محطات من تاريخ الطب في المغرب الأقصى (الحلقة الثالثة)

الدكتور جمال بامي
رئيس مركز ابن البنا المراكشي
ينفرد صاحب كتاب “بلغة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب” بذكر مجموعة من علماء الطب بسبتة خلال العصر المريني: منهم الطبيب محمد الشريشي السبتي، كان له تقدم في صناعة الطب ومعرفة بما يرجع إليها من علم وعمل، استدعاه السلطان أبو عنان إلى حضرته بفاس، فاجتمع هنالك مع جماعة من الأطباء، والطبيب محمد بن مقاتل السبتي المتوفى عام 764 هـ/ 1362م، والطبيبة عائشة ابنة الشيخ محمد بن الجيار محتسب سبتة: قرأت علم الطب على صهرها الشيخ الشريشي ونبغت فيه، وكانت عارفة بخواص العقاقير وما يرجع إلى ذلك.
هذا ما يجعلني أفترض وجود مدرسة طبية سبتية، لا يبدو أنها كانت عامة بالمغرب نظرا لسكوت المصادر عن أي ازدهار حقيقي لعلم الطب خلال هذا العصر، وهو الأمر الذي وقف عنده الباحث عبد الصمد العشاب، لكنه اختار مسارا آخر في التحليل حين قال: “فإذا كان هذا عدد الأطباء العلماء المشهورين في بلدة واحدة هي سبتة، فماذا يكون عددهم في بقية المدن وخاصة العواصم كفاس ومراكش؟ لا شك أن هذه الطبقة من العلماء الطبيعيين والرياضيين والفلاسفة ضاعت تراجم الكثير منهم، وضاعت بالتالي أعمالهم العلمية من كتب ونظريات وتجارب“. لكنني أرى أن هذا السكوت هو تعبير عن واقع حال لاسيما وأن التأريخ الفكري خلال العصر المريني ازدهر في شتى المجالات العلمية، فكيف يستثنى الطب من ذلك؟
وقد عرف العصر المريني ازدهار الزوايا والطرق الدينية المختلفة، وكثرت كتب المناقب والتراجم، وانتعش الحديث عن الكرامات، من ذلك أن الأمير المريني عبد الحق بن محيو –مؤسس الدولة- كانت له “بركة معروفة (…) وكانت قلنسوته وسراويله يتبرك بها في جميع أحياء زناتة، تحمل إلى الحوامل اللواتي صعب عليهن الوضع فيهون الله عليهن الوضع ويسهل عليهن الولادة ببركته، وكان بقية وضوئه يحمله الناس (…) فيستشفون به لمرضاهم”[1].
ويذكر أحمد المقري حادثة تبرز الصراع الذي حصل بين بعض الأطباء خلال العصر المريني وبعض المتصوفة المتعاطين للطب، وذلك أن “متطببا ممن يسر إنكار الكرامات؛ فأتته امرأة بصبي يشتكي ألم الحصا، فقال لجليس له ممن يماليه على مذهبه، قم بنا إلى هذا الفقيه، يعني الشيخ أبا إسحاق حتى نرى ما يصنع، فدخلا عليه موضع إقرائه ومجتمع جلسائه، فسأل الصبي عن شكايته فأخبره (…) وجعل إحدى يديه على ظهر الصبي، والأخرى على قلبه، (…) ثم قذف من الحصيات قدر الحمص خمسا أو نحوها مخضوبة بالدم (…) ثم عطف الشيخ حنقا على المتطبب وصاحبه قال : إنكارهم أحوج إلى هذا، فثوبا إلى الله“[1].
لا شك أن هذه “الأسطورة” تؤكد على انتصار الطب المرتبط بالخفي على الطب الطبيعي المرتبط بالعلم والتجربة خلال هذا العصر، كما أن التضييق على العلماء المسلمين بالأندلس، ومنعهم من مزاولة الطب ساهم في إفقار المعرفة الطبية بالمغرب خلال هذه الفترة؛ وأحد الأدلة على ذلك المرسوم الذي أصدره الملك خوان الثاني في بلد الوليد بإسبانيا سنة 1308م يمنع بمقتضاه على المسلمين ممارسة عدد من الأمور العامة والخاصة، ومنها منعهم من مزاولة مهنة الجراحة أو العطارة أو بيع المواد الغذائية أو الأدوية ويعاقب من يخالف بدفع غرامة قدرها 2000 مرابطي وبالجلد زائداً على الغرامة[3].
ولنا في ابن خلدون شهادة حية على ما عرفه هذا العصر من انتشار الممارسات المرتبطة بالخفي على حساب الممارسة الطبية التجريبية العالمة، يقول ابن خلدون: “ولذلك تجد الكثير من الناس يتشوقون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة، ولقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك“[4].
إن ابن خلدون يشهد بنفسه على بعض المظاهر المصاحبة للسحر إذ يقول: “وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك، ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه“[5].
كان عبد الرحمن بن خلدون يعي أهمية معتقدات الناس وممارساتهم الشعبية إبان حكم المرينيين (القرن 8 الهجري)، وهو لم يكتف بسردها بل اتخذ منها مواقف، وهو يسمي السحر وبعض ما يتعلق به “علوماً” ويعرفها بأنها: “علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية والأول هو السحر والثاني هو الطلسمات“؛ وفي هذا القول إشارة ضمنية إلا أن مبعث مثل هذه “العلوم” هو القصور التقني الآلي للإنسان حيث يهرع إلى هذه الوسائل كي يغير في عناصر الطبيعة من حوله، وابن خلدون يؤكد هذه الفكرة حين يذكر أن مظاهر السحر المذكورة تبغي إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى “بالقوة النفسية وليس بالصناعة العملية“[6].
ولا يكتفي ابن خلدون بالرؤية النظرية لمثل هذه الأعمال السحرية بل يلجأ إلى ميدانها بين الناس وإلى العقلاء والنخبة منهم يحاورهم بشأنها بهدف إقناعهم بزيفها: “ففاوضت يوماً شيخنا أبا البركات التلفيقي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك وأوقفته على بعض التآليف فتصفحه طويلاً ثم رده إلي وقال لي: وأنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة“..
خلال العصر السعدي سيعرف الطب بالمغرب نهضة بعد ركود، وإذا كان الحسن الوزان يقول: أنه لا يوجد بحاحا “أي طبيب من أي صنف وأي جراح ولا عقاقيري“[7]، مما يفتح المجال بشكل طبيعي لظهور المتطببين ومحترفي “العلاقة مع الخفي“، فإن مؤشرات أخرى تدل على نهضة طبية تم التأسيس لها في عصر أحمد المنصور الذهبي، وعرفت ذروتها مع الطبيب النباتي الوزير الغساني..
في عصر الدولة السعدية، لاسيما زمن أحمد المنصور الذهبي، نبغ طبيب رفع من قيمة العصر الذي عاش فيه هو أبو القاسم بن أحمد بن عيسى المعروف بالغول الفشتالي، ألف كتاب حافظ المزاج ولافظ الأمشاج بالعلاج؛ وهذا الكتاب عبارة عن منظومة رجزية تقع في نحو خمسمائة وألف بيت، مرتب على أربعة وعشرين باباً؛ فيها الحديث عن وجع الرأس والشقيقة والزكام والقروعة وجرب الرأس وداء الثعلبة، وهو الذي نسميه بـ “الثنية”، وختم بالباب الرابع والعشرين الذي تحدث فيه عن أنواع الأشربة والمربيات والأدهان والأوزان والمقادير[8].
وقد كان للطب في العصر السعدي مزيد اعتناء بأهله واهتمام بشأنه، ومما يدل على ارتقاء شأن الطب في هذا العصر ما وصفه السلطان أحمد المنصور الذهبي في كتابه لولده بمراكش عند ظهور الوباء من أنواع الوقاية والعلاج ونص المراد منه: “وإلى هذا -أسعدكم الله- أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء ولو أقل القليل حتى بشخص واحد، ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله، فالزموه إذا استشعرتم بحرارة وتخوفتموها فاستعملوا الوصف من الوزن المعروف منه ولا تهملوا استعماله، وأما ولدنا -حفظه الله لمكان الشبيبة- فحيث يمنعه الحال من المداومة على الترياق، فها هي الشربة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هُنَالِكُمْ عند التونسي فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله حتى إذا أحس ببرد المعدة من أجلها تعطوه الترياق فيعود إليها. والبراءة التي ترد عليكم من سوس أو من عند الحاكم أو من عند ولد خالكم أو من عند غيرهما لا تقرأ ولا تدخل داراً، بل تعطى لكاتبكم هو الذي يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها، ولأجل أن الكاتب يدخل عليكم ويلابس مقامكم فلا يفتحها إلا بعد إدخالها في خل ثقيف وتنشر فتيبس وحينئذ يقرأها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس يأتيكم من سوس ما يستوجب الكتمان[9].
وقد أشار الحسن الوزان (ليون الإفريقي) إلى الأمراض التي كانت منتشرة في هذا العصر (القرن العاشر الهجري) نذكر منها الطاعون ثم الصرع أو داء النقطة وحب الإفرنج، وهو مرض الزهري المعروف في المغرب بالنوار؛ وداء المفاصل والجرب (الحكة) والقرع، وتضخم الغدة الدرقية وداء الغباوة الناتج عن نقص في البنية. ويكثر ذلك في البداية، وبالخصوص حيث يكثر الفقر والماء الممزوج بالجير وداء الجذام الوراثي، وذكر كودار في تاريخه أن اليهود الأندلسيِّين اللاجئين إلى المغرب هم الذين أدخلوا الأمراض التناسلية مثل الزهري[10]..
ومن أطباء العصر السعدي محمد بن سعيد المرغيثي السوسي، (1598م/1678م)؛ وكان قد تصدر بمراكش لعلاج الناس مدة، ولكنه اعتزل التطبيب بسبب أن إنساناً حمل إليه قارورة فيها بول مريض وهو بالمسجد؛ فاستاء من ذلك، وقال: إن عملاً يؤدي إلى أن أكون سبباً في دخول النجاسة للمسجد لا أشتغل به!! ومن أطباء هذا العصر أبو علي الحسن بن أحمد المسفيوي المراكشي الطبيب (1560 م/1594م): أخذ علم الطب على شيخه أبي القاسم الوزير الغساني، وكان المسفيوي على إلمام ببعض اللغات الأجنبية، ولذلك ذكر المقري في “النفح” أنه قام بتعريب بعض الكتب بإذن من السلطان أحمد المنصور الذهبي. وابن عزوز المراكشي الذي ألف كتاب ذهاب الكسوف في طب العيون؛ وأبو القاسم الوزير الغساني من أهل فاس، كان طبيباً ماهراً، اختص به السلطان أحمد المنصور الذهبي فصيره من أطبائه وقربه إليه، بل واعتمد عليه في خطة لإصلاح مهنة الطب بالمغرب:
قال عنه أحمد المقري في نفح الطيب: “العلم الجليل علماً وقدراً العلامة المتفنن، ذو التآليف المفيدة والعلم الغزير الفقيه أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني، أخذ الطب عن والده محمد (..) ولكنه تفرد بعلم الطب وصار مرموقاً في العاصمتين مراكش وفاس معروفاً بهذه المهنة راسخ القدم فيها، وله في هذا العلم مؤلفات خدم بها البلاط السعدي في عهد أحمد المنصور الذهبي.
ألف الوزير الغساني كتاباً سماه: حديقة الأزهار في الأعشاب والعقار، وهو المعروف بكتاب الأدوية المفردة، وبشأن هذا الكتاب يقول المقري: “حديقة الأزهار في ماهية الأعشاب والعقار كتاب في بابه لم يؤلف مثله؛ يذكر سائر الأعشاب والعقاقير بما سميت به في الكتب، ثم يذكر اسمها بلسان العامة، ثم يذكر خواص الأعشاب على وجه عجيب وأسلوب غريب“. وتجدر الإشارة إلى أن الطبيب الوزير الغساني كان على دراية باللغات الأجنبية، ولعلها اللاتينية القديمة والبرتغالية والإسبانية؛ وقد نشرت دراسة لكتاب حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار أبرزت فيها أن كتاب الوزير الغساني هو استمرارية لكتاب عمدة الطبيب في معرفة النبات لأبي الخير الاشبيلي الذي ألف خلال العصر الموحدي[11].
رتب الوزير الغساني كتابه على الحروف الأبجدية باصطلاح المغاربة، يذكر الاسم العلمي –المتداول في عصره، وهو اسم عربي- للمادة الطبية المفردة ثم يشرح ماهيتها ويصف شكلها وأجزاءها بشكل دقيق واصفا الجذور و الأغصان والأزهار والثمار. ومن مزايا كتاب الوزير الغساني ذكره الأسماء المتعددة للنبات الواحد و وصفه البيئة التي تنبت فيها النباتات، ويذكر اسمها الشائع على لسان العامة في المغرب بالدارجة المغربية –خصوصا لهجة أهل فاس- أو باللسان الأمازيغي، وبعد أن يوضح ماهية المادة النباتية ينتقل إلى بيان طبيعتها وأخيراً يذكر خواصها ومنافعها الطبية أو مضارها إن اقتضى الحال من غير دخول في التفاصيل المتعلقة بالمقادير وطريقة التحضير إلا نادراً، ثم يختم بذكر بدلها succédané إذا تعذر وجودها. ولم يهتم الوزير الغساني بالمواد الحيوانية و المعدنية إلا نادرا. تناول الغساني في كتابه بالشرح نحو 380 مادة مفردة معظمها من جنس النبات، وعدد المفردات الحيوانية والمعدنية التي ذكرها في كتابه سبع.
اعتمد الوزير الغساني على المعاينة والملاحظة المباشرة عبر الرحلات الاستكشافية التي كان يقوم بها… فنجده في عدة مواضع يقول مثلاً: “ولقد رأيته كثيراً ووقفت عليه بجبال تاغيا وقطفته هنالك بيدي”؛ و”قد رأيت منه شجرة واحدة عندنا بفاس..“. كما أننا نجده في حالات أخرى ينقل عن مصادر موثوقة يختارها. من ذلك مثلاً: “ولقد حدثني والدي.. أنه رآه ووقف عليه..”، وفي مكان آخر: “وحدثني والدي.. أنه رأى أخرى“[12].
يأتي كتاب الوزير الغساني حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار باعتباره جردا ووصفا دقيقا للنباتات الطبية المستعملة في العلاج في العصر السعدي، مع ذكر الخصائص النباتية والمعطيات البيئية والاستعمالات الطبية، بالإضافة إلى معلومات اقتصادية واجتماعية ذات أهمية بالغة بالنسبة للمؤرخين والأنثروبولوجيين.. والجدير بالملاحظة أنه إذا كان الوزير الغساني يشبه في طريقته طريقة أبي الخير الاشبيلي من حيث العناية بالتصنيف النباتي الدقيق، فإنه تميز عنه بإعطاء حيز لا يقل أهمية للخصائص العلاجية للنباتات التي يصفها..
ومما أثارني عند دراسة كتاب الوزير الغساني هو وقوفه في غابة المعمورة –قرب مدينة سلا- بالمغرب على شجيرة الكُمثري (الأجّاص) البري Pyrus mamorensis الذي يبدو من خلال اسمه العلمي أنه خاص بمنطقة المعمورة ولا يوجد بغيرها، يقول الوزير الغساني: “والبري هو الإنْجاص الشتوي المعروف، منابته الغاب والأرض المكللة بالشجر، ولقد رأيته ووقفت عليه بغابة المعمورة بقرب مدينة سلا“، وهذه معلومة بالغة الأهمية من حيث التوطين الذي يقدمه الوزير الغساني لنبتة قبسية Endémique في مغرب القرن السادس عشر..
ونجد الغساني في مواضع أخرى عندما يتعلق الأمر بمواد مستوردة من بلاد بعيدة، لا يكتفي دائماً بالنقل عن كتب القدماء الموثوق بها، بل يجتهد في تعرّف تلك المواد عند باعة العطور والأعشاب والمواد الصيدلية؛ كما أنه يلجأ إلى سؤال الرحالة والتجار لاستكمال معلوماته حول المواد النادرة التي أغفلها سابقوه. ومن ذلك ما يحكيه عند تعريفه خرّوب السودان: “لم يذكره أحد من الأطباء القدماء والمتأخرين إلى هلم جراً، وإنما استخرج بعدهم. حدثني من أثق به من التجار المسافرين للسودان أن شجرته تشبه شجرة النارنج شكلا وورقا..”[13].
وقد امتاز الغساني “بالوضوح في الوصف، والاقتصاد في التعبير، وسلك مسلكا جعله يهتم بالزهور والثمار والبزور والجذور والأوراق، ويلاحظ وجود نباتات طفيلية، ولا يخوض فيما لم يشاهده ولم يعرفه، ثم إنه قد اهتم بالبيئة الطبيعية التي تعيش فيها بعض النباتات، وهو ما يطلق عليه علماء النبات المعاصرون: Biotope“[14]، كما حاول الغساني في حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار وضع نسق تصنيفي للأعشاب الطبية التي درسها في الميدان، مستخلصا منهجه التصنيفي من كتاب عمدة الطبيب في معرفة النبات لأبي الخير الأشبيلي محييا بذلك كتابا ظل “صامتا” لقرون، وهذه قيمة مضافة تحسب للوزير الغساني..
هناك قيمة علمية أخرى لكتاب حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار تتمثل في جرده للنباتات الطبية التي كانت منتشرة عند باعة الأعشاب والعطارين والصيادلة في عصره خصوصا في مدينة فاس؛ بالإضافة إلى معلومات وافية يقدمها المؤلف حول أماكن جلب النباتات التلقائية والمستوردة، ومعلومات حول التجارة في فاس خلال القرن السادس عشر والعادات الحضرية لأهل فاس..[15].
إن معظم النباتات التي جردها الوزير الغساني قد عاينها ميدانيا بنفسه خلال رحلاته المتعددة، كما اعتمد على معلومات والده الذي يغلب على الظن أنه كان طبيبا[16]. ويؤكد المؤرخ رينو تفرد الغساني في عصره بقوله ” يعد الغساني ذهناً متميزاً إذا قيس بعصره وبينته، والحكم على أثاره لا يتأتى دون مقارنتها بالعديد من مصنفات المادة الطبية لمؤلفين عرب آخرين”[17] انطلاقا من هذه الملاحظات يمكن اعتبار الوزير الغساني مؤلفا أصيلا، ذلك أنه فطن -في عصر تميز بالجمود العلمي في ميداني علم النبات والطب- إلى منهج أبي الخير الأشبيلي من خلال كتابه عمدة الطبيب الذي كان قد طاله النسيان في القرن السادس عشر إلى أن بعثه الوزير الغساني من مرقده، لذلك يستحق هذا العالم أن يوضع في قمة المؤلفين في علم النبات الطبي في العالم الإسلامي..
يتبع في العدد المقبل..
——————————————
1. ابن أبي زرع، الأنيس المطرب، ص: 285؛ ومجهول الذخيرة، ص: 3.
- المقري، أزهار، ص: 15، ج 4، تحقيق سعيد أعراب، محمد بن تاويت مطبعة فضالة، المحمدية، 1978.
- عبد الصمد العشاب، مساهمة علماء المغرب في ميدان الطب والتطبيب، مجلة التاريخ المغربي، ع 15. عبد الرحمن بن خلدون، نفس المرجع.
- نفس المرجع.
- مرجع سابق.
- مرجع سابق.
- ابن الوزان، للحسن (ليون الأفريقي). كتاب وصف إفريقيا، الشهير، ترجمه بالفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي الطبعة الثانية، 1972.
- ترجمة الغول الفشتالي للأستاذ عبد الله كَنون، جريدة الميثاق، العددان: 227 و 228.
- كنون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، لبنان، الطبعة: الثانية. 1962، ص: 252.
- بنعبد الله عبد العزيز، الطب والأطباء بالمغرب، المطبعة الاقتصادية. الرباط، 1958، ص: 62.
- جمال بامي. 2012، دراسة في كتابي “عمدة الطبيب” لأبي الخير الإشبيلي، و”حديقة الأزهار” للوزير الغساني. هاديات من التراث لتطوير علم النبات الطبي بالمغرب.
- الملاحظ أن أبا القاسم الغساني اعتمد كثيراً على معرفته المباشرة بالأعشاب التي وقف عليها بنفسه بالمغرب. وأما أعشاب البلاد البعيدة أو التي تعذر عليه الوقوف عليها، فهو ينقل عن مصادر سابقة. ونبه المحقق الأستاذ الخطابي على أن أهمها كتاب عمدة الطبيب في معرفة النباتلأبي الخير الأشبيلي (ق. 6 هـ/ 12 م). هذا الكتاب نشر أيضاً بعناية الباحث نفسه، وصدر عن أكاديمية المملكة المغربية في مجلدين. 1990.
- الغساني الوزير، حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار، تحقيق محمد العربي الخطابي. 1989، ص: 324.
- محمد العربي الخطابي. مقدمة تحقيق كتاب “حديقة الأزهار” ص: ي-ك.
- أحيل هنا على مقال عبد الأحد الرايس: الفوائد التاريخية لتصنيف النباتات بفاس من خلال كتاب “حديقة الأزهار” لأبي القاسم الغساني (ق 10 هـ/ 16 م) مجلة التاريخ العربي ع: 18، رييع 2001.
16. Jamal Bellakhdar, Op.Cit.
- Renaud H.P.G. Op.Cit.