مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

للحج أسرار عند الصوفية

الحج فرض عين على كل مسلم قادر، لما ذكر في القرآن الكريم، قوله جل وعلا: ﴿وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق﴾.[1]

هو الركن الخامس من أركان الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا).[2]

وأهميته عظيمة بين أركان الإسلام، فهو يجمع بين ما هو روحي وبدني ومالي، يؤديه المسلم متى توفرت له الاستطاعة، ولا يجب إلا مرة في العمر، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بالحج مرة واحدة فقط –حجة الوداع- وفيها توضحت مناسك الحج الصحيحة، كما ألقى عليه السلام خطبته الشهيرة التي أتم فيها قواعد وأساسيات الدين الإسلامي.[3]

والثابت والأكيد في أخبار الصوفية أن أغلبهم لم يحج إلا حجة واحدة، فهم أكثر الناس اقتداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام، وتمسُّكاً بسنته وشريعته، فـ “لم يحج سهل بن عبد الله إلا حجة الإسلام، حج وله ست عشرة سنة، وكان زاده شيئا من الكبد المشوي المدقوق، فكان يستف منه إذا جاع قليلا، وكذلك أبو يزيد البسطامي رحمه الله لم يحج إلا حجة الإسلام، وكذلك الجنيد رحمه الله وجماعة من المشايخ الأجلة رحمهم الله لم يحجوا إلا حجة الإسلام، وحُجّتهم في اختيارهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا حجة واحدة”.[4]

فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام مرة يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه).[5]  

وللصوفية في حجهم أسرار وأشواق ومقاصد غير أداء الفرائض والسنن والواجبات والمستحبات، فمع كل نُسك من المناسك يحضر القلب والعقل والشوق والمحبة لله عز وجل والوعي التام بالفريضة القائمة على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود﴾.[6]

وقد جاء رجل إلى الجنيد رضي الله عنه، فقال له الجنيد؟ من أين جئت؟ فقال: كنت في الحج. قال: هل حججت؟ قال: نعم. قال: هل رحلت عن جميع المعاصي منذ خرجت في البداية من بيتك ورحلت عن وطنك؟ فقال: كلا. قال:لم ترحل. ثم قال: حين خرجت من البيت وأقمت كل ليلة بمنزل، هل قطعت في هذا المقام مقاما من مقامات طريق الحق؟ فقال: كلا. قال:لم تقطع منزلا. ثم قال: حينما أحرمت في الميقات، هل تجردت من صفات البشرية كما تجردت من ثيابك؟ فقال:كلا. قال: إذن لم تحرم. ثم قال: حين وقفت بعرفات، هل لاح الوقت في كشف المشاهدة؟ فقال: كلا.قال: إذن لم تقف بعرفات…”[7]

وهكذا إلى آخر منسك من مناسك الحج، لكل مرحلة مقصد وذوق واجتهاد خاص بأهل الطريق، فالحج عندهم ليس حركة الجسد بل حركة الروح والوجدان، وهو “نوع من السلوك، ولون من ألوان التدريب العملي على مجاهدة النفس من أجل الوصول إلى المثل الأعلى، والاندماج في حياة روحية خالصة، تمتلئ فيها القلوب بحب الله، وتنطلق الحناجر هاتفة بذكره مُثنية عليه”.[8]

ذكر صاحب اللمع بعض آداب الصوفية في الحج، منها “أنهم إذا قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك: أن لا يجيبوا بعد ذلك دواعي النفس والشيطان والهوى بعدما أجابوا الحق بالتلبية وأقروا أن لا شريك له في ملكه، فإذا نظروا إلى البيت بأعين رؤوسهم نظروا بأعين قلوبهم إلى من دعاهم إلى البيت، فإذا طافوا حول البيت بأبدانهم فمن آدابهم أن يذكروا قول الله عز وجل: ﴿وترى الملائكة حافين من حول العرش﴾، فكأنهم ينظرون إلى طوافهم، فإذا صلوا خلف المقام يعلمون أنه مقام عبد قد وفى لله تعالى بعهده، فندب الله الأولين والآخرين إلى متابعة قدمه…”.[9]

وخلاصة القول إن عبادة الصوفية ليست شعائر فارغة من المعنى، ولا حركات لا تدل على قصد، بل العبادة عندهم عبارة عن حب مطلق وشوق مفعم لرؤية الجمال.

ويقال: دخول بيته لا يصح مع تعريجك في أوطانك ومعاهدك، فإن الشخص الواحد يفسخ كل عقد يصده عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طهّر تطهّر عن كل دنس من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوس له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبى بلسانه وجب ألا تبقى شعرة من بدنه إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسرِّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض تخصيص، فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقّه على نفسه…، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه…، فإذا بلغ منىً نفى عن قلبه كل طلب ومُنى، وكل شهوة وهوى…[10]

فالصوفي يعبد الله عز وجل لذاته، ويطيعه في كل أحواله، ولا ينظر إلى غير الله، ولا يشتغل عنه بسواه، ولا يشتاق إلا إليه، ولا يتلذذ إلا بذكره، ولا يحصل له فرح إلا بإقباله عليه، ولا يصيبه حزن إلا بإعراضه عنه.

وبذا يحقق العبودية لربه وخالقه ومالكه الإله الحق، والتي تتجلى في عظيم المهابة لله عز وجل، والانكسار الدائم والدائب على باب الله سبحانه وتعالى، والتذلل والالتصاق الدائم على أعتابه جل وعلا.

هذه هي العبودية التي لا فِكاك للإنسان منها بحال من الأحوال، لأن فيه حاجة وفقرا وضعفا للمولى جل في علاه، قال تعالى: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾.[11]

هوامـش


[1] سورة الحج، آية 25.

[2] البخاري: الصحيح ، كتاب الإيمان،  باب دعاؤكم إيمانكم، رقم 8.

[3] خطب رسول الحق صلى الله عليه وسلم فقال: “إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت…” النووي: شرح صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 1218.

[4] الطوسي: اللمع، 223.

[5] النووي: شرح صحيح مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم 1337.

[6] سورة الحج، آية 24.

[7] سعاد الحكيم : تاج العارفين، ص ص:105- 106.

[8] السيد سابق : إسلامنا، ص: 126.

[9] الطوسي: اللمع، 228.

[10] عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري القشيري (ت465ﮬ): تفسير القشيري المسمى لطائف الإشارات، قدم له: منيع عبد الحليم محمود، تحقيق: سعيد قطيفة، المكتبة التوفيقية، د.ط، د.ت، 252/1.

[11] سورة الحجر، آية 99.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق