لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني لطائف الخطاب في آيات الكتاب:سورة الأعلى أنموذجا «الحلقة الحادية والثلاثون»
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الدرس الأول من سورة الأعلى والذي تضمن الآيات « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى »[الأعلى: 1-5] وسنخصص الحديث في هذه الحلقة عن بعض الجوانب الأسلوبية والصوتية والتركيبية والبلاغية الذي تضمنها هذا المقطع من السورة، وذلك للكشف عن الإعجاز اللغوي والبلاغي في هذه الآيات.
التكرار في هذا المقطع من السورة:
ونلحظ في هذا المقطع من السورة التكرار؛ وهو ظاهرة أسلوبية عرفتها اللغة العربية بصفة عامة وخاصة في المستوى الصوتي حيث يضفي جمالا موسيقيا لفهم النص الأدبي، إذ نلحظه في سورة الأعلى رغم قلته، والتكرار هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ والمعنى، والمراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو التوبيخ أو الاستبعاد، أو أي غرض من الأغراض[1]، فنجد التكرار اللفظي في لفظة الذي كما جاء في قوله تعالى: « الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى» فإعادة اسم الموصول هنا مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب.[2] وذلك للصلة المستدامة بين الرب والمربوب ولتدل على خلق الله وقدرته عز وجل، ونجد كذلك التكرار الحرفي في حرف السين تجلى ذلك في لفظة: سبح، واسم، فسوى.
الإمــالة:
وهي ظاهرة صوتية عرفتها اللغة العربية عامة والقراءات القرآنية خاصة، وهي في اللغة العُدول إِلى الشَّيْءِ والإِقبالُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ المَيلَان. ومَالَ الشيءُ يَميلُ مَيْلًا ومَمالًا ومَمِيلًا وتَمْيالًا [3]، وعرفها ابن فارس بقوله: الميم والياء واللام كلمةٌ صحيحة تدلُّ على انحراف في الشيء إلى جانب منه، مال يَميل مَيْلاً. فإنْ كان خِلقة في الشَّيء فَمَيَلٌ، يقال مال يميل مَيَلاً، والمَيْلاء من الرَّمل: عقدة ضخمة تعتزل وتميل ناحيةً، والمَيْلاء: الشَّجرة الكثيرة الفروع[4].والإمالة في الاصطلاح عدولٌ بالألف عن استوائه، وجنوحٌ به إلى الياء، فيصير مخرجه بين مخرج الألف المفخَّمة، وبين مخرج الياء[5]، ويعرفها مكي بن أبي طالب بأنها تقريب الألف نحو الياء، والفتحة التي قبلها نحو الكسرة[6]. والإمالة ضرب من ضروب التأثر الذي تتعرض له الأصوات حين تتجاوز أو تتقارب، وهي والفتح صائتان، وقد يكونا طويلين أو قصيرين[7] . وللإمالة فائدة تتمثل في سهولة اللفظ وذلك أن اللسان يرتفع بالفتح وينحدر بالإمالة، والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع وكذا تهدف لانسجام الأصوات وتناسبها، وتتجلى حالات الإمالة الواردة في هذا المقطع من السورة عن ما أماله العرب نحو ما كان ثلاثيا سواء كان اسما أو فعلا مختوما بألف منقلبة عن ياء، إذ يرون أن إمالته حسنة [8] كقوله تعالى: «والذي قدر فهدى»؛ ففي «هدى» الألف منقلبة عن ياء، وكذلك في فعل زائد على ثلاث أحرف تكون لامه ألف نحو: «المرعى» في قوله تعالى: «والذي أخرج المرعى»، وأمالوا ما كان فيه ألف التأنيث على وزن فعلى بضم الفاء أو كسرها أو فتحها، وأمالوا رؤوس الآيِ مثل الأعلى. [9]
المد الصوتي في هذا المقطع من السورة:
جاء في لسان العرب المد لغة الجَذْب والمَطْلُ. مَدَّه يَمُدُّه مَدّاً ومدَّ بِهِ فامتَدّ ومَدَّدَه فَتَمَدَّد، وتَمَدَّدناه بَيْنَنا: مَدَدْناه. وَفُلانٌ يُمادُّ فُلَانًا أَي يُماطِلُه ويُجاذِبه. والتَّمَدُّد: كَتَمَدُّدِ السِّقاء، وكذلك كُلُّ شَيْءٍ تَبْقى فيه سَعَةُ المَدِّ. والمادَّةُ: الزِّيَادَةُ المُتَّصِلَةُ. ومَدَّه في غَيِّه أي أَمهلَه وطَوَّلَ لَهُ [10]، وفي الاصطلاح عبارة عن زيادة مَطٍّ في حَرف المَدِّ على المَدِّ الطّبيعي وهو الَّذي لا تَقُومُ ذَاتُ حرف المَدِّ دونَه، وحَرْفُ المَدِّ الألف مطلقا والواو السّاكنة المَضْمُوم ما قَبلها واليَاء السّاكنة المكسور ما قَبْلها[11]، وهذه الحروف غير مهموسات، وهي حروف لينٍ ومدٍّ، ومخارجها متسعة لهواء الصوت؛ وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها؛ ولا أمد للصوت؛ فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفةٍ ولا لسانٍ ولا حلقٍ كضم غيرها[12]، إلا أن المد الذي في الألف أكثر من المد الذي في الياء والواو، لأن اتساع الصوت بمخرج الألف أشد من اتساعه لهما، لأنك قد تضم شفتيك في الواو، وترفع لسانك قبل الحنك في الياء، وتسمى أيضاً حروف اللين لضعفها وخفائها وأن الحركات مأخوذة منها، فالفتحة من الألف، والكسرة من الياء، والضمة من الواو[13]، وينقسم المد إلى قسمين، أصلي ويسمى المد الطبيعي نحو قوله تعالى: « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى » وكذلك في قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» فيظهر أثر المد في «فَسَوَّى» وعلاقته الزمنية؛ إذ أعطى صوت الواو مع الألف ملمحا صوتيا دل على خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته، فسوى وضعها لتشهد على وحدانيته. وأما في قوله عز وجل: «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» فقد ساهم المد الصوتي هنا مع الفاصلة القرآنية في تصوير المعنى؛ لأن الله تعالى قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات، وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات، ثم هداهم إلى دينه بمعرفة توحيده، بإظهار الدلالات والبينات [14]. ونلاحظ أيضا في قوله تعالى: «والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى» انسجام التركيب مع الحالة الزمنية التي استغرقها، أي خروج النبات من الأرض فجعله بعد الخضرة غثاء بمعنى هشيما جافا وأحوى أي أسود بعد الخضرة؛ وذلك أن الكلاء إذا يبس اسود.[15]
حروف المعاني في هذا المقطع:
العطف تابع يتوسط بينه وبين متبوعه حرف من حروف العطف، ولكل حرف دلالة يتحراها المتكلم البليغ حتى يطابق كلامه مقتضى حاله، والذي وقع التقييد به من حروف العطف في هذا المقطع من السورة حرفان هما الفاء والواو؛ جاءت الفاء في قوله تعالى: « الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى» وهي مع الفعلين الأولين للترتيب والتعقيب بلا مهلة، للدلالة عل أن الخلق مقدم على التسوية وإن كان حصول التسوية مقارنا لحصول الخلق، وكذلك عطف فَهَدَى على قَدَّرَ لترتيب الهداية على التقدير، فكلما حصل التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه، والفاء في قوله تعالى: «فجعله» للربط والسببية[16]. ومن حروف العطف المستعملة في هذا المقطع الواو في قوله عزوجل: «والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى» عطف على الاسم الموصول الذي وقع صفة ثانية للأعلى، والواو هنا مطلق الجمع، أي أن الرب المستحق للتنزيه قد جمع كل هذه الصفات.
التشبيه التمثيلي في هذا المقطع:
وهو متى كان وجهه وصفا غير حقيقي وكان منتزعا من عدة أمور خص باسم التمثيل كالذي في قوله: [17]
اصبِرْ عَلَى مَضَضِ الحَسُو /// دِ فَإِنَّ صبرَكَ قاتلُه [مجزوء الكامل]
فالنارُ تَأكُلُ نَفسَها /// إنْ لم تَجِدْ ما تأكلُه
فإن تشبيه الحسود المتروك مقاولته بالنار التي لا تمد بالحطب، فيسرع فيها الفناء ليس إلا في أمر متوهم له، وهو ما تتوهم إذا لم تأخذ معه في المقاولة مع علمك بتطلبه إياها عسى أن يتوصل بها على نفثة مصدور من قيامه، إذ ذاك مقام أن تمنعه ما يمد حياته ليسرع فيه الهلاك وأنه كما ترى منتزع من عدة أمور[18]. وقد ورد في قوله تعالى: « وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى » على طريقة تمثيلية مكنية رمز إليها بذكر لازم الغيث وهو «المرعى» [19] فوجه الشبه هنا مأخوذ من أمور متعددة هي صورة السواد أي الظلام والإشراق معا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] معجم البلاغة العربية، بدوي طبانة، ص: 573، دار المنارة- جدة، دار الرفاعي، الرياض،الطبعة الثالثة.
[2] التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، 30/ 276.
[3] لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، 11/ 636، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ.
[4] معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق : عبد السلام محمد هارون، 5/ 290، دار الفكر، الطبعة : 1399هـ - 1979م.
[5] شرح المفصل للزمخشري، يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع، قدم له: الدكتور إميل بديع يعقوب، 5/ 188، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
[6] الكشف عن وجوه القراءا ت السبع وعللها وحججها ، أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق: د. محيي الدين رمضان، 1/ 168.
[7] اللهجات العربية في القراءات القرآنية، د. عبده الراجحي، ص: 134، دار المعرفة الجامعية- الاسكندرية، 1996.
[8] المقتضب، محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد، تحقيق: محمد عبد الخالق عظيمة، 3/ 43، عالم الكتب. – بيروت.
[9] الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، 1/ 319، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة: 1394هـ/1974م.
[10] لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، 3/ 396، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ.
[11] الإتقان في علوم القرآن، 1/ 333.
[12] الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، 4/176، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثالثة، 1408 هـ - 1988م.
[13] التحديد في الإتقان والتجويد، أبو عمرو الداني، تحقيق: الدكتور غانم قدوري حمد، ص: 109، مكتبة دار الأنبار - بغداد / ساعدت جامعة بغداد على طبعه، الطبعة: الأولى 1407 هـ - 1988م.
[14] مجمع البيان في تفسير القرآن، أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، 10/ 253، دار المرتضى- بيروت، الطبعة الأولى: 1427هـ/2006م.
[15] نفسه، 1/ 253.
[16] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، 4/ 298، الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957م، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.
[17] البيتان في ديوان شعر ابن المعتز، صنعة أبي بكر محمد بن يحيى الصولي، تحقيق الدكتور يونس أحمد السامرائي، 3/ 178-179، عالم الكتب: بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1417هـ- 1997م ، ورد في الديوان: لفظة حسد بدل لفظة مضض، ولفظة العدو بدل لفظة الحسود.
[18] مفتاح العلوم، السكاكي، ضبطه وكتب هوامشه وعلق عليه: نعيم زرزور، ص: 346-347، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1407 هـ - 1987م.
[19] التحرير والتنوير، 30/ 278.