بينهم، وهي إما مرتبطة بالثقة بالناقلين، أو من جهل ناقل الخبر تطبيق الأحوال على الوقائع وصعوبة فعل ذلك.

5. تقرب الناس لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر يقف كذلك عاملا رئيسا لتطرق الكذب للخبر ونقله.

غير أن تلك الأسباب الخمسة المذكورة أعلاه، يراها ابن خلدون على أهميتها مسبوقة بسبب أهم منها جميعا، ويعتبره شرطا أساسيا يجب على الخبر أن يوفي شروطه أولا حتى ينظر في الشروط الأخرى، وذلك السبب هو طبائع العمران، والذي سوف يسخر له ابن خلدون كتابا كاملا يعرف اليوم بمقدمة ابن خلدون، وهو أشهر كتبه على الإطلاق.

ومن الأسباب المقتضية له أيضاً، وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلاً، لابد له من طبيعة تخصّه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض.

يلاحظ هنا كيف رجع ابن خلدون إلى فكرة طبيعة الشيء التي تخصه في ذاته، المهم هنا رؤية أن ما كان يبدو ممكنا عند كبار المؤرخين قبل ابن خلدون كالمسعودي والبكري، صار غير مقبول عند ابن خلدون، والسبب في ذلك أن ابن خلدون تمكن من وعي الاجتماع البشري والعمران الإنساني كمرجع للتاريخ، ومن ناحية ثانية استطاع أن يؤسس لعلوم جديدة تنضوي تحت علم العمران والاجتماع البشري، وتمكن من تجاوز منهج التعديل والتجريح الذي وصل إليه علماء المسلمين من قبله، ليكتشف أن الكذب يتطرق للخبر لطبيعته، ولا يمكن للتعديل والتجريح أن يكون ذا فاعلية في ما يخص طبائع العمران حتى يستطيع الخبر في ذاته أن يكون ممكنا اعتمادا على طبائع العمران تلك.

 فباعتماد مرجعية الكون يرفض ابن خلدون ما رواه المسعودي حول وجود مدينة بصحراء سجلماسة والتي يروى أن جلّها من نحاس، كان قد ضفر بها موسى بن نصير عند فتح المغرب، والسّبب عند ابن خلدون أن صحراء سجلماسة قد نقضها الركّاب والأدلاء، ولم يعثروا على شيء مما ذكره المسعودي، وهذا الرفض يرتبط بوعي ابن خلدون اعتماد الكون كمرجع لمعرفة صدق وكذب كل ما اتصل به، ومن ناحية ثانية  يرفض ابن خلدون اعتمادا على الإطار المعرفي الجديد الذي سوف يصاحبه طوال المقدمة والتي هي موضوعه كذلك، ليزيل عن الخبر ما علق به من كذب لطبيعته، فبناء مدينة من نحاس هي كفكرة منافية لطبائع العمران فيما يخص بناء المدن واختطاطها، والسّبب في ذلك أن المعادن تصرف في الآنية والخرثيّ وليس في بناء المدن، وأن الأحوال التي ذكرت حول المدينة وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفّق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر، هي أخبار مستحيلة منافية للأمور الطبيعية المتصلة ببناء المدن والغاية من ورائها.

كما يرفض ابن خلدون اعتمادا على مرجع عمله والإطار المعرفي الذي يؤسس له والذي يتحرك داخله علم التاريخ، وعلم الاجتماع الخلدوني، ما رواه المسعودي حول اتخاذ الإسكندر تابوتا زجاجيا، ونزوله فيه إلى قاع البحر لتصوير دواب البحر الشيطانية التي صددته عن بناء مدينة الإسكندرية، ليعمل تماثيلها من أجساد معدنية ويتم نصبها حذاء البنيان لصدها، في حكاية طويلة بدت لابن خلدون خرافة ومستحيلة لتناقض ذلك مع طبائع العمران المرتبطة بالملك، والملوك، والاجتماع البشري؛ فطبائع العمران تقتضي أن من يفعل ذلك من الملوك يكون عرضة للهلاك وتلف الملك واجتماع الناس على غيره، كما أن حياة الإنسان تحتاج إلى الهواء، ووضع الإنسان في صندوق مغلق وإنزاله في البحر مهلك له لما يحتاجه من هواء للتنفس الطبيعي، وتلك أسباب كلها من طبائع العمران التي يجب الرجوع إليها والتأكد من أن الخبر قد أوفى شروطها، قبل القبول بمثل هذه الروايات.

ثالثا: الرازي

وعي الكون الذي رأيناه عند ابن الهيثم، ووعي الاجتماع البشري وطبائع العمران التي رأيناها عند ابن خلدون لا تقتصر عليهما؛ فهناك تحول كلي في النظرة إلى الحياة، ونضج كبير حدث بالفعل مع التجربة الإسلامية لإدخال العالم إلى المرحلة العلمية التي يصاحبها وعي دائم بحضور الكون، فالفخر الرازي، صاحب “مفاتيح الغيب”، وهو يفسر آية قرآنية من سورة النحل، تؤسس لمعنى عميق للعبرة: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ (النحل: 66)، يرفض التفاسير التي لا تعي الكون ولا تلتزم شهادته على صحة أي ادعاء في حقه، وتعول على عالم العنعنة لفهم كيف يتكون اللبن، يقول الرازي في تفسير الآية:

روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو، فذاك هو قوله تعالى: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا﴾ (النحل: 66)، لا يشوبه الدم ولا الفرث.

ولقائل أن يقول: “الدم واللبن لا يتولدان ألبتة في الكرش، والدليل عليه الحس فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا، وما رأى أحد في كرشها لا دما ولا لبنا، ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلّت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه، فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما، وذلك هو الهضم الثاني، ويكون ذلك الدم مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة، وهي العروق النابتة من الكبد، وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن، فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن”[4].

ما يهمنا هنا، أن الرازي نظر إلى الرواية كمستوى معرفي لا يجب أن يتم التوقف عنده، فالرواية تقول أن هناك داخل بطن الحيوان، إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا.

الرازي يرد على ذلك، أن الذبح المتوالي للحيوانات يكذب صحة الادعاء، ويلاحظ هنا فكرة ذبح الحيوان وبشكل متوال؛ أي أن الحيوان هنا مرجع معتمد بطريقة تجعل من رفض الادعاء الأول غير ممكن، وليس النقاش هنا عقليا صرفا، ولكن النقاش والنقد يتم بطريقة عقلية اعتمادا على المرجع، يضيف الرازي أن “الشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه”[5]. واعتمادا على ذلك، حاول الرازي وضع تفسير علمي لكيفية استخلاص اللبن من بين الفرث والدم.

الخلاصة

لقد تمكن القرآن الكريم، الذي أدى نزوله إلى خروج تجربة العمران الإسلامي إلى العالم، من خلق المناخ الذي تحتاجه مرحلة الختم التي أنزل فيها وإليها، حيث ينتقل الإنسان من مرحلة ﴿اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ (المؤمنون: 27)، و﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ (البقرة: 59)، و﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ btB]óEö#<ӖöF﴾ (الأنبياء: 68)، إلى مرحلة يكون الإنسان هو المسؤول المباشر فيها عن جعل كل ذلك ممكنا في حياته عبر التفكر، والتساؤل، ووعي مرجعية الكون في ما يخص عالم الفعل، ووحدة الخالق، وخضوع الكون إلى سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وضرورة استخلاص العبر، والتعامل مع كل ما يصل إلينا كآيات مساعدة إلى تشكل تساؤلات أكبر، ودافعة الإنسان إلى عدم التوقف عندها، إنها طبائع عمران جديد، يرتبط فيها العصر، بالإيمان بالحسنى، ويرتبط فيها الإيمان نفسه بالفعل وعمل الصالحات الفعلي حتى لا يكون الإيمان نفسه وهما، ويخضع كل ذلك إلى الحق، كدال على الصدق، وكقابلية للتحقق، تشكل بوصلة يعرف بها صحة الطريق من عدمه، وعبرة مستخلصة من تجارب متعدّدة تدعم صحتها.

نلاحظ مما تقدم أن هناك أربع عناصر متداخلة، تتصل بإمكانية الفعل الإنساني، فالإنسان يحتاج الفعل لجعل حياته ممكنة، ويحتاج وعي الكون كمرجع لفعله، ليجعل من ذلك منهجا علميا مساعدا على إمكانية الفعل والتحقق من صدق ما توصل إليه استقراؤه لتجاربه، كما أن للإطار المعرفي دورا هاما في إمكانية الفعل الإنساني وتوسع دائرته، وبما أن الإنسان مخلوق يتواصل علميا مع نوعه، فإن لذلك التواصل دورا هاما في دفع الفعل البشري إلى أن يكون أكثر قدرة على توسع دائرته وتطويره ونقد التفسيرات التي تقف وراء إمكانيته، ويكون التعارف أكبر مناخ مساعد على تحقق تلك الغاية.

يلاحظ، كذلك، مما تقدم أن الرّياضيات ليست هي لغة الكون كما يظن، ذلك أن الرّياضيات تصبح عديمة الجدوى عندما يتعطل توسّع دائرة الفعل الناتجة عن ضيق الإطار المعرفي الذي تتحرك داخله الرياضيات نفسها، فرياضيات ابن الهيثم، مثلا، لا يمكنها أن تساعد في تفسير خاصّية التموج لفهم الضوء، ولن يتم ذلك، حتى يتوسع الإطار المعرفي الذي يتعامل مع الضوء كخطوط مستقيمة فقط.

 ورغم أن ذلك يستطيع أن يفسر الكثير عبر الرياضيات الهندسية، فإنه لا يستطيع أن يوقفنا عن فهم التجارب التي لا يمكن تفسيرها حتى ينظر إلى الضوء على أنه له خاصية التموج، والتي تحتاج بدورها إلى رياضيات جديدة لمواصلة الاقتراب من تفسيرات أكثر دقة لما تفرضه التجارب المتلاحقة المرتبطة بتلك الخاصية، والأمر نفسه يمكن أن يقال فيما يخص الثقب الضيقة جدا وعلاقتها بالضوء،  لو تم لابن الهيثم معرفة الليزر مثلا، حيث لا يمكنه أن يفسر كيف أن تحرك الثقب نحو الصغر يؤدي إلى اتساع طيف ضوء الليزر الذي هو خط مستقيم واحد قبل الثقب؛ أي لا يمكن أن تساعد الرّياضيات ولا الإطار المعرفي الذي تحرك داخله ابن الهيثم عند تعامله مع تجاربه المتعددة للضوء وخاصياته، على تفسير تلك الظاهرة المحيّرة والتي لا يقدر على تفسيرها اليوم غير الميكانيك الكمّي كإطار أوسع يمكّن من قدرة تفسيرية أعلى للتجارب الجديدة..

 فالرّياضيات إذا هي أداة الإنسان لمحاصرة الباطل، وهو يتعامل مع الكون الذي لا يستجيب للباطل ولا يقبله ولم يخلق باطلا، ومن ثم يمكن أن يتم التواصل مع الكون عبر القيم العليا الأخرى، لتكون استجابة الكون على قدر ما للإنسان من تلك القيم؛ فالرحمة، والعدل، والمغفرة، والحق، والقسط، وغيرها من القيم العليا الحسنى هي الأخرى لا تقل أهمية عن لغة الرّياضيات في التعامل مع الكون لإحداث نتائج كبيرة في الاجتماع الإنساني ومحيطه.

والحقيقة أن القرآن العظيم، وهو يدفع البشرية إلى وعي مرجع الفعل لجعل فعل الإنسان الذي تتطلب حياته ممكنا، يدفع في نفس الوقت، في اتجاه آخر، وهو تمكين الإنسان من وعي القرآن كمرجع للهداية التي يحتاجها فعله حتى يساعده على تجاوز الخسران كنتيجة للابتعاد عن الحق، فوعي الكون كمرجع للفعل لدخول العالم إلى مرحلة العلم، يستعمل هنا كاستعارة لرؤية القرآن كمرجع للهداية، فآيات الآفاق والأنفس تدفع في اتجاه رؤية مرجع الهداية، ومن ثم يكون الختم هو الدخول إلى مرحلة يحتاج إنسانها أن يعي الكون مرجعا لإمكانية فعله، وعليه كذلك أن يكون قادرا اعتمادا على القرآن العظيم كمرجع للهداية من جعل هداية فعله علما يكون هو صاحبه، والله الهادي إلى الحق لا إله إلا هو.

الهوامش


[1]. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾  (الأنعام: 90). ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف: 104). ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ (الفرقان: 1). ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (ص: 85). ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (القلم: 52). ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (التكوير: 27).

[2] . ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون: 92). ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 22).

[3]. عبدالرحمن ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق: خليل شحادة، بيروت: دار الفكر، ط2، (1408ﻫ/1988م)، 1/13.

[4].  الرازي، مفاتيح الغيب، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط3، 1420ﻫ، 20/232.

[5].  المصدر نفسه.

Science

د. ناجي بن الحاج الطاهر

مُحتَرَف الدراسات القرآنية

شيكاغو/الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق