تطل علينا في هذا الشهر المبارك الأغر ربيع الأول ذكرى مولد خير البشر رسولنا وحبيبنا محمد ﷺ القدوة المهداة والسراج المنير الذي أضاء أرجاء الأرض بأنوار الشريعة الإسلامية بعد أن غمرها ظلام الكفر والجهل والعصيان الدامس، فانكشفت به طرق الخير والصفاء وسبل الهدى والنجاة من متاهات الغواية والضلالة. وبحلول ذكرى مولده ﷺ في شهر ربيع الأول من كل عام تنبعث في قلوب المسلمين فرحة غامرة، وتوق شديد إلى قراءة سيرته الزكية للاستزادة من اكتشاف أنوار حياته البهية، ومقاماته الرشيدة، وتصرفاته المسددة؛ أفعالا وأقوالا، أخلاقا وسلوكا، فرحا وترحا، سلما وحربا، مقاما وسفرا...
فيكون أول مصدر حكيم ثابت نهرع إليه لنطلع على سيرة رسولنا الكريم اطلاعا ناصعا ساطعا هو القرآن الكريم؛ كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وقد اشتمل هذا القرآن المجيد على الكثير من الشواهد الدالة على منزلة الرسول ﷺ العالية ومكانته الرفيعة عند الله تعالى على سائر الخلائق أجمعين، ولا يسع هذا المقال الوجيز لذكر كل هذه الدلالات القرآنية وإنما نكتفي بإشراقات ولمعات.
اللمعة الأولى: ذكر لنا ربنا في كتابه منَّة بعثة رسولنا محمد ﷺ وما جاء به من الآيات البينات المرشدات الزكيات المطهرات، وما قام به من مهمة تعليم الكتاب المبارك والحكمة الربانية ليخرجنا من ظلمات الضلال والعمى. فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:164].
فيكون الرسول ﷺ أولى بالمحبة واستحقاق التعظيم، والاحترام والاتباع والاقتداء من غيره من البشر مهما علت مرتبته وارتفعت درجته. يقول الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6].
اللمعة الثانية: أنه جل شأنه نادى الأنبياء في القرآن بأسمائهم، فقال: يا آدم، ويا نوح، ويا إبراهيم، وياموسى، وياعيسى، ويازكرياء، ويايحيى... في حين نادى رسولنا محمد ﷺ بمهمته السامية ووظيفته الجليلة، وهي الرسالة الخالدة والنبوة الربانية، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: 67] [، وقال جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الأنفال: 64] .
اللمعة الثالثة: أنه تعالى لما نوه بالرسل والأنبياء ذكر أهم أخلاقهم الرفيعة، فقد وصف -على سبيل المثال- إبراهيم عليه السلام قائلا: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75]، وقال عن إسماعيل عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 54]، وقال عن موسى عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 51]، وقال عن أيوب عليه السلام: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 44]، في حين وصف رسولنا محمد ﷺ بأنه نائل أعظم الأخلاق وأجل الصفات وحائز أرفع الدرجات والكمالات، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
اللمعة الرابعة: من فضل الله تعالى على نبينا ﷺ وتكريمه له أن بعثه الله إلى الناس كافة في زمانه وبعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]، ويقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [سورة الأعراف: 158]، ويقول تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سورة الفرقان: 1]، وقال جل ذكره: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 40]. وأما الرسل قبله عليهم السلام فقد بعثوا إلى أقوامهم خاصة، فيقول الله عز وجل عن عيسى عليه السلام: ﴿وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [آل عمران: 49]، وعن هود عليه السلام قال: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: 64]…
اللمعة الخامسة: من دلائل منزلته ﷺ العظيمة أن أخذ الله تعالى العهد والميثاق على جميع الأنبياء بالإيمان بخاتم الرسل والأنبياء محمد ﷺ ونصرته وتأييده, فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 81].
اللمعة السادسة: رفع الله تعالى شرفه وذكره فضمَّن اسمه الشريف في لفظ الشهادة؛ وهي أول ركن من أركان الإسلام وبالتلفظ بها صدقا يكون الإنسان مسلما، كما يثاب على ذكر اسمه والصلاة عليه.
اللمعة السابعة: ثناء الله جل جلاله على جميع جوارحه ومداركه، فقال مسدِّدا بصره: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم: 17]، وقال مزكيّا كلامه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: 3]، وقال مشيدا بمعلمه جبريل عليه السلام: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 5]، وقال عز وجل شاهدا له بالاستقامة والثبات ونافيا عنه الضلالة والغواية: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: 2]، وقال مؤكدا سلامة صدره وصفائه: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]، واعتبر طاعة الإنسان له ﷺ من طاعته عز وجل؛ لأنه إنما يأمر بالتمسك بشرع الله الموحى إليه وبطاعته المأمور بها، وباتباع صراطه المستقيم المكلف ببيانه، قال تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ [النساء: 79]، وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء: 58]، وربط محبة العبد لمولاه بطاعة الرسول ﷺ، فقال تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ [آل عمران: 31].
والحاصل أن تتبع الآيات القرآنية الكريمة الدالة على مكانة الرسول عند الله العظيمة طويل ومديد، نكتفي منه بهذه الإشارات السامقة واللمعات الناصعة في سياق التذكير بهذه المناسبة المجيدة الجليلة؛ ذكرى مولد خير الأنام عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول لعام 1446هـ عسى أن نحظى بشفاعته عند الله عز وجل الواسع الفضل والعطاء.