مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

“مبحث تفسير الإيمان وبيان المراد منه شرعا”

يقول الحسن بن مسعود اليوسي في كتاب مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص:

اعلم أن هذا المبحثَ إنما يتحرَّرُ بتفسير الإيمان وبيان ما هو المراد منه شرعا، وهو مبحث طويلٌ يكثرُ فيه الاضطراب ويجُمُّ التفصيل، ولابد أن نذكُر في ذلك ما لأئمَّتنا ملخَّصاً مختصراً إن شاء الله تعالى.
 

معنى الإيمان لغة وشرعا:

فنقول: إن الإيمان في اللفظ هو التصديق، يقال آمن به وآمن له، والهمزة فيه إمَّا للصيرورة كأنَّ من آمن صارَ ذا أمن من أن يكون مكذوباً، وإمَّا للتعدية كأنَّه صيَّر محدّثَه آمناً من التكذيب.
وأما في الشرع: فاختلف فيه، أهو اسم لما في القلب؟ أو لما في اللسان؟ أم لهما معا؟ وحاصل ما تقرَّر في ذلك أربعة احتمالات قد قيل بكل منها، الأول: أنه اسم لفعل القلب فقط، الثاني: أنه اسم لعمل اللسان فقط، الثالث: أنه اسم لفعلهما معا وحدهما، الرابع: أنه اسم لفعل القلب مع فعل اللسان وسائر الجوارح.

تفسير الإيمان بمعنى فعل القلب فقط ومن قال به:

أما الأول: وهو أنه فعل القلب فقط، ففيه تفسيران، أحدهما: أن الإيمان هو التصديق، وهذا هو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، قال:«إن الإيمان هو التصديق بكل ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسول به ضرورةً»، قيل وهو مذهب الشيعة، وأبي الحسن الصالحي من القدرية، وهو منسوب أيضا إلى الشيخ. قال الفهري في شرح المعالم:«ثم اختلَفَ جواب أبي الحسن في معنى التصديق، فقال مرة: هو المعرفة بوجود الصانع وإلـهيته وصفاته وتصديق رسله، وقال مرة: التصديق حديث النفس التابع لذلك، وهو الحقُّ واختيار القاضي» انتهى.
وعن هذا الأخير عبَّرنا نحن بالتصديق، فجعلناه قسيم المعرفة، كما وقع في شرح المقاصد، وقد فهمتَ من كلام ابن التلمساني الفرقَ بين التصديق الذي عبَّرنا به وبين المعرفة، وأن الأول هو المرضي، وهو الذي قلنا: إنه مذهبُ الجمهور.

تفسير الإيمان بمعنى فعل اللسان فقط:

وأما الثاني، وهو أنه فعل اللسان فقط، ففيه أيضا طرق ثلاث:
الأول: أن الإيمان هو الإقرار بحَقيَّة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ذلك بالقلب شرطٌ فيه، وليست من حقيقة الإيمان، وهذا الرأي ينسب للرَّقَّاشي، وحُجَّتُه في ذلك أنَّه يَلزم في الشرط ما يَلزم في المشروط، إذ الشرط مكلف به أيضا، فإنه شرط شرعي.
الثانية: أنه الإقرار بذلك بشرط التصديق،ونُسب للقطان، قال:« إن الإقرار إن خلا عن المعرفة والتصديق لا يكون إيماناً، وعند اقترانه بهما يكون الإيمان هو الإقرار فقط».
الثالثة: أنه الإقرار بذلك بغير شرط شيء منهما، وهو مذهب الكرامية، زعموا أن من اعترف بلسانه فهو مؤمن وإن كان الكفر في قلبه.قال الفهري: «ذهبت الكرامية إلى أن مجرَّد الإقرار باللسان كاف في الإيمان وإن أبطَن الكفر، وهؤلاء الذين سمُّوهم مؤمنين هم الذين سمَّاهم الله تعالى منافقين ونفَى عنهم الإيمان، حيث قال[تعالى]:
 (ومن النَّاس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) [سورة البقرة/الآية:7] وقال تعالى: (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)[سورة المائدة/الآية:43] وقال[تعالى]: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)[سورة المنافقون/الآية:1]، والكرامية تشهد إن المنافقين لصادقون» انتهى.
وقيل:«ومذهبهم أنَّ من أضمَر الكفر وأظهَر الإيمان يكون مؤمنا، إلا أنه يستحق الخلود في النار، ومن أضمَر الإيمان وأظهَر الكفر لا يكون مؤمنا».
قلت: وليس هذا خلافاً للجمهور بالنسبة إلى إجراء الأحكام في الدنيا، فإن أرادوا مجرَّد ذلك فقولهُم صحيح.

تفسير معنى الإيمان على أنه اسم لفعل القلب واللسان:

وأمَّا الثالث: وأنه اسم لفعل القلب واللسان، فالمراد به أن الإيمان هو المجموع من التصديق بالقلب والاعتراف باللسان، وهذا مذهبُ كثير من السَّلف، ويُنسب إلى أبي حنيفة. وقد يقال في هذا المذهب: إنه اسمٌ للمجموع من المعرفة والإقرار باللسان، أو العلم والإقرار، أو الاعتقاد والإقرار، وهي طريقة واحدة وإن كان التعبير بالاعتقاد يشعر بالاكتفاء بالتقليد، بخلاف المعرفة أو العلم جريا على اصطلاح المتكلمين.

النطق بالشهادة في هذه الطريقة جزء من حقيقة الإيمان:

واعلم أن النطق بالشهادة في هذه الطريقة جزءٌ من حقيقة الإيمان، فهي مكلف بها في ضمن التكليف بالإيمان، إذ لا يتحقَّقُ الإيمان بدونها، وعلى هذا من صدَّق بقلبه ولم يتَّفق له النُّطق بذلك حتى مات لا يكون مؤمنا عند الله تعالى ولا يستحق[1] الجنة إلا أن هذا يقيد بالقادر، أما العاجز عن النطق فهو مؤمن.
فإن قلت: كيف يكون جزء الشيء موقوفا على شرط خارجي كالقدرة؟
قلت: معناه، أن الإيمان في حق القادر خلاف الإيمان في حق العاجز، فهو في الأول مركب دون الثاني. وأما في الطريقة الأولى وهي: أن الإيمان التصديق أو المعرفة، فالنطق ليس بجزء من حقيقة الإيمان، ولكنه شرط، وذلك عند جماعة من المحققين بحسب إجراء الأحكام الإسلامية عليه.
فإن مات ولم يتَّفق له النطق بالشهادة، فهو عند الله مؤمن في هذا الطريق، لأن حقيقة الإيمان وهو التصديق القلبي أو المعرفة حصلت عنده، وطريقة أخرى تحكي أنه كافر وذلك ينبني على أن النطق شرط في نفس الأمر، وهذا كله في حق القادر الذي لم يُطلب بالنطق فيمتنع، بل اتفق له عدم النطق، وأما إن طُلب بالنطق فامتنع فهو كافر، وحكي عليه الإجماع كما مرَّ.
وقال آخرون: ولا يكون كافرا إذا صدَّق بقلبه، وهو مبنيٌُ على أن النطق واجبٌ أصلا، بل واجبٌ فرعيٌّ، وعلى ذلك أيضا من لم ينطق جهلا بالوجوب فيصحُّ إيمانه على الفرعية دون الأصلية.
وأما العاجز عن النطق فهو مؤمن، وحكي عليه الإجماع، وكذا من اختَرمَته المنيَّةُ فماتَ مغلوباً عن النطق، قال في شرح المعالم:«فإذاً لابد من التصديق بالقلب، وهو الركن الأعظم من الإيمان، والإقرار يعبر به عنه، وهو شرط مظهر لما اشتمل عليه الجنان، وقد يكتفَى بما في القلب في الحكم بالإيمان لمن غُلب عقب ذلك ولم يتمكن من النطق، ويكتفَى بالإشارة في حق الأخرس» انتهى. وقد حُكي الخلاف أيضا في حق العاجز، وهو ضعيف لأنه يرجع إلى تكليف ما لا يطاق، ولم يقع.
واعلم أنه متَى ذكرنا طلب النطق بالشهادة في هذه المذاهب، فإن كان ذلك باعتبار ما بين العبد والله تعالى، وما يرجع إلى الدار الآخرة، فالمراد مجرد النطق ويكفي في ذلك حركة اللسان سواء سمعها سامعٌ أو لا، ومتى كان ذلك باعتبار إجراء الأحكام عليه، فالمراد النطق على وجه الإظهار والإعلان، إذ بسماع ذلك تجري الأحكام.

تفسير الإيمان على أنه فعل القلب واللسان وسائر الجوارح:

وأما الرابع: وهو أنه من فعل القلب واللسان وسائر الجوارح، فالمراد به أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بسائر الأركان، فعمل الجوارح في هذا الطريق من صلاة وصيام ونحو ذلك داخلٌ في مسمَّى الإيمان، وفي هذا ثلاثة مذاهب:
الأول: أن عمل الجوارح جزءٌ من حقيقة الإيمان، فحيث انتفت الأعمال فليس بمؤمن أصلا،  بل هو كافر، وهذا مذهب الخوارج.
الثاني: أنه ليس بمؤمن ولكنه ليس بكافر أيضا، بل له منزلة بين المنزلتين، وهذا مذهب المعتزلة، ولهم اختلاف في الأعمال ما هي، فقيل: فعل الواجبات وترك المحظورات، وهو مذهب الجبائية منهم، وقيل: فعل الطاعات واجبة كانت أو مندوبة ، وهو مذهب عبد الجبار وأبي الهديل منهم.
الثالث: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، إلا أن تاركها ليس بكافر بل هو مؤمن من أهل الجنة، وهذا مذهب أكثر السلف، وينسب لإمامنا مالك وإلى الشافعي والأوزاعي.
واستُشكل هذا المذهب بأن العمل إن كان جزءا وجب أن تبطل حقيقة الإيمان عند عدمه، فكيف يكون تارك العمل مؤمنا؟
وأجيب: بأن الذي العمل جزءٌ منه، هو الكامل من الإيمان ولا مطلق الإيمان، فهم يعتبرون الإيمان بمعنيين، أحدهما: الإيمان الأصلي المخرج عن الكفر وعن الخلود في النار وهو التصديق وحده، أو مع النطق بالشهادة كما مرَّ، والآخر: الإيمان الكاملُ المنجيُّ من العقاب بفضل الله تعالى، وهو ما كان معه العمل، وعلى هذا فلا إشكال ولا خلاف في المعنى.
وقد تلخَّص مما ذكرنا عشرة مذاهب:
الأول: أن الإيمان هو التَّصديق.
الثاني: أنه المعرفَة.
الثالث: أنه التَّسليم، وهو راجعٌ إلى الأول.
الرابع: أنه الإقرارُ بالشَّهادة بشرط التَّصديق.
الخامس: أنه الإقرارُ بشرط المعرفَة.
السادس: أنه المجموع من التَّصديق والإقرار، أوالمعرفة والإقرار، أو العلم والإقرار، أو الاعتقاد والإقرار.
السابع: أنه المجموع من التَّصديق وإقرار وعمل، وتارك العمل كافر.
الثامن: أنه كذلك، وتارك العمل غير كافر ولا مؤمن.
التاسع: أنه كذلك، وتارك العمل مؤمن عاص.
ثم الثامن على مذهبين، غير كافر ولا مؤمن، لأن العمل إما فعل الواجبات وترك المحظورات، أو فعل الطاعات فقط، وبه كمُلت المذاهب عشرة، ولم نتعرَّض لحكم النطق باعتبار الشرطية، ولو تعرضنا له لزادت على العشرة وذلك معلوم مما قررنا، والله المستعان.

 

[كتاب: مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص للإمام أبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي(ت1102هـ)-تقديم وتحقيق وعرض وتحليل وفهرسة:دكتور حميد حماني-مطبعة دار الفرقان للنشر الحديث-الدار البيضاء-الطبعة الأولى/2000- الجزء الأول- ص:467-468-469-470-471-472-473]

 

الهوامش:

[1] سقطت لفظة (لا) في هذه الجملة من الكتاب، ولذلك لم يستقم المعنى، فوجدتها في مخطوط الكتاب الموجود بجامعة الملك سعود –قسم المخطوطات تحت رقم: 154ق- طبع الاعلام 2:237 – الازهرية3:314 .

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق