مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

مجالس شيوخ القرآن والقراءات من خلال “برنامج” العلامة القاسم بن يوسف التجيبي (ت‍ 730 ه‍) المجلس الأول: الشيخ أبو زيد عبد الرحمان بن عيسى السبتي، الشهير بابن صاب رزقه.

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛ 

فهذه باكورة مجالس الدرس والإقراء، التي اشتمل عليها برنامج العلامة القاسم التجيبي، نَقْبسها لجمهرة قَرأة الأمصار، لما اشتملت عليه من أدبيات التلقي القرآني واستجازة شيوخه، والتي ينهض عليها نظام الأخذ والتحمل في تلقي العلوم النقلية الخادمة والمعارف الشـرعية المستنبطة، والتي من بينها علم القراءات القرآنية بفنونه ومباحثه، ثم إننا لنسعد بنشر معالم هذا الاِقتباس واكتناه مضامينه، بالذي ينوِّر مدارك القارئ العالمي بضوابط المنهج العلمي المتبع في درس القرآن الكريم وتدريسه، وتفقيه الطالب بأوجه الأداء وتأهيله، وذلك من خلال المعاقد الآتية: (تصدُّر الكتاب العزيز نظام التعلم والتلقين)، (توقير الطالب لأشياخه ومعلميه وتبجيلهم)، (رعي مبدأ التدرج في الأخذ والتلقين)، (سنة العرض والمدارسة في تلقي أحرف القرآن الكريم باعتماد المضمَّنات لضبط مخارج طرق الأداء)، (تقديم قراءة الإمام نافع المدني (ت‍ 169 ه‍) على سائر المقارئ الأخرى أصل متبع في القطر المغربي أو الغربي)، (تمييز الفرْق في الإجازات الأدائية وأسانيد الأخذ لأوجه القرآن بين مقام القراءة وسردها وبين تلقي الحروف وأوجه الأداء مجردة)، وفي هذا تفصيلٌ لما أُجمل: 

قال العلامة أبو القاسم التجيبي (ت‍ 730 ه‍): (… قرأْتُ كتاب الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد، على سيّدي ومعلّمي، خير المُكَتِّبين، وضابط المؤدِّبين، وزَيْن العابدين، الشيخ الفقيه القاري الفاضل الخطيب، الولي الصالح الزاهد التقي، أعجوبة زمانه، في الورع والاِنقباض عن الناس والسّمت الحسن، أبي زيد عبد الرحمان بن الشيخ المرحوم أبي الأصبغ عيسى بن أحمد بن فتح الورياغلي القصري، من قصـر كتامة، نزيل سبتة حرسها الله تعالى ورحمه، المعروف ب‍ “ابن صاب رزقه”، ودرسْتُه بين يديه باللَّوح، وعرضْتُه عليه من فاتحته إلى خاتمته، المرة بعد المرة، بحيث لا أُحصـي ذلك كثرة، ب‍ حرف نافع رحمه الله، وهو أول من فَتق لساني بكتاب الله تعالى، وكان رحمه الله تعالى ونفع به، وأثابنا وإياه الجنة برحمته، قد تلا بالسبع بمضمَّن تيسير أبي عمرو، على خاتمة المقرئين أبي الحسن علي بن محمد الكتامي رحمه الله تعالى، وقرأ الحروف من طريق أبي عمرو المذكور على المسند أبي بكر محمد بن محمد بن أحمد بن مُشليون الأنصاري، وكان حسن الأداء، جيد التعليم، رحمة الله عليه وعليهم أجمعين).

فقْه المجلس:

  • تصدُّر الكتاب العزيز نظام التعلم والتلقين : 

غان عن البيان القول بأن؛ تعليم الولدان القرآن شعار من شعائر الإسلام، مَرَنَ على الأخذ باستظهاره أهلُ سبتة وغيرها من أقطار الغرب الإسلامي، ودَرَجواْ على تصحيح ألفاظه وتجويد أحرفه إلى حَدّ الحذق والإتقان وبلوغ النهاية في دَرْسه، وذلك اعتبارا للسبق الإيماني أورعْيا للثبات القَلْبي، الذي يُثْمره حَمْلُ الولدان – أو مَنْ رجع من الكبار للدرس بعد زمن مُضَيَّع- على حفظ كتاب الله تعالى، ومعالجة أدائه في أوليات نشأتهم العلمية، حتى يكون سَبْق معانيه إلى القلب وسرعتها غِراساً لما ينبني عليه من المُدْرَكات، أو مَنْبعا للَّذي يَحْصُل لدى الولد من المَلكَات الناشئة بتتابع الفعل وتكراره أو ما أشبه، فلذلك فطن الأقدمون ومن أعقبهم لهذا المنحى التربوي، وذلك بالبداءة في تأديب الصبيان بتلقينهم أبجديات القرآن وتقديمه على سائر المعارف والعلوم؛ ابتغاء نجابة الولد وصقل عزيمته، وإيثارا منهم لوجه التبرّك والمثوبة في الاشتغال به وترداده، ثم احتراسا مما قد يعْرض للولدان من نَزَق وفلتة وازْوِرار، الذي هو سبيل كل آفة وذريعة العَيْلة والاِنقطاع، فكلُّ ذلك وغيره من أفانين التأديب النافع ووجوه التعليم المثْمر؛ إنما يتأتَّى ويخفُّ ما دام الولد في حجْر الوالد، منقادا لأمره مذعنا لحكمه وإشارته، وإلا زاغ من غفلة وطاش، فتُلقي به ريح الذهول والإهمال بمهاوي الجهالة ومزالق التلف والبطالة، والله المستعان.

  • توقير الطالب لأشياخه ومعلميه وتبجيلهم:

وتصوير ذلك كَمِنٌ في كَون شرف العالم ومرتبة المربِّي – عُلُوّا ودُنُوّا –  في شرف ما يحمل بين جنبيه – من خواص المعلوم – وتنبض به عروق قلبه، خاصة إذا تعلق الوضع بالقرآن الكريم وتعلقاته، وما يلزم مريده من تمام الأحوال وكمال الهيئات (ظاهرا وباطنا)، كَأَن ينظر شيخه بعين الرضا والإكبار والهيبة، ويعتقد وفور ديانته وأهليته ورجاحته وما إليه، قال ابن الجزري (ت‍ 833ه‍): (فإن وقع منه نقص؛ فليجعل النقص من نفسه، بأنه لم يفهم قول الشيخ … وإذا جلس؛ فليتأدب مع رفقته وحاضري مجلس الشيخ، فإن ذلك تأدب مع الشيخ وصيانة لمجلسه، ولا يرفع صوته رفعا بليغا، ولا يضحك ولا يكثر الكلام، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، بل يكون مقبل على الشيخ، مصغيا إلى كلامه). 

  • رعي مبدأ التدرج في الأخذ والتلقين:

وذلك لأن مجاوزة الحد في التلقين أو التعليم؛ فيه مضـرّة بالمتعلم وحَجْب له عن تنشيط دواعي النفس وإقبالها على سبل التحمل والأخذ والسعي لهما، ولا سيما ذووا حداثة الأسنان من أصاغر الأولاد، ولذلك جاء عن الإمام أبي عبد الله البخاري (ت‍ 256 ه‍) في تأويل قوله تعالى: (وََلكِن كونواْ رَبَّانِيّينَ) [آل عمران/78] بأن (الرَّبَّاني) من الخلق هو العالم المصيب الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره (أي مقدماته قبل مقاصده)، وبذلك لقب الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال أبو حيان (ت‍ 745 ه‍): ولما مات ابن عباس؛ قال محمد بن الحنفية: اليوم مات ربّاني هذه الأمة،  وأحرى بذلك كتاب الله تعالى، الذي نزل نجوما وَفق الوقائع والمواقع، فلو نزل جملة واحدة لاستنكفت الطبيعة عن قبوله وظاهرتْ منه، وقد كان أهل الصدر الأول لا يزيدون القارئ على عشر آيات، أو ثلاث ثلاث أو خمس خمس أوما شابه، رعْيا لحال القارئ واستعداده (قبولا وردا)، وإلا فقد قرأ يحيى بن وثاب على عبيد بن نُضيلة صاحب علقمة القرآن كله آية كل يوم، وأما من أراد من المتعلمين تصحيحا لقراءة أو نقلا لرواية أو ما شابه؛ فللشيخ المقرئ أن يقرئه بما استطاع، فلذلك اختلف مقام التلقين عن مقام تصحيح القراءة. 

  • سُنّة العرْض والمدارسة في تلقي أحرف القرآن الكريم باعتماد المضمَّنات وضبط مخارج طرق الأداء: 

وذلك لأن الواحد من أهل الصدر الأول من الصحابة ومن بعدهم؛ كان يعكف على القراءة على الشيخ الواحد عدَّةً من الروايات والكثير من القراءات، كل ختمة برواية، إذ لم يكونوا يجمعون رواية إلى أخرى أو ما شابه، واستمر الحال على ذلك إلى حدود المائة الرابعة وصدر الخامسة زمن مكّي (ت‍ 437 ه‍) والداني (ت‍ 444 ه‍) وابن شريح (ت‍ 476ه‍ ) وغيرهم، فظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة، واستمر العمل على ذلك إلى اليوم، وإن كان مِنْ بعض السلف مَنْ ينكره ولا يراه، … ثم إن الطريقة المثلى في ضبط الحروف عند جمعها ؛ حفظ كتاب جامع معتبر في القراءات، يعصم قلب القارئ من التيه أو السقوط في تركيب بعض الأوجه على بعض، فيقع في المحذور بتخليط المعاني أو ما شابه، ثم يقصد بتكراره الأوجه التفكر والتدبر وتكثير الأجر لا محض الرواية فقط، قال الصفاقسي (ت‍ 1118 ه‍): لا بد لكل من أراد أن يقرأ بمضمَّن كتاب؛ أن يحفظه على ظهر قلبه، ليستحضر به اختلاف القراء أصلا وفرشا، ويميز قراءة كل قارئ بانفراده، وإلا فيقع له من التخليط والفساد كثير، فالغرض – هنا – لزوم المضمّنات أو الكتب المؤلفة في هذا الفن والتزام ما جاء فيها، إذ منها ما اشترط مؤلفوها الأوجه الأشهر واختاروا ما قُطع به عندهم، فتلقى الناس كتبهم بالقبول، بل أجمعوا عليها من غير معارض، وذلك ك‍َ الغايتين لابن مهران (ت‍ 381 ه‍) والهمَذاني(ت‍ 569 ه‍)، وسبعة ابن مجاهد (ت‍ 324 ه‍) وإرشاد القلانسـي (ت‍ 521 ه‍)، وتيسير أبي عمرو الداني (ت‍ 444 ه‍) … وتبصرة ابن أبي طالب (ت‍ 437 ه‍) وكافي ابن شريح (ت‍ 476 ه‍) … وحِرْز أبي القاسم الشاطبي (ت‍ 590 ه‍)؛ قال ابن الجزري: فلا إشكال في أن ما تضمنته من القراءات؛ مقطوع به، إلا أحرفا يسيرة، يعرفها الحفاظ الثقات والأئمة النقاد.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

يتبع (إن شاء الله تعالى) ب‍: 

  • تقديم قراءة الإمام نافع على سائر المقارئ الأخرى؛ أصل متبع في القطر المغربي أو الغربي .
  • تمييز الفرْق في الإجازات الأدائية وأسانيد الأخذ لأوجه القرآن بين مقام القراءة وسردها وبين تلقي الحروف وأوجه الأداء مجردة.

[1] قال في اللسان: كَتَّبَ الرَّجلَ وأَكْتَبه إكتابا؛ علمه الكتاب (مادة ك ت ب).

[2]الطنجي الأصل والمولد، نزيل سبتة، ينظر درة الحجال 2/59، طبعة الأحمدي.

[3]كل صفيحة عريضة من صفائح الخشب، يتخذ للكَتْب والرَّقْم (اللسان مادة ل و ح)

[4]علي بن محمد الكتامي، أبو الحسن، الشهير بابن الضائع الإشبيلي، عالم غرناطة وصاحب الشرح الجامع بين السيرافي وابن خروف على كتاب سيبويه، توفي سنة 680 ه‍، ينظر: توضيح المشتبه لابن ناصر الدمشقي (حرف الصاد) 5/396، الذيل والتكملة 1/50.

[5]كان عالي الإسناد في القراءات، أخذها عن أبي جعفر بن عون الله الحصّار، استوطن سبتة، وأقرأ بها ثم تحول عنها إلى تونس، فتوفي بها سنة سبعين أو بعدها بقليل، ينظر تاريخ الإسلام للذهبي 15/188، طبعة بشار عواد.

[6] البرنامج ص 16.

[7]المقدمة لابن خلدون (الفصل التاسع والثلاثون).

[8]منجد المقرئين ص 70.

[9]فتح الباري (فصل ر ب) 1/121، طبعة محب الدين الخطيب.

[10]البحر المحيط (سورة آل عمران الآيات 75 – 79).

[11]قصيدة أبي مزاحم الخاقاني، البيت 27.

[12]سير أعلام النبلاء380/4، طبعة شعيب الأرناؤوط.

[13]منجد المقرئين ص 65.

[14]غيث النفع للصفاقسي 1278/، طبعة سالم الزهراني.

[15]منجد المقرئين ص 72، 74.

[16]غيث النفع 1/285.

[17]منجد المقرئين ص 88.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق