للصحبة والأخوة في الله شروط وضوابط عند الجنيد
استلهم إمامنا الجنيد رضي الله عنه أهمية الصحبة والأخوة في الله تعالى من الشريعة الغراء، فقد أعطى القرآن الكريم والسنة المشرفة أهمية قصوى لذلك، وأقواله ووصاياه رحمة الله عليه، تنضح بهذا المعنى النبيل، الذي إن تحقق، تحققت معه الألفة والمودة، والطمأنينة والسكينة، بحيث يتجاوز المتحابون في الله والمتصاحبون فيه والمتآخون فيه عن بعضهم البعض، ويساعد بعضهم بعضا، ويكونون يدا واحدة وقلبا واحدا، على أنفسهم وعلى غيرهم، كالبنيان المرصوص يشُدّ بعضه بعضا.
* سأل رجل الجنيد رحمه الله: من أصحب؟ فقال: من تقدر أن تُطلِعه على ما يعلمه الله منك[1].
* وسأله آخر نفس السؤال، فقال: اصحب بعدي من تأمنه سِرّ الله فيك[2].
* وقال الجنيد: ما احتشم صاحب من صاحبه أن يسأله حاجة إلا لِنَقْصٍ في أحدهما[3].
* ويَذْكُرُ الجنيد رضي الله عنه أن صُحبته كانت على خمس طبقات من الأكابر، كل طبقة ثلاثون رجلا:
- أولهم: أبو الحسن البصري، والحارث المحاسبي، وأبو جعفر القصاب، وأبو يعقوب محمد بن الصباح، ونظائرهم في السن والمكانة.
- والطبقة الثانية: أبو عثمان الوراق، وأبو الحسن ابن الكرنبي، وأبو حمزة محمد بن إبراهيم، وحسن السروجي، ومحمد بن أبي الورد، ونظائرهم في السن والمكانة.
- والطبقة الثالثة: أبو محمد بن وهب، وأبو جعفر يعقوب بن الزيات، وسعد الدمشقي البزاز، وحسين النجار، ونظائرهم في السن والمكانة.
- والطبقة الرابعة: أبو القاسم الواسطي، وأبو عبد الله الباجلي، وأبو العباس الآدمي، وأبو أحمد المغازي، ومحمد بن السماك، وأبو بكر المخزومي، وجماعة من نظائرهم في السن والمكانة.
- والطبقة الخامسة: في هذه التي نحن فيها، ما رأيت منهم أحدا زاحمته حاجة عند صاحبه إلى حيث انتهينا بحثهم صاحبه إلا بنظر نقص في أحدهم، وعلى هذا مضى أكابر هذه الطريقة[4].
* قال رجل للجنيد: قد عزّ في هذا الزمان أخٌ في الله تعالى، قال: فسكت عنه، ثم أعاد ذلك، فقال له الجنيد: إذا أردت أخا في الله عز وجل يكفيك مؤنتك، ويتحمل أذاك، فهذا لعمري قليل، وإن أردت أخا في الله تتحمل أنت مؤنته، وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلك عليهم إن أحببت، فسكت الرجل[5].
* وقال رضي الله عنه: ما تواخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه أو احتشم إلا لعلة في أحدهما[6].
* وقال الجنيد قدس الله سره: إذا كان لك صديق، فلا تسُؤْهُ فيك بما يكرهه[7].
* وقال عبد الرحمن بن إسماعيل: كنت ببغداد ووافى لي الحاج من خراسان، فلقيني بعض أصحابنا الذين عاشرناهم ممن له فضل وأفضال على هذه الطائفة، فسألني أن أعرفه جماعة ليصلهم بشيء قد حمله معه برسمهم، فقلت له: ابدأ بأبي القاسم الجنيد، فحمل إليه دراهم كثيرة وثيابا كثيرة، فلما رآه الجنيد أعجبه أدبه في رفقته، فقال له: اجعل بعضه للفقراء أذكرهم لك، فقال له الخراساني: أنا أعرف الفقراء أيها الشيخ، فقال الجنيد: أنا أأمل أن أعيش حتى آكل هذا؟ قال: إني لم أقل لك أنفقه في الخل والبقل والكامخ والجبن والملح، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوات، وكلما كان أسرع فهو أحب عليّ، فتبسم الجنيد، وقال له: مثلك لا يحل أن يرد عليه، فقبل ذلك منه، فقال الخراساني: ما أعلم ببغداد أعظم منة عليّ منك، فقال الجنيد: ولا يبقى لأحد أن يرتفق إلا ممن كان مثلك[8].
* وكان أن اعتلّ النوري، فبعث إليه الجنيد بصرَّةٍ فيها دراهم، وعاده فردّه النوري، ثم اعتل الجنيد بعد ذلك، فدخل عليه النوري عائدا، فقعد عند رأسه، ووضع يده على جبهته، فعوفي من ساعته. فقال النوري للجنيد: إذا عدت إخوانك فارفقهم بمثل هذا البر[9].
* وقال الجنيد للشبلي: يا أبا بكر، إذا وجدت من يوافقك على كلمة مما تقول، فتمسك به[10].
[1] طبقات الصوفية، السلمي، ص : 161.
[2] الأربعين في شيوخ الصوفية، أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد الماليني (ت412ﮬ)، تقديم وتحقيق وتعليق: عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان، ط1، 1417ﮬ/1997م، ص: 96.
[3] الطبقات الكبرى، الشعراني، ص: 124.
[4] إحياء علوم الدين، الغزالي، 2/238.
[5] المصدر السابق، 2/238.
[6] نفسه، 2/238.
[7] اللمع، السراج الطوسي، ص: 279.
[8] روضة الحبور ومعدن السرور في مناقب الجنيد البغدادي وأبي يزيد طيفور، شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي الفتح بن الأطعاني البسطامي (ت806ﮬ)، تحقيق ودراسة: أحمد فريد المزيدي، قدم له: جودة محمد أبو اليزيد المهدي، دارة الكرز للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2004م، ص: 116.
[9] تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، 5/132.
[10] طبقات الصوفية، ص: 160.