وحدة الإحياءدراسات عامة

مدخل إلى الحداثة الدينية.. مساهمة في تأسيس عقلانية دينية مبدعة

إذا صح أن الحداثة، لغة واصطلاحا، مفهوما وتداولا، هي الانتقال من وضع أقل تطورا إلى آخر أكثر تحضرا؛ أي التدرج صعدا نحو الأرقى والأفضل. وإذا صح أيضا، أن “الدين” هو جملة توجيهات ربانية رسولية، متمثلة تحديدا، كتجل أول وظهور أصل في النص الديني المركز (القرآن الكريم) والأحاديث النبوية، يقتضي معرفتها، بالنسبة للمتدين، أولا ثم العمل بها ثانيا؛ أي نقلها من الإدراك المعرفي والتمثل “العلمي” إلى التحقق التطبيقي، صح معه كذلك أن الأصل في “الحداثة الدينية” هو العقل؛ أي الانتقال بالمعرفة المرتبطة بالدين من وضعها الحالي إلى وضع أفضل، على سبيل التأويل وإعادة القراءة والفهم. وتبعا لهذا لن تكون الآلية المسعفة في ذلك والمساعدة عليه إلا “الممارسة العقلانية” بما تحمله من دلالات “التوظيف العقلي” و”الاشتغال النقدي” على “فهم الدين” ومقاربة نصوصه فحصا وتدقيقا وضبطا.

 وفق هذا الاقتناع تحاول هذه الدراسة الإجابة عن الإشكال العام الآتي: ما المدخل إلى الحداثة الدينية، وما خصائص العقلانية الدينية الحداثية؟ وذلك وفق خمسة دفوع أساسية: أولها: تشخيص نقائص العقل المتماهي المقلد. ثانيها: إبراز مركزية العقل في الدين الإسلامي وضرورة تفعيله. ثالثها: التوقف عند بعض منطلقات الحداثة الدينية. رابعها: تبيان ضرورة صياغة الجواب الإسلامي الحداثي. خامسها: الدعوة إلى التعاطي مع المسألة الدينية “بعقل تأويلي” باعتباره بديلا ملائما. ونختم، أخيرا، بأهم الخلاصات المتوصل إليها مع أبرز المقترحات المتعلقة بالموضوع.

أولا: آفات عقلانية التماهي والتطابق

1. الجمود العقلي والنكوص النقدي

غير خاف أن واحدة من أمهات المشاكل الموصولة بفئة عريضة من المسلمين اليوم هي تجمدهم لحركة العقل، ونكوصهم عن الاشتغال بآليات الممارسة النقدية الحقة، بدعوى أن ما في الكتاب المنزل (القرآن الكريم) ونصوص السنة النبوية الشريفة ما يغني عن العقل الإنساني، ويسد مسد “النقد” [= من حيث هو تمظهر للقراءة المنتجة المؤسسة على آليات “علمية” للتحليل ومناهج دقيقة للوصول إلى المعرفة واستنطاق النصوص]، بل، كما هو راسخ في حيز اعتقاد البعض خطأ، أن ما أنتجه السلف شرحا وفهما وتأويلا للنصين المذكورين هو من الغنى والإحاطة و”الإطلاقية” بما ينزله منزلة الحق الذي لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ثمة، ليس “في الإمكان أبدع مما كان” ولا في المستطاع تحصيل أفضل مما حصل! الأمر الذي أنتج على مستوى الواقع كائنات بشرية عماد التفكير عندها “الحرفية النصية” أولا، والارتداد إلى بدايات تاريخ تشكل الفكر الديني ثانيا؛ نسخا وتقليدا.

إن أمرا كهذا، إذن، كفيل بتجميد عقل الإنسان وجعله عديم الفعل والإنجاز، تابعا مقلدا، ميالا إلى احتقار الذات والإقرار بعجزها المستديم على سبيل “نفي الذاتية المتجددة” وتعمد إسكات صوت العقل وكبت روح الإبداع والتطوير فيه، و”الحقيقة التي يغفلها هؤلاء هي أن القرآن لم يأت بديلا عن العقل بقدر ما جاء هاديا له ومرشدا… وهذا يعني أن العقل والنص يتكاملان من أجل خدمة الإنسان. لذا فالتخلي عن أحدهما هو تخل عنهما معا[1]“.

2. التماهي مع النص والابتعاد عن الواقع

ولربما يبدو أن مشكلة “النصيين” المقلدين في هذا الزمان أكثر خطورة وتعقيدا من تلك التي كان يعيشها “النصيون” السابقون، بحكم قربهم من “النص” وتعاطيهم المباشر معه، أما هؤلاء فالوضع مختلف، لذا فهم مجرد تابعين “للنصيين الأوائل” مقلدين لهم، بيد أن غياب القراءة العقلانية والعلمية للنص وإلغاء أية أبعاد اجتماعية أو تاريخية أو سياسية في فهمه، كل ذلك يبقى القاسم المشترك، ومركز التقاطع بينهم جميعا، وإن اختلفت الظروف وتباعدت الأزمنة.

وإلغاء ما ذكر، ليس إلا تقويضا لفاعلية العقل (أو خاصية التعقل) التي بها يكون الإنسان إنسانا، على اعتبار أن “العقل ليس جوهرا مفارقا مستقلا، وإنما هو أصلا فاعلية، وحق الفاعلية أن تتغير على الدوام، نظرا لأن مقتضى الفعل أن يفعل، وكل ما يفعل يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه. وليس العقل فاعلية فحسب، بل إنه أسمى الفاعليات الإنسانية وأقواها. وحق الفاعلية الأسمى والأقوى أن تتغير على مقتضى الزيادة أو أن تبقى على هذه الزيادة ما بقي الفعل. ومتى ما بقي العقل مرتحلا لا يقيم على حال، متقلبا بلا انقطاع، متساميا على ما عداه، استحق أن يكون عقلا [إنسانيا] متكوثرا[2]“، ناقلا صاحبه من طور إلى طور أفضل، تطويرا وتحديثا، محققا له أقصى ما يمكن من النفع، دافعا عنه أدنى ما يتحمل من الضرر، وعيا وإدراكا، علما وعملا، سلوكا واستقامة، وتلك أسمى صور “الحداثة الإنسانية”، وأعلى مراتب “العقلانية الدينية”.

ثانيا: مركزية العقل في الدين الإسلامي؛ بين مقتضيات التفعيل وموانع التعطيل

1. في ضرورة التفعيل

إذا كان لكل شريعة ما يميزها عن غيرها، ولكل دين ما يوصف به أكثر من سواه، فإن ما يميز الشريعة والدين الإسلاميين إلحاحهما الشديد على استخدام العقل، والإكثار من “التفكر” في مجمل ومفصل ما يحيط بالإنسان مادة ومعنى، تحقيقا وتجريدا. ولا أدل على ذلك من انتهاء عديد من الآيات القرآنية بـ: (أفلا تعقلون، أفلا تبصرون، أفلا يتفكرون، أفلا تذكرون، أفلا تنظرون…) من حيث هي تجليات مختلفة على سبيل البحث والتأكيد “لممارسات عقلانية” يبقى الإنسان (كائنا من كان) معنيا، بل ملزما، بالانخراط فيها، والقيام بها، كجزء من التكاليف التي جاء بها النص القرآني. وإذا أضيف إلى ذلك نهي الله تعالى، تصريحا أو كناية، عن مظاهر التقليد وتعطيل العقل، إرضاء لذهنية اجتماعية ثابتة، أو إشباعا لنزوة عرضية كما في الآيات الكريمة: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 21)؛ و﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (الشعراء: 74)؛ و﴿أَفَرَآيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ﴾ (الجاثية: 22) وغيرها كثير. إذا حصل ذلك جاز القول إن مرتكز “الخطاب القرآني” مرتكز عقلاني مقصده الأسمى تحرير الإنسان من الإنسان، تقديسا وتمجيدا، وتوجيهه إلى عبادة الخالق وحده، وذلك بواسطة منهاجه الذي يتبوأ فيه العقل مرتبة الحكم في الاختلاف.

والملاحظ أن القرآن الكريم، “وإن خاطب كل فعاليات العقل لم يستعمل لفظ العقل، وإنما خاطب في الإنسان [كما مر بنا] قدراته العقلية المتعددة وهي: النظر والتفكر والتدبر والفهم والفقه؛ أي كل القدرات العقلية التي تنفذ بالفكر من الظاهر إلى الباطن، ومن المباني إلى المعاني، ومن الأعراض إلى الجواهر[3]“؛ لذا فالمرء مطالب بمقتضى آيات القرآن الكريم بتحري الحق في جميع مظانه، وبالابتعاد عن التقليد بشتى صوره ووجوهه، وبالاعتماد على الحجة والبرهان فيما يتلقاه أو يدعو إليه. وعليه “ليس هناك مهانة يصاب بها المرء أشد وقعا وتأثيرا على حياته من تعطيل عقله، إما اتباعا لرأي شائع أو تقليدا لعرف ذائع، أو حرصا على مصلحة ظرفية[4]“، وتلكم هي الموانع الغالبة التي تعرض للناس فتبعد عقولهم عن الحق، وتصرف منافذ الفكر والحواس عندهم عن التماسه، فينزلون إلى درجة البهيمة أو ما دونها. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179).

2. في وجوب درء التعطيل

والقرآن الكريم عندما يأبى على الإنسان أن يعنو بعقله لأي سطوة أو سلطة فإنما يحفزه على اكتشاف الحق من خلال ظواهره، ودفع الباطل في كل مظاهره، وإذا توفرت للعقل هذه المؤهلات، وتمكن من أن يتبصر ويتمثل الحقائق متحررا من الوهم والتقليد والتبعية يكون قد أصبح قادرا على استكمال المعارف وتثبيت كرامة الإنسان والارتقاء بها الارتقاء المحمود وفق مسالك الدين والعقل على حد سواء.

وبالنظر إلى أن شمول الدين لكل زمان وعمومه لكل مكان لا يصحان إلا إذا كانت أحكام الدين معقولة في الأهداف والمقاصد، ومنطقية في المرامي والغايات، قابلة للتطور والتجدد مع المتغيرات الحضارية والمتطلبات الإنسانية، فإن الوضعين اللذين وصف القرآن الإسلام بهما وهما: “عموم خطابه” للبشرية، و”ختمه للرسالات السماوية” يستلزمان تحكيم العقل في خطابه واقترانه به اقترانا مستديما.

ولهذا يرى البعض أن “ختم النبوة قد انطوى على تحميل العقل مسؤوليته في الإسلام، كي يواصل في ضوء الوحي رسالة الإصلاح وإعمار الأرض[5]“، وطبيعي أن العقل المقصود هاهنا ليس العقل الذي يكتفي بظاهر الأشياء، ويقف عند منطوق النصوص نقلا وتقليدا، أو تقديسا وتمجيدا، وإنما العقل المحاور المجادل، المفكك المؤول استنادا إلى “منطق تحويلي” ونظر انتقادي تفاعلي باحث عن الدلالات الجديدة والحقائق المستورة بقصد تحوير ما يمكن أن يحور، أو إضافة ما يبدو قابلا للإضافة على سبيل الإغناء والإخصاب، والتطوير والتجديد كبدائل للتحنيط والتجميد، والاجترار والترديد.

بيد أن الممارسة “العقلانية” المعنية في هذا السياق ليست صورة لعقل “مجرد” منفلت عن الضوابط الشرعية، خارج عن الحدود الدينية وإنما هو “عقل عملي أو أخلاقي[6]” مثبتة ركائزه في مجال الشرع ومضمار الدين؛ منطلق منه، متكامل معه. فمعلوم “أن العقل [العملي-الأخلاقي] لا يهدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل؛ فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن له أس[7]“؛ وقد لخص الشيخ محمد عبده هذا التكامل في عبارته المشهورة: “والذي علينا اعتقاده أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، فالعقل من أشد أعوانه والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنزغات شياطين أو شهوات سلاطين[8]“، وقبل هذا وذاك ألف ابن رشد، فيلسوف قرطبة مؤلفه المشهور: “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال” في القرن السادس الهجري، مبرهنا على مدى التكامل والتوافق القائم بين الدين والعقل، أو الشريعة السماوية والحكمة الفلسفية مقررا أن بالدين قدرا من العقل كما أن بالعقل نصيبا من الدين!

ثالثا: بعض منطلقات الحداثة الدينية

1. من الفكر إلى الواقع

لا يعني مفهوم “الحداثة الدينية”، غير المنفصل عن “التحديث الديني”، كتابة قرآن آخر، أو الإتيان بأحاديث نبوية جديدة أو الدعوة إلى نبوة مغايرة؛ بما هي سلوكات عقلانية-معرفية أساسها التمرد على الدين واستبعاد الوحي، ومن ثمة قطع الصلة بهما جملة وتفصيلا كشروط أساسية للباس زي الحداثة والاصطباغ بلونها كما يدعو بعض المتعلمنين المعاصرين[9].

كلا ليس المقصود بذلك “التحلل” من الدين من حيث هو موروث محيل على فترات من الزمن انقضت وولت، وبالتالي حتمية اتباع “الغرب”، بوصفه أنموذجا للحداثة والعقلانية، وسلوك مسالكه في كل شيء ماديا كان أو معنويا، دينيا أو دنيويا، فكريا أو سلوكيا.

وتبعا لهذا وذاك فإن “التحديث الديني” في صورته الأولى قتل للعقلانية وخروج عن طور من أطوارها، بما هي تعامل مع الدين من منطلق غير عقلاني، والتعاطي معه بمنطق إقصائي استبعادي. وغير خاف أنه لا “اللاعقلانية” سمة من سمات الإنسان الحداثي، ولا “الإقصاء” وصف من أوصافه.

 وأما “التحديث” في صورته الثانية فشكل من أشكال التقليد، ووجه من وجوه التبعية. وليس خافيا كذلك، ألا حداثة في ظل تقليد، ولا “تحديثا” تحقق مع تبعية، كما أنهما، كما مر بنا في فقرة: “مركزية العقل في الدين الإسلامي”، من أمهات الآفات اللاتي جاء الدين الإسلامي محاربا لها، ناسفا أركانها، واضعا بذلك أساس التفكير الحر، والفهم العقلاني والمساءلة النقدية للأشياء والقضايا والظواهر، كآليات تتوافق مع مبدأ “حفظ إنسانية الإنسان”، وضمانات لاستمرار “فاعليته العقلية” التي تنسجم مع ماهيته الآدمية من حيث كونه كائنا عاقلا.

2. من النصوص الهامشية إلى النص الأصل

ومادام النص القرآني والحديث النبوي ثابتان مركزيان من ثوابت الاعتقاد والتفكير الموصولين بالفرد المسلم تخصيصا والأمة الإسلامية تعميما؛ وأصلين من أصول الدين وكمال الإيمان، ما دام ذلك كذلك فتحقيق “حداثة دينية” لن يتم إلا بإعادة قراءة هذا “النص الأصل”، القرآني والحديثي، من حيث هو نص ينطوي على مقومات تحديث أهله وطبعهم بالطابع العصري المناسب لكل زمان من الأزمنة وعصر من الأعصر، واستخراج ما يفيد في التطوير والتجديد، بمنأى عن التقليد المطلق للسلف والتقوقع المفرط داخل متاهات التاريخ، من جهة، وبعيدا عن الوقوع في عمى التبعية الكلية للغرب والسير على خطاه في مسيرتة الحداثية، من جهة أخرى؛ “فالحداثة ليست حكرا على الغرب أو الشرق. موقف الحداثة قد يوجد في كل عصر، ولدى كل الشعوب. والنزعة الدينية ليست حكرا على أوروبا والغرب كما حاول أن يوهمنا الاستشراق[10].” ثم إن الحداثة كما يقول طه عبد الرحمن: “عبارة عن نهوض الأمة، كائنة ما كانت بواحد من أزمنة التاريخ الإنساني بما يجعلها تختص بهذا الزمن من دون غيرها. وتتحمل مسؤولية المضي به إلى غايته في تكميل الإنسانية[11].” وفائدة هذا التصور كامنة في رفعه التهويل عن الحداثة جاعلا منها فعلا حضاريا تتداول عليه بالسوية الأمم المختلفة، ومن ثمة يبطل إبطالا تاما زعم من يرى أن الحداثة فعل حضاري يخص مكانا معينا وزمانا محددا. وإذا تحقق هذا، تحقق معه أيضا أن التفكير والإبداع والقدرة على “تعقل” الأشياء والظواهر والقضايا؛ كممارسات ذهنية دالة على ارتقاء الإنسان من طور حضاري إلى طور، ومن وضع معرفي إلى وضع، أمور تنسحب على مختلف الأمم من حيث هي كذلك ومطلق الثقافات بما هي ما هي. وعليه فلا حاجة لتقديس ما عند الغير، كائنا من كان، ولا فائدة من تحقير ما عند الذات، كائنة من كانت، لأن آلة التطوير والتجديد (العقل) مأصولة في هذه “الذات” كما في ذلك “الغير”، وطاقات القدرة على توظيف الفعل والخلق مبثوثات فيه كما هي.

رابعا: حتمية صياغة الجواب الإسلامي الحداثي

1. معنى الجواب الإسلامي الحداثي

لا يعنينا شيء في هذا المضمار قدر ما يعنينا التقليد في “فهم الدين” والارتكان إلى ما قاله السابقون في الموضوع “استجابة لمقتضيات عصرهم وحاجات زمانهم” للبحث عن أجوبة لأسئلة عصرنا، الكثيرة المتكوثرة، دونما قدرة على ملاءمة التغيير الاجتماعي والحضاري مع “سرمدية الدين” أو تمكن من تفاعل جديد مع “النص الديني” وقراءته قراءة حديثة مغايرة عن تلك التي مارسها الأقدمون، وتأويله تأويلا مباينا لما فعله السابقون، وإدراكه إدراكا مختلفا لما صنعه الماضون. وكأن ذلكم النص استنفذ طاقاته الدلالية، وإمكاناته التأويلية مع الجيل الذي عايش فترة نزوله أو بعدها بقليل. لذا لا حقيقة إلا ما أقروه ولا باطل إلا ما بينوه، ولا جواب بعدهم، إلا بما أجابوا به حتى وإن كانت أجوبتهم “القديمة” سابقة على أسئلتنا وإشكالاتنا “المعاصرة الحديثة!”.

كلا إن ذلك ليس كذلك فـ”لكل زمان أسئلته التي تخصه! كما أن واجب كل أمة، كائنة ما كانت، أن تجيب عن هذه الأسئلة… وما قد يغيب عن أذهان البعض هو أن الأمة لا تكون أمة بحق حتى ترقى بالجواب عن أسئلة زمانها إلى رتبة الاستقلال به؛ إذ ليس لها من امتلاك ناصية هذا الزمان من سبيل إلا هذا الجواب المستقل، وإلا صار ملكه إلى أمة سواها. فتضطر إلى أن تجيب بما تجيب به هذه[12]“، ويشتد مطلب البحث عن رد معاصر لسؤال عصرنا عندما يعرف يقينا أن “زمان” الأمة الإسلامية والدين الإسلامي ليس له نظير ولا يشاكله مثال، لكونه لا يتحدد في زمن البعثة النبوية ولا ينحصر في الفترة التي بعدها ولا يقف عند التي بعدهما، وإنما يستغرق زماننا نحن وأزمنة من بعدنا بحكم أن الدين الذي جعل هذه الأمة إسلامية وطبع حضارتها بطابع ديني، هو “الإسلام الدين الخاتم”. و”كل دين يبقى الزمان زمانه إلى أن ينسخ بدين غيره، والإسلام دين ناسخ غير منسوخ[13]“.

2. الإبداع شرط الحداثة الدينية

إذا تبين هذا، تبينت معه أكثر من ذي قبل، الحاجة الملحة إلى إعادة قراءة “النصوص الدينية” قراءة مبدعة لما يواكب التحولات الحادثة في كل مجال، الحاصلة في كل اتجاه، من جانب، مستجيبة لمنطق العصر وطبيعة الناس من جانب آخر. فمن الثابت الثابت أن لكل عهد منطقه الخاص المتميز عما سواه، ومتطلباته المحددة المغايرة لما ليست هي، وأهله الموسومين بميسم عهدهم. كما يغدو مطلب الكف عن القراءة المقلدة المقدسة لما أنتجته أذهان ماضية على سبيل فهمها “للدين” وتأويلها لنصوصه أمرا مفروضا؛ كمداخل “لتحديث العقلية الدينية” وتأسيس رؤية جديدة قوامها الاجتهاد المثمر والتجاوز الموجب.

 فمما لا يخفى على ناظر متبصر، ومتابع باحث محقق أنه مع مرور الزمن أضحت “المعرفة الإنسانية للدين، من حيث هي نصوص مقدسة متمثلة في القرآن الكريم وأحاديث الرسول، عليه السلام، معرفة مقدسة أيضا (بالتبعية)؛ أي غدت تلك المعرفة (الإنسانية) غير المقدسة أصلا حائزة صفتها تلك (القداسة) من ارتباطها بموضوع الدين، مما جعلها عصية على النقد، خارجة عن المساءلة، بعيدة عن الشك، محصنة ضد “النسبية” التي هي خاصيتها المميزة لها وجوهرها الثابت فيها. مما يعني أن هناك “رفعا” لجملة نصوص بشرية كمحاصيل اجتهادات شخصية، وتأويلات ذاتية “للدين” إلى المرتبة نفسها التي تتبوأها “النصوص الدينية الجوهرية”، احتراما وتبجيلا، صونا وحفظا. وهذا محال؛ لأن “قدسية النص الديني الأصل” مستمدة من مصدره المقدس، وتعاليه المطلق ابتداءً وانتهاءً، على نقيض “النص الفرع” الناشئ من فهم بشري لنص متعالي. ومن ثمة لن يكون هذا “النص- الفهم” إلا ناقصا نسبيا عاريا من “القداسة”. ومن/ما كانت طبيعته على ذلك النحو إلا وجب أن يكون موضع نقد ومحل نقاش؛ بل وتجاوز وتخط.

 تأسيسا على ما سبق، إذن، يتبين بما لا يدع مجالا للشك “أن “الدين” غير “المعرفة الدينية”. وما دامت كل نظرية إبستيمولوجية واقعية لابد أن تمايز بين الشيء والعلم بالشيء فإنه إذا كانت الشريعة الدينية عبارة عن مجموعة أفكار وأصول وفروع أنزلت على النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم… لن تكون المعرفة الدينية إلا الفهم الممنهج والمقنن الذي يحمله البشر عن الشريعة، وهي كباقي المعارف لها هويتها الجماعية التاريخية في مقام التحقق[14]“.

ومفاد هذا أن “المعرفة الدينية” شأنها شأن باقي المعارف يمكن مقاربتها في مقامين اثنين: الأول: مقام “التعريف”. والثاني: “التحقق”، والمعرفة في مقام التعريف كاملة خالصة صادقة؛ أي أنها على الشكل الذي يجب أن تكون عليه، لكنها في مقام التحقق؛ أي ما أنتجه العلماء لحد الآن في الواقع الخارجي، وما أضحى موضوعا للتحصيل العلمي، فهي، لا محالة ناقصة ومشتملة على أخطاء، وتبعا لهذا، “فالمعرفة الدينية”، كسائر المعارف، لها في مقام التحقق “هوية جماعية”؛ أي أنها ليست موجودة عند فرد بعينه، دون سواه، وإنما هي موزعة على الكل، كما أن لها في الآن نفسه “هوية تاريخية”؛ إذ ليس المراد من الهوية الجماعية ما يوجد لدى جماعة المعاصرين فقط، وإنما تنسحب على كل من كان لهم طوال التاريخ ملاحظات ومشاركات وإسهامات في معرفة خاصة. إن المعرفة الدينية، إذن، جهد إنساني ممنهج ومقنن، وسيال عبر التاريخ، القصد منه فهم الشريعة (الدين). أما الشريعة الحقة الخالصة فليست إلا عند الشارع[15].

كل هذا وذاك، يدفع إلى الاعتقاد أنه لكي يكسب المسلمون تحديات التحديث ليس عليهم أن يغيِّروا دينهم الثابت المقدس المحفوظ، وإنما العمل على ملاءمة فهم الدين مع المتغيرات التي تطرأ على العالم الخارجي، كمظهر من مظاهر تنمية المعارف الدينية، بحيث إذا كان الدين في ذاته لا يتغير فالفهم الإنساني له والمعرفة المرتبطة به واجب تغييرهما وتطويرهما. وهذا النمط من المعرفة ليس إلا فرعا من فروع المعرفة الإنسانية كلها. كما أنها ليست “إلهية” مقدسة من منطلق الموضوع الديني الذي تعالجه. لذا لا يجوز بأي حال من الأحوال خلطها “بالدين” كما هو في أصله وجوهره.

إن المعرفة الدينية هي نتاج جهد العلماء في دراساتهم للنواة غير المتغيرة لنصوص الإسلام. وهؤلاء العلماء يؤولون النصوص باستعمال مناهج متنوعة تنطلق من قواعد النحو العربي إلى المنطق الاستدلالي، ومن الفلسفة الأرسطية إلى الهيرمنوطيقية الحديثة. لذلك فالمعرفة الدينية تختلف باختلاف هذه المناهج، كما أنها تتأثر إلى حد كبير بالظروف المحيط ونظرة كل عالم، وفضلا عن توظيف مناهج خاصة لدراسة الدين، فإن عالم الدين يمتلك فهما خاصا للعالم وللطبيعة ولمكانة الإنسان فيهما، ويتحدد ذلك ليس من خلال دراسته للدين فقط وإنما أيضا، بفهمه لتطور العلوم الطبيعية والإنسانية وغيرها. وتبعا لهذا فنظرة وتحليل وتأويل عالم من القرون الوسطى، على سبيل المثال، ستبدو مختلفة جذريا عن نظرة ومقاربة عالم معاصر. الأمر الذي يفضي، لزوما، إلى تأويلات مختلفة للدين ومتن مغاير من المعرفة الدينية [16].

وتبعا لذلك، فإن المعرفة الدينية تتطور وتتحول عبر الزمان مثلما يحل فهم أشمل محل تأويل سابق ضيق. بيد أن كل التأويلات ترتبط بالعصر الذي يعيش فيه علماء الدين، وكذلك بدرجة تطور العلوم الإنسانية والدراسات الدينية في كل عهد. فمن المحال “دراسة القرآن من دون مؤهلات وآليات مستقاة من خارج القرآن وهاته المؤهلات التي تتحدد من خلال تصور العلماء الذهني للعالم تظهر أن أي فهم للدين مرتبط بالزمان. ذلك أن المعرفة الدينية [المعاصرة مثلا] تصاغ من خلال تطبيق علوم اليوم على دراسة جوهر “النصوص الدينية” أما الدين فهو سرمدي، ونسبية المعرفة الدينية لا تنسحب على الدين ذاته[17].”

ضمن هذا التصور يصير الاستقصاء الفكري والنقد العقلاني “للموروث المعرفي الديني” أمرين لازمين “لإعادة بناء” تأويلات مسلمي اليوم [في عصر الحداثة الفائقة Super – modernité] للنصوص الدينية وفق الفهم الجديد للعالم؛ إذ لا قيمة لعلوم اليوم، ولا فائدة من مناهج العصر وآلات الفهم والتحليل المصاحبة لها إذا لم توظف في خدمة “المسألة الدينية” وتطوير التفكير الديني في كل منحى وعلى أي صعيد؛ لأننا أمة لا تعرف بشيء مثلما تعرف بإسلامها، ولا تتميز بشيء قدر تميزها بدينها. إنه أساس تطورها وجوهر تحديثها بشرط التفاعل الإبداعي مع نصوصه والتعاطي الإيجابي مع روحه. وليس العلم به “وجودا” متحققا فقط، والإيمان به “هرما شامخا” قائما فحسب كما نؤمن بالتيارات الفكرية المتعددة والتوجهات المعرفية المتابينة، والفروع العلمية المتكوثرة. كلا “إن العلم من أجل العلم (الشيء لذاته) أداة انحراف وضلال عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية. وهو الشيء نفسه الذي قاله “هايدجر” أكبر فلاسفة العصر: إن العلم والحضارة ثمرة ظروف متراكمة عديدة أصبح الإنسان فيها غريبا عن نفسه! أي راح ضحية للعلم والفن والحضارة![18]“؛ بمعنى أن أهمية الشيء، كائنا ما كان، إنما تبرز وتنمو بقدر عطائه وفاعليته الموصولتين بالإنسان الواعي العاقل المتفطن، وليس في حالة ابتعاد هذا الإنسان عن نفسه واستغراقه في شيء آخر.

3. العلم جوهر الحداثة الدينية

وبالرجوع إلى “المسألة الدينية” يبدو واضحا أن “الدين” في أجلى صوره وصفاء جوهره ليس هو الدين المتوارث، كما تؤكد على ذلك آيات قرآنية عديدة، مسن السنن والعادات؛ لأن الأديان الوراثية كلها متشابهة؛ إذ الشيء الذي يتخذ وراثة وتقبلا واعتيادا من غير علم وبصيرة كيفما كان، ومهما كان؛ هو مردود. لا فرق بين أن يكون مذهب السنة أو الشيعة، أو الدين المسيحي أو البوذي أو الإسلامي حتى؛ إذ لا درجات في الجهل، وإنما التميز في العلم والتراتب فيه والتفاضل وفقه، وخاصة إذا كان مقرونا بإيمان صادق مشيد على العلم والمعرفة: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11).

إن مدار الأمر إذن على “الدين الأرقى من العلم[19]“، لا الدين الذي لقن تلقينا واستلمه الخلف عن السلف كمجموعة عادات و”سنن” تقليدية مكررة، لذا فليس غريبا أن ترفض الكثرة المتكاثرة من هذا الجيل الواعي تلك العادات والخصائص الموروثة “اللاعقلانية” في مجملها، ويصد عنها صدودا، من حيث هي أنماط Types وراثية متجمدة. “إن الدين الأسمى الحق هو الذي يتجاوز الفلسفة والعلم وغيرهما. إنه دين المعرفة والتنبه لا دين مجموع من السنن الوراثية المنصرمة التي لا يعرف أيعود تاريخها إلى ما قبل ألفي سنة أو ألف سنة، أم إلى زمان فلان أو فلان! والتي أصبحت مقدسة لقدمها[20]“.

إنه الدين الذي “فوق العلم”؛ الدين الذي يعتبر الإنسان ذاتا أرقى وأشرف من جميع المظاهر الطبيعية. ذات رفع الإسلام قدرها وأجلها إلى حد تقاصرت أن ترفعها إليه مختلف المدارس والتوجهات ذات النزعة الإنسانية Humanistes، لا لشيء إلا لخاصيتي “تعقله” و”تخلقه” المتكاملتين الموصولتين غير المفصولتين، المتحدتين غير المتباعدتين!

خامسا: العقل التأويلي بدل العقل “الاستنساخي”

1. التأويل أساس العقل الديني المجدد

لاشك أن التأويلية التطبيقية Herméneutique appliquée كمفتاح لقراءة النصوص واستنطاقها وخاصة التراثية الدينية منها، لا تدعو فقط إلى أورغانون (قانون) منهجي وإبستيمولوجي في قراءة التراث الإنساني وإنما إلى تشكيل “وعي تأويلي” Conscience Herméneutique أساسه الحس التاريخي والنقدي في تناول موضوعات التراث وعقلانية متميزة في فحص أصوله واستنكاه تركيبته. وهو ما يسميه “غادامير”: “الوظيفة الفعلية للتاريخ[21]“؛ أي تنزيل الدلالات التي تكشف عنها حقائق التاريخ والتراث على اللحظة الراهنة.

يقول “ساغاي”: “يتخذ الفهم دوما دلالة التطبيق؛ لأن التأويل الذي نمارسه في حق التراث يرتبط في الغالب بالسؤال الذي نطرحه؛ أي مشكلاتنا الخاصة وإمكانية أن يقدم النص المقروء إجابة لهذه المشكلات[22]“، ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أنه بالإمكان إيجاد حلول جاهزة في نصوص التراث وإنتاجات السلف للمشكلات التي تشغل بال إنسان العصر الحديث، وإنما المراد توسيع حركة التراث بنقده وتثويره ليتلاءم مع الحاضر، فالوعي التأويلي، إذن، يعكس ظهور التراث وانصهار آفاق الماضي والحاضر في حقيقة الفهم، أو الانتقال “من تأويلية المعنى إلى تأويلية الفهم[23]“؛ وعليه فالوظيفة الفعلية للتاريخ تعبر عن حياة التراث، أو التراث ككائن حي يحيا في وسط تاريخي ولغوي وجغرافي محدد، ويتغذى من التأويلات Interprétations وإرادات الفهم التي تخضعه للقراءة والتحليل، وهو تأكيد على مبدإ التعايش بين المنتج التراثي والمعطى الحاضر على أساس نوع من إتيكا الحوار L’éthique du dialogue أو “أخلاق التواصل” التي تنتفي في نطاقها “سلطة المعنى” الذي يحمله الماضي ودوغمائية “فرض الدلالة” التي تنحو نحوها قوى الحاضر[24].

بيد أن ذلك لا ينبغي أن يفهم على أنه دعوة إلى “فوضى المعنى” أو “تنسيب الحقائق جميعها”، وإنما هو تشديد على خلق “دراية” فردية، و”وعاية” جماعية في إدراك ووعي التمايز بين “الدين” من جهة، والمعرفة الدينية من جهة أخرى، بل والتفطن إلى التعالقات القائمة بين المعارف الدينية والمعارف غير الدينية للتعاطي معها على هذا الأساس، وفهمها عليه ورؤيتها في ضوئه، وليس لتقديسها وتمجيدها وإبعادها عن المساءلة والشك. وإلا ستؤول إلى عائق أمام تطور الوعي الديني المعاصر، ومانع من موانع النهوض بحداثة منسجمة مع العالم الجديد، غير مفصولة عن جوهرها وروحها الدينيين، أو لنقل “حداثة أصيلة روحا معاصرة تجليات”، لتحرير الدين مما يشوبه في جوهره من تأنيس (نسبة إلى الإنسان)، أو يعيبه في فهمه وليس في حقيقته.

وغير خاف أن الغرض من هذا كله؛ تجديد العقل الديني على “سند فكري محرر على شروط المناهج العقلية والمعايير العلمية المستجدة… خاضع لتأطير منهجي محكم، وتنظير علمي منتج وتبصر فلسفي مؤسس[25]“، ومتى تأسس عقل ما على ما ذكر، وانبنى نظره إلى “الدين” على ما عرض (بعد انبنائه على عقيدة واضحة وإيمان سام كما وضح في سابق الفقرات) استحق وصفه بـ”العقل الديني الحداثي” أو “العقل الديني المجدد”؛ لأنه يكون قد “تمثل الإسلام لا كتقليد أو وراثة أو نظام عقيدة موجود بالفعل في المجتمع، بل كإيديولوجية وإيمان حي وليس كإحساس روحاني جاف[26]“، ولن يكون الحال هاهنا إلا علامة على تحقق صورة العبودية، فردية كانت أو جماعية، لله الواحد في أسمى صورها، من حيث هي قائمة على دراية عقلية محررة من شتى أصناف الاتباعية، مكيفة مع خصائص الحياة العصرية.

والعبودية في مظهرها ذاك “لا تقتصر على الفرد من حيث هو، بل تتسع لتشمل الاجتماع الذي يشكل فيه الفرد عنصر الأصالة، فالفرد هنا تربطه علاقة رأسية بخالقه، وأخرى أفقيه بما ومن حوله، بحيث تنتهي هذه الروابط عند المبدأ-الخالق باعتبار العلاقة القائمة بين العلة والمعلول من جهة، وبين معلولات العلة الواحدة، من جهة أخرى[27]“، وتبعا لهذا يكمل بناء الحداثة في بعديها العمودي والأفقي. والحداثة في أدق تفاصيلها وأعظم تجلياتها ليست إلا دفعا بالإنسان إلى مستوى “كماله الإنساني” ورفعا للأمة إلى منزلة كمالها الحضاري.

2. الاجتهاد المجدد بدل الترديد المقلد

إذا كان القرآن الكريم قد أعلى من شأن العقل والفكر بعدما أعلى من شأن الإنسان لخاصية “تعقله” تلك، فإن الوصول بهذا الإنسان إلى آفاق أرحب وأحوال أفضل، مادة ومعنى “لا يمكن أن يتم إلا وفقا لمركز تميزه وتكريمه[28] المتمثل في العقل وانطلاقا من خاصيته الثابتة فيه دون سواه المتمثلة في العقلانية. ولن يكون العقل عقلا إلا إذا كان مبدعا متجددا متقلبا وليس متقبلا تابعا ثابتا، كما حصل في عصر التقليد، بحيث صارت أقوال الأئمة واجتهاداتهم هي “النصوص”، بحيث جعلت مجال الشرح والتفسير، بل والتطبيق؛ أي مجال توليد النصوص، واقتصرت المؤلفات على أن تكون شروحا لمؤلفات سابقة في صورة من صور إعادة الإنتاج Reproduction الفكري والمعرفي. وقد يوضع المتن في الهامش الجانبي، ويتناول الشرح عبارة الأصل المشروح، عبارة بشرحها اللغوي والفقهي وبيان ما غمض من شأنها، ثم تكثر الشروح على الشروح حتى لنجد مؤلفا مشروحا في حاشية، ثم تشرح الحاشية في حاشية أخرى وهكذا. فاقتصر الأمر على شروح المتون في الهوامش والحواشي. وكأن العقل الإسلامي كف عن التفكير، وتوقف عن الاشتغال إلا على إنتاج فكري سابق أو مجهود ذهني مضى، أو كأن مجال الاجتهاد موقوف عل فئة دون أخرى أو زمن دون آخر. كلا إن هذا الأمر لا يقره عقل ولا يدعمه منطق، إن الذي حصل “هو التوحيد بين “الدين” والتراث مما أضفى القداسة على ذلك التراث (الإنساني) فتم تحويله من مرتبة النصوص الثانوية إلى مرتبة النصوص الأولية. واقتصرت مهمة العقل على التكرار والشرح والترديد[29]“.

وقد أدى هذا كله إلى ركود الثقافة العربية الإسلامية التي عززت بدورها ركود الواقع المنتج لها، فتوقفت مسيرة التحديث، وضعفت دافعية التطوير تبعا لضعف العقل المبدع وتراجع الاجتهاد المجدد. وتبعا لهذا، لا مناص لتحقيق “يقظة حداثية” من أمرين أساسيين: أولهما: تقوية الإبداع العقلي (في مجال الدين). وثانيهما: العناية بالاجتهاد التجديدي فيه، وهما، كما يبدو، أمران متوقفان على شرطين لازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر بحكم تشكيلهما وجهي عملة عملية نقدية واحدة متمثلة في ممارسة “النقد المزدوج” المقصود به في هذا السياق، نقد النصوص التراثية (الإنسانية منها تحديدا) من حيث هو فعل موصول بالاشتغال النقدي الموضوعي (يمس موضوع النقد) أولا، ونقد العلاقة بذلك التراث، بما هو فعل مقرون بالاشتغال النقدي الذاتي (تبعا لموضوع النقد) ثانيا. ذلك أن “الحاجة إلى الاشتغال بالتراث تمليها الحاجة إلى كيفية تعاملنا معه خدمة للحداثة[30]“.

الأمر الذي من شأنه أن يخلق “انتفاضة” فكر مغاير يكون في “حوار دائم” مع التحولات الكونية الجارية؛ فاعلا فيها متفاعلا معها، يقلب نظره فيها وبها، كعلامات على حياة هذا الفكر و”صلاحية” ذلك العقل، وقدرته على التأثير والفعل فيما يحيط به من جانب، وقابليته للتأثر والانفعال (الموجبين) من جانب آخر، بعيدا عن “التوحد” الذاتي أو “الإقصاء” الغيري المميزين لصورة الذات الجامدة، و”العقل” المتخشب و”النظر” السالب؛ “فالإنسان الأحق من لم يكن شأنه أن يثبت على ذاته أو يجمد على فرديته. وإنما من كان شأنه أن “يتقلب” في أحواله النفسية وصفاته الخلقية حتى ينال هو مراده. ولذلك لابد أن تكون ذاته بعد كل تقلب مختلفة عن ذاته قبل هذا التقلب. ومن ثمة، فإن الإنسان الحق من لم تكن له ذات واحدة ووحيدة، وإنما ذوات كثيرة متتالية[31].”

ولا يغرب عن بالنا هنا مدى استناد “الممارسات العقلانية المذكورة”، التي قوامها المغايرة والمحاورة والتجدد، إلى مبدأي “الحرية” و”الفردانية” من حيث كونهما مقومين ليسا معزولين عنها، موصولين بها، ذلك أن العقل لا يحيل على شيء أكثر من إحالته على “الفرد” أولا و”الحرية” ثانيا، مثلما لا يكتمل مدلوله (ماهية ووظيفة تجريدا وتداولا) إلا في علاقته بهما، كفرعين لأصل ممتد، أو أصلين لأصل آخر ثابت! وها هنا بحث مستفيض ليس هذا مقام الخوض فيه وإنما يؤتى به في حينه.

خاتمة

لقد استعرضنا في هذا البحث المعالم الكبرى لما سميناه “عقلانية دينية حداثية” من شأنها أن تكون عاملا أساسا في تطوير الفهم الديني والإدراك العقلاني لنصوص الشريعة بعيدا عن التقليد والاجترار والتكرار من حيث هي أمور تتعارض مع جوهر الدين الإسلامي وحقيقة الوحي الرباني، ومن ثمة جعل النص الديني الموجه لحياة الناس والفاعل الأساس في واقعهم المعاصر بما هو واقع ذو “منطق خصوصي” غير مسبوق، وسمات غير تلك التي ترسخت في العهود الماضية.

 استنادا إلى جميع ما تقدم يمكن الانتهاء إلى ما يأتي:

أ. إنه “لا حداثة دينية” إلا بالاستناد إلى “إصلاح العقل الديني” كمنطلق لازم، وأس متين.

ب. إنه لا “إصلاح للعقل الديني” إلا بتشخيص آفاق التماهي والتطابق التي علقت بهذا العقل.

ج. إنه لا تشخيص لتلك الآفات إلا بالتمييز بين مسمى “الدين في ذاته” ومسمى “فهم الدين” أو التفريق بين النصوص الدينية “الأصلية” والنصوص “الثانوية”.

د. إنه لا سبيل إلى ذلك التميز إلا بإعادة الاعتبار إلى “مركزية العقل والعقلانية” في الدين الإسلامي و”المجال التداولي” الموصول به.

ﻫ. إنه لا مدخل لإعادة الاعتبار تلك إلا بتحييد الاختلاف والتناقض بين “العقل والدين” وتقريب الائتلاف والتوافق بينهما.

و. إنه لا إمكان للوصول إلى تحقيق التوافق ذاك إلا بحفظ “قداسة الدين” في جوهره وإبراز أهمية العقل في فهمه وتطبيقه (الدين)، ومن ثمة تقديم أجوبة دينية حديثة على إشكاليات اليوم.

ز. إنه لا جواب ممكنا إلا بالاستقصاء الفكري والنقد العقلاني المحررين وفق المناهج العقلية والمعايير العلمية المستجدة الحائزة على قدر من النظر العلمي المنتج والتبصر الفلسفي المبدع.

ح. إنه لا مطمع في القيام بتقصي فكري ونقد عقلاني دون إبداع عقلي وتجديد اجتهادي رافعين من كرامة الفرد وقيمته، حافظين لحريته وآدميته.

ط. إنه لا “حداثة دينية” إلا بتحديث الذهنية، ولا تحديث لذهنية إسلامية إلا وفق ما ذكر (في حيز الاعتقاد الشخصي على الأقل).

وبعد، فإن المتأمل في هذه الخلاصات التي تعمدنا صياغتها على صورة “دعاوى” ليكتشف أن مدارها جميعا على “العقل والعقلانية” أو لنقل “حداثة ذهنية” مركوزة جذورها في جوهر الدين مستمدة مقوماتها من “حقيقة التدين”. لذا ليس بعيدا أن يعترض ذلكم المتأمل الناظر: وما شأن “الحداثة الدينية” أو “حداثة العقلانية الدينية” ذات التوجه المعنوي في خضم هول “الحداثة المادية” المعاصرة وصورها الطاغية على آفاق الناس والكون؟ أو ما علاقة هاته بتلك؟

له أن يقول ذلك، إلا أننا نرى أن الانطلاق من العقل عامة والعقل الديني الإسلامي خاصة والعمل على تقويمهما وإصلاحهما لا يعني، بأي حال من الأحوال، التوقف عند ذلك الحد (الذي لابد منه) وإهمال ما يرتبط به أو يترتب عليه. كما لا يعني ذلك، أيضا، أن ثمة تعارضا بين “الحداثة الدينية” (=حداثة العقلانية والإبداع والنقد والتحرر والالتزام والأخلاق) و”الحداثة المادية” المشهودة. اللهم إلا إذا أردنا أن نستنسخ نموذج “الحداثة الغربية المادية”. وهذا محال؛ لأن الأصل في “الحداثة” الابتداع وليس الاتباع كما سلف بيان ذلك.

أضف إلى ذلك، أن “العقلانية الدينية الحداثية” كما قمنا بتوصيفها وتحديد أبرز مقوماتها ومعالمها، تبعد عن أن تكون مكتفية بذاتها مجردة عن الإنسان والكون وإنما هي، على العكس من ذلك، “عقلانية عملية” تتجلى آثارها على الفرد (أو الجماعة) المتصف بها أولا والواقع ثانيا. وغير خاف أن “الدين الإسلامي” ما عرف بشيء، في هذا المضمار، مثلما عرف بربطه “بين العلم والعمل”؛ إذ لا قيمة لعلم لا يصير إنتاجا عمليا. كما لا خير في عمل إذا لم يكن قائما على سند معرفي علمي. وعليه فلا تعارض، إذن، بين “تحديث العقلانية الدينية” وتحديث “الواقع الإسلامي”، بل بينهما من التعالق والتكامل ما يرفعهما إلى مرتبة “التعالق السببي” أو الارتباط “العلي” الذي يمكن صوغه كما يأتي:

لا تحديث حقيقيا للواقع الإسلامي إلا بتحديث العقلية الدينية الثاوية خلفه، الموصولة به.

على اعتبار أن الواقع الإنساني، كائنا ما كان، انعكاس واضح لنمط تفكير القيمين عليه، وظل بارز لعقل الفاعلين فيه، وتجل بين لمنسوب إدراكهم ووعيهم. كما تدلل على ذلك شواهد عديدة يسند فيها العقل النقل، يضيق المقام عن بسطها.

الهوامش

  1.  قاسم شعب، تحرير العقل الإسلامي، البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2007، ص8.
  2.  طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي. ط1، 1998، ص21.
  3.  محمد الكتاني، الإسلام وقيم العقلانية والحوار، الدار البيضاء: منشورات المجلس العلمي المحلي، المغرب. مطبعة النجاح الجديدة. ط1، 2006، ص13.
  4.  المرجع السابق. ص14.
  5.  محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، دار الفكر،1991، ص138.
  6.  خليل أحمد خليل، العقل في الإسلام: بحث فلسفي في حدود شراكة بين العقل الفلسفي والعقل العملي، دار الفكر المعاصر، 1993، ص145.
  7.  محمد الكتاني، الإسلام وقيم العقلانية والحوار، م، س، ص19.
  8.  الشيخ محمد عبده، رسالة التوحيد، القاهرة: دار النهضة، مصر، 1987، ص14.
  9.  ثمة مشروع شخصي قيد الإنجاز معنون بـ”أزمة القراءة العلمانية للنص الديني” موجهة بهاجس فكري يتغيى كشف تهافت جملة من “القراءات العلمانية” للنصوص الدينية التي تتمثل في عدد من كتابات بعض المفكرين العرب المعاصرين.
  10.  مختار الفجاري، نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون، بيروت: دار الطليعة، ط1، 2005، ص156.
  11.  طه عبد الرحمن، الحداثة والمقاومة، لبنان: معهد المعارف الحكمية، 2007، ص20.
  12.  طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص15.
  13.  المرجع السابق، ص15-16. ثم “روح الحداثة” للمؤلف نفسه، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005 ص193.
  14.  آرش نراقي، خلاصة نظرية تكامل المعرفة الدينية: القبض والبسط النظري للشريعة، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 15، 2001، ص250.
  15.  المرجع نفسه.
  16.  ولاء وكيلي، الحوار حول الدين والسياسة في إيران: الفكر السياسي لعبد الكريم سوروش، سلسلة “الإسلام والإنسانية”، الدار البيضاء: دار الفنك، المغرب، 1999، ص29–30.
  17.  المرجع نفسه، ص31.
  18.  علي شريعتي، النباهة والاستحمار، ترجمة هادي السيد ياسين، بيروت: دار الأمير، لبنان، ط2، 2007م، ص137
  19.  المرجع نفسه، ص70.
  20.  المرجع نفسه.
  21.  Jean Grondin, (La conscience du travail de l’histoire et le problème de la vérité en herméneutique), archives de philosophie, n° 44. 1981. P: 435.
  22.  Yashar Saghai, (La vérité comme dialogue et entente chez Gadamer), revue Idées. N° 1. 1998. P: 19.
  23. للتوسع ينظر مختار الفجاري، الفكر العربي الإسلامي: من تأويلية المعنى إلى تأويلية الفهم، عالم الكتب الحديث، 2009. ثم عبد الغني بارة، الهرمينوطيقا والفلسفة: نحو مشروع عقل تأويلي، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، مدخل الكتاب تحديدا.
  24.  شوقي الزين، مفتاح التأويل في قراءة التراث الإنساني، مجلة فكر ونقد، العدد28، أبريل 2000، ص61.
  25.  طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط3، 2000. ص9.
  26.  علي شريعتي، العودة إلى الذات، ترجمة: إبراهيم دسوقي شتى، دار الأمير، ط1، 2006، ص27.
  27. حبيب فياض، مقاربات في فهم الدين، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2008، ص159-160.
  28.  لمزيد تفصيل حول “مركزية العقل” في القرآن الكريم. يراجع: نصر حامد أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، ط6، 2007، ص241 وما بعدها.
  29.  نصر حامد أبو زيد. النص والسلطة والحقيقة، المركز الثقافي العربي، ط4، 2000، ص20.
  30.  محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1991، ص18.
  31.  محمد الشيخ، المغاربة والحداثة، سلسلة المعرفة للجميع، العدد34، 2007، ص149.
الوسوم

د. العياشي ادراوي

دكتوراه في اللسانيات التواصلية، أستاذ باحث/المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق