لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «وقفات التأني عند آيات سورة السبع المثاني (الفاتحة)» في رحاب فاتحة الكتاب «الحلقة العشرون»
في الحلقة السابقة جاء بيان أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم مغايرون مغايرة تامة كلية للذين غضب الله عليهم، ومغايرون أيضا لفرق الضالين[1]، وقد أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبها بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق[2] فيقول المؤمن المسلم العابد لربه في ختام السورة: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين»[الفاتحة: 6-7]، فكان العنوان الأخير في سورة الفاتحة على النحو التالي:
العنوان الرابع:
تاريخ الموضوعين موضع الامتحان في ظروف الحياة الدنيا منذ نشأتهم الأولى، وإلى أن تقوم الساعة، تجاه مطلوب الله عز وجل منهم في رحلة امتحانهم، وقد دل عليه صراحة وضمنا باللزوم الذهني ومقتضياته قول الله عز وجل فيها: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين»[الفاتحة: 6-7] [3]
فقوله «صراط» بدل مطابق من «الصراط» في الآية السابقة، أو عطف بيان والغرض إضافة وصف جديد غير كونه مستقيما، أي: وهو الصراط الذي اختار سلوكَه المؤمنون المسلمون الذين أنعم الله عليهم بالهداية إليه، والتوفيق والمعونة حتى سلكوه، ثم أنعم عليهم بالحكم لهم بأنهم مهديون فائزون، وفي مقدمتهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وأئمة المتقين[4]، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه وأبلغه؛ لأنه جعله كالتفسير والبيان له، فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه، وأن الصراط المستقيم ما يكون إلا طريق المؤمنين[5]، و«الذين» اسم موصول مضاف إليه في محل جر، و«أنعمت» فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، و«التاء» ضمير متصل في محل رفع فاعل، وجملة «أنعمت» لا محل لها من الإعراب؛ لأنها صلة الموصول، و«عليهم» جار ومجرور متعلقان بأنعمت[6]. وألفاظ النِّعمة والنَّعماء والنُّعمى تطلق في اللغة على الدعة والمال وخفض العيش والرفاهية وأسبابها، ضد البأساء والبُؤْسى، وتطلق على المنة والعطية السارة[7]، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها وسميت النعامة للين سهمها: نعم إذا كان في نعمة، وأنعمت عينه أي سررتها، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه، والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه إلا أنه ضمن معنى التفضل فعدى بعلى وأصله التعدية بنفسه، أنعمته أي جعلته صاحب نعمة وهذا أحد المعاني التي لأفعل وهي أربعة وعشرون معنى هذا أحدها[8]، وفي هذا المنحى قال البيضاوي: ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها»[إبراهيم: 34] تنحصر في جنسين: دنيوي وأخروي؛ والأول قسمان: موهبي وكسبي؛ والموهبي قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق، وجسماني كتخليق البدن والقوى من الصحة وكمال الأعضاء؛ والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال. والثاني: أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين.[9]
إطلاق لفظ النعمة في القرآن على الرسالة وعلى الدين:
جاء في القرآن الكريم إطلاق لفظ النعمة على الرسالة وعلى الدين، فقال الله عز وجل لرسوله في سورة القلم: « ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون» [القلم: 1-2] أي ما أنت بالنبوة والرسالة والدين الذي حملك ربك رسالة تبليغه للناس والقرآن المجيد بمجنون، وقال عز وجل في سورة الضحى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث» [الضحى:11] أي فبلغ ما ينزل الله عليك من الدين بأسلوب الحديث الهادئ، وقال تعالى في سورة المائدة خطابا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزل على رسوله أواخر الأحكام الدينية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا».[المائدة: 3]، وجاء في القرآن إطلاق لفظ النعمة على ما سخر الله للناس في كونه من مسخرات، ومنه قول الله عز وجل في سورة لقمان: « أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور»[لقمان: 31]، وجاء في القرآن إطلاق لفظ النعمة على ما تفضل به الله على يونس عليه السلام بعد أن لفظه الحوت على الشاطئ، فقال الله عز وجل في سورة القلم بشأنه: « لَوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُوم فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِين»[القلم: 49-50]، وجاء في القرآن إطلاق لفظ النعمة على ما يتفضل الله به على عباده من دخول الجنة، قال الله عز وجل في سورة الصافات حكاية لقول المؤمن في الجنة يخاطب رجلا من أصحاب النار وهو في النار وقد كان قرينا له في الدنيا، وكان يحاول إغراءه بأن يكفر بيوم الدين: «قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِين أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُون قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُون فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِين وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِين»[الصافات: الآيات: 51-57]؛ أي ولولا نعمة الله علي بالتوفيق إلى الإيمان، وبالعفو والغفران لكنت معك من المحضرين في الجحيم.[10]
ومن جهة فإن إعادة الاسم في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول، أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحل العناية وأنه حبيب إلى النفس، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى: «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا» [الفرقان:72]، وقوله: «رَبَّنَا هَؤُلاَء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا»[القصص: 63] فإن إعادة فعل «مروا» وفعل «أغويناهم» وتعليق المتعلق بالفعل المعاد دون الفعل الأول، تجد له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به.[11]
وقوله: «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» فـ «غير» بدل من الضمير في عليهم، أو من الذين، أو نعت للذين، و«المغضوب» مضاف إليه، و«عليهم» جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل للمغضوب؛ لأنه اسم مفعول، و «ولا» الواو حرف عطف و«لا» زائدة لتأكيد معنى النفي، وهو ما في غير من معنى النفي، وهذه الزيادة مطردة، و«الضالين» معطوفة على المغضوب عليهم مجرور، وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم[12]، والمغضوب عليهم هم الذين أنزل الله عليهم غضبه، بسبب كفرهم وعنادهم وإصرارهم على الباطل ورفض الحق الديني، وهم يعلمون أنهم مبطلون[13]، والغضب عند أهل اللغة هو نقيض الرضى، وقد غَضِبَ عليه غَضَباً ومَغْضَبَةً، وأَغْضَبْتُه أَنا فَتَغَضَّبَ، وغَضِبَ له: غَضِبَ على غيره من أَجله، وذلك إذا كان حَيّاً، فإن كان ميِّتا قُلتَ: غَضِبَ بِهِ؛ قال دُريْدُ بن الصِّمَّة يرثي أخاه عبد اللَّه: [14]
فإِن تُعْقِب الأَيامُ والدَّهْرُ، فاعْلَمُوا، /// بَنِي قَارِبٍ، أَنَّا غِضَابٌ بمَعْبَدِ
وإِنْ يَكُ عبدُ اللَّهِ خَلَّى مَكانَه، /// فَمَا كانَ وَقَّافًا وَلَا طَائِشَ اليَدِ
قوله مَعْبد يعني عبد اللَّه، ومَعْبَدٌ: مشتق من العَبْدِ، فقال: بمَعْبَدٍ، وإنما هو عبد اللَّه بن الصّمَّة أخوه. وقوله تعالى: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» يعني اليهود. قال ابن عرفة: الغَضَبُ، من المَخْلوقِين، شيء يُداخل قلوبهم؛ ومنه محمود ومذموم، فالمذموم ما كان في غير الحق، والمحمود ما كان في جانب الدِّين والحقِّ؛ وأما غضب اللَّه فهو إنكاره على من عصاه، فيُعاقبه، وقال غيره: المفاعيل، إذا وَلِيَتْها الصفات، فإنك تُذَكِّر الصفات وتَجْمَعُها وتُؤنِّثها، وتترك المَفاعِيل عَلَى أَحوالها؛ يقال: هو مَغْضُوبٌ علَيهِ، وهي مَغْضُوبٌ عليها، وقد تكرر الغَضَبُ فِي الحديث من اللَّه ومن الناس، وهو من اللَّه سُخْطه على مَن عصاه، وإعْراضه عنه، ومُعاقَبَتُه له[15]، وجيء بحرف النفي لا لتأكيد معنى النفي الذي دلت عليه لفظة غير في عبارة «غير المغضوب عليهم» فهي بمثابة لفظة غير؛ أي غير المغضوب عليهم وغير الضالين، والحكمة من التصريح بالنفي إلى جانب الضالين الدلالة على أن قسم الضالين قسم قائم بذاته غير قسم المغضوب عليهم[16]، والضلال في اللغة ضدّ الهُدى والرَّشاد، ضَلَلْتَ تَضِلُّ، هذه اللّغة الفصيحة، وضَلِلْتَ تَضَلُّ ضَلالًا وضَلالةً؛ وقال كُراع: وبنو تميم يقولون ضَلِلْتُ أَضَلُّ وضَلِلْتُ أَضِلُّ؛ وقال اللِّحيانيّ: أهل الحجاز يقولون ضَلِلْتُ أَضَلُّ، وأهل نجد يقولون ضَلَلْت أَضِلُّ، قال وقد قُرِئ بهما جميعا قوله عزّ وجلّ: «قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي»[17]، فخالي الذهن من معرفة الشيء يقال بشأنه: هو ضال، أي: جاهل، ويعذر بجهله، إلا إذا دعي إلى معرفة الحق كطريق آمن موصل إلى الغاية فلم يستجب، فإنه يكون غير معذور بجهله وضلاله، والباحث عن معرفة الشيء الذي لم يهتد إليه يقال بشأنه: هو ضال، أي: ضائع، ويعذر بضياعه، إلا إذا دعي إلى معرفة ما يبحث عنه فرفض دعوة الداعي، ولم يلتفت إلى دعوته ولا إلى ما يقدمه من أدلة إذا كان الأمر يحتاج أدلة إثبات أو نفي، والناسي الذي لم يكن منه إهمال مقصود هو ضال معذور بضلاله، أي: بنسيانه، أما الضال عن الطريق الجائر بإرادته اتباعا لأهوائه وشهواته ونزعات نفسه ونزغاتها، فإنه مكابر معاند للحق من الدرجة القصوى، ويستحق أشد العقاب، ومن هذا الفريق علماء اليهود المكذبون للقرآن عنادا، وأما المعرض عن دعوة الداعي إلى الحق وإلى سبيل النجاة والوصول إلى الغاية السعيدة، والسائر في متاهاته على غير هدى، فإنه ضال غير معذور في ضلاله، وهو مغرور معاند لمعرفة الحق، راض بما هو فيه من ضلالة وجهالة، وهو يحسب أنه عل الحق وأنه يحسن صنعا، فجرمه دون جرم المعاند للحق من الدرجة القصوى، ومن هذا الفريق جماهير كثيرة من النصارى الضالين التائهين الذين يعرضون عن دعوة من يدعوهم إلى الإسلام والعمل بما جاء به خاتم المرسلين.[18]
هذا الصراط الذي وصف بالمستقيم جاء بعده ما يوضحه على طريقة التفصيل بعد الإجمال وذلك في قوله تعالى: « صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ»[الفاتحة: 6] وهذه الآية بدل من الصراط، جيء به للتأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم تفسير صراط المسلمين، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة، قال الزمخشري: « فإن قلت ما فائدة البدل؟ وهلا قيل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ قلت: فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل؟ لأنك ثنيت ذكره مجملا أولا، ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما فيه غير مدافع ولا منازع»[19]، ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه، تمهيداً لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه.[20]
التناسب التقابلي بين المؤمنين والكافرين:
من بديع نظم سورة الفاتحة أسلوب التقابل، وقد ورد جريا على سنن لغة القرآن الكريم في بيان حال ومآل كل من الفريقين في الدنيا والآخرة، ولا يخفى على أحد أن مثل هذا الأسلوب له أثر بالغ في المتلقي إذ به تتضح الصورة وينجلي ما كان خافيا منها، فضلا عن بيان كل فريق من الفريقين، وجاءت المقابلة بين فريقين؛ فريق المؤمنين وعبر عنهم بـ «صراط الذين أنعمت عليهم» وفريق الكافرين الذين عبر عنهم بـ « غير المغضوب عليهم ولا الضالين»؛ فالفريق الأول سالك صراطا يسير عليه وقد أنعم الله عليه، أما الثاني فمنحرف ضال ليس لديه طريق يسير فيه، وهنا سنخص الحديث عن أوجه التناسب التركيبي والأسلوبي في هذه المقابلة، وأول هذه الأوجه هي جمالية المناسبة في تنوع الانتقاء اللفظي، إذ عبر على المؤمنين بالفعل أنعمت، أما على الكافرين فعبر بالاسم المغضوب والضالين، وهو انتقاء مقصود إذ فيه إيجاز بديع؛ ففي إيثاره الفعل الماضي المبني للمعلوم مع الاسم الموصول الذين أنعمت عليهم دلالات وإشارات عدة منها أنه جاء بالفعل جريا على سنن القرآن في إسناد أفعال الإحسان والإنعام والرحمة إلى الله، كما أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها، وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى، الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله: « أنعمت عليهم» من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله، فضمن هذا اللفظ الأصلين، وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله تعالى: « فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون» [البقرة: 152] [21]، كما أن في الصيغة الفعلية «أنعمت عليهم» تكريما وتشريفا وبيانا لعظم النعمة والإحسان ما ليس في قوله المنعم عليهم، فلو قال: «المنعَم عليهم» لم يبيّن المُنعِم الذي أنعم عليهم، والنعمة إنما تقدر بقدر المنعِم، فإن كان المنعم صديقاً يختلف عما إذا كان أميراً أو سلطاناً، وذلك من حيث مقدار النعمة، ومن حيث التكريم لمن نالها، فإن كان المنعِم عظيماً عَظُمتْ نعمتهُ، وإن كان أدنى من ذلك كانت على قدر صاحبها، وكذلك من حيث التكريم، فالذي ينعم عليه السلطان غير الذي ينعم عليه أحد أفراد الرعية، فإن قولك: «فلان أنعم عليه الخليفة» فيه من التعظيم والتكريم ما ليس في قولك: فلان أنعم عليه رئيس البلدية أو المحافظ، ففي قوله: «أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» من التكريم وعظم النعمة ما ليس في «المنعَم عليهم»[22]، لذلك ذكر فاعل النعمة وهو الله عز وجل. أما الصيغة المقابلة التي استخدمت مع الكافرين فنجد أنه استخدم الاسم «المغضوب عليهم ولا الضالين» مع حذف الفاعل من كليهما، دون قوله: غير الذين غضبت عليهم وأضللت، وذلك لمعان بلاغية منها: التأدب مع الله عز وجل بعدم نسبة الغضب والضلال وإسنادهما إليه، كما أنه عبر باسم المفعول المغضوب واسم الفاعل الضالين؛ لأن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم، وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبة عليه ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم[23]، إضافة إلى مجيئهما اسمين للدلالة على ثبوت هذه الصفات لهم ودوامها لأن الاسم يدل على الثبوت والدوام بخلاف الفعل، وأما المغضوب عليهم، فقد بناه للمفعول ليعم الغضب عليهم: غضب الله، وغضب الغاضبين لله ولا يتخصص بغاضبٍ معين، فهم مغضوبٌ عليهم من كل الجهات. بل إن هؤلاء سيغضب عليهم أخلصُ أصدقائهم وأقرب المقربين إليهم، يوم ينقطع حبلُ كل مودّةٍ في الآخرة غير حبل المودّة في الله، وتنقطع كل العلائق غير العلائق في الله[24]، وأضاف النعمة إليه وحذف فاعل الغضب لوجوه:
منها: أن النعمة هي الخير والفصل، والغضب من باب الانتقام والعدل، والرحمة تغلب الغضب، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وأسبقهما وأقواهما، وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ»[النحل: 53] فأضيف إليه ما هو منفرد به.
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره، وتصغير شأنه، ما ليس في ذكر فاعل النعمة، من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره، ورفع قدره: ما ليس في حذفه.[25]
وخصت صفة الضلال في الضالين لأن الضلال ضد الهدى وضد معنى الصراط المستقيم، وهذا يبين جمالية التناسب الضدي في المقابلة. ومن أوجه التناسب كذلك في هذه المقابلة حذف لفظة «صراط» مع المغضوب عليهم ولا الضالين؛ وهذا الحذف يعمق معنى الاسمين الدالين على الغضب والضلال. ومن أوجه التناسب في المقابلة الإفراد والتثنية، فقد ذكر «الصراط المستقيم» منفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعيّنه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» [الأنعام: 153] فوحّد لفظ الصراط وسبيله، وجمع السبل المخالفة له[26]. ومن أوجه التناسب الأسلوبي التقديم والتأخير فقد قدم المؤمنين بقوله تعالى: «الذين أنعمت عليهم» وأخر ذكر «المغضوب عليهم ولا الضالين» فجاء التقديم والتأخير على النحو التالي: أولا: تقديم المنعم عليهم لشرفهم وفضلهم فهم أولى بالذكر من هاتين الطائفتين الهالكتين. وثانيا: تقديم ما أنعم الله به على عباده من الهداية والكرامة، أولى من تقديم ما فعله أشرار العباد بأنفسهم، من استحقاق الغضب عليهم والوقوع في الضلالة والغواية، فقدم الله ذكرهم لبيان إنعامه وإكرامه لهم.[27]
ومن التقديم في هذه المقابلة تقديم «المغضوب عليهم» على «ولا الضالين» وقد بين ابن القيم سبب هذا التقديم الذي حصره في أوجه أحدها: أنهم متقدمون عليهم بالزمان، وثانيها أنهم كانوا هم الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين، فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه، ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن أكثر من خطاب النصارى، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور، وثالث هذه الأوجه أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة؛ فإن كفرهم عن عناد وبغي، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم وعاند. ورابعها وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم، والغضب ضد الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين، فقولك: الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم، أحسن من قولك: منعم عليه وضال.[28]
والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به، فيكون من صفات الأفعال، وقدم الغضب على الضلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام، ومناسبة ذكره قرينة، لأن الإنعام يقابل بالانتقام، ولا يقابل الضلال الإنعام فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه، فبينهما تطابق معنوي، وفيه أيضاً تناسب التسجيع، لأن قوله: «ولا الضالين»، تمام السورة، فناسب أواخر الآي، ولو تأخر الغضب، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي، وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين، فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى[29]. ومن تناسب الكلام في المقابلة أنه قال «غير المغضوب» ولم يقل لا المغضوب عليهم؛ فيقال لا ريب أن «لا» يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول: «جاءني زيد لا عمرو» و«جاءني العالم لا الجاهل»، وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا، وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» لا المغضوب عليهم، لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت: «جاءني العالم لا الجاهل» لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم، وأما الإتيان بلفظ «غير» فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين أحدهما: أنهم منعم عليهم، والثاني: أنهم غير مغضوب عليهم، فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم، فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم، وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله[30].
فالدعاء في آواخر سورة الفاتحة الذي تجلى في قوله تعالى «اهدنا الصراط المستقيم» ورد فيه التقابل بعد تلك المقدمات، وله دلالاته المتمثلة في تعليم العباد كيفية الطلب من ربهم الكريم، فلا بد لهذا الدعاء أن تسبقه مقدمة تمهد له؛ وهي مقدمة الحمد والثناء على الله تعالى، وفي هذا المنحى يقول ابن القيم: ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب: علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء[31]. وهذا ترتيب شريف رفيع عال يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه.[32]
وختاما نقول: ابتدأت السورة بقوله تعالى: «الحمد لله رب العالمين»، وختمت بقوله عز وجل: «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» فالتناسب بين المطلع والخاتمة واضح جلي؛ فالعالم بالحق العامل به: هو المنعم عليه، وهو الذي زكّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح. وهو المفلح «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» [الشمس: 9] والعالم به المتبع هواه هوالمغضوب عليه، والجاهل بالحق: هو الضال، والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل، والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل، فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به، ومن هاهنا كان اليهود أحقّ به وهو متغلظ في حقهم، كقوله تعالى في حقهم «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ»[البقرة: 90]، وقال تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ»[المائدة:60]. والجاهل بالحق: أحق باسم الضلال[33]، وبهذا ناسب المطلع الختام أوثق مناسبة في أحسن صورة وأروع بيان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/307، دار القلم- دمشق، الطبعة الأولى: 1420هـ/2000م.
[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، 1/18، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان. الطبعة الثالثة: 2006م.
[3] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/286.
[4] نفسه، 1/307.
[5] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة، تحقيق: عمر أحمد الراوي، 1/41-42.
[6] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 1/30-31.
[7] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/307.
[8] تفسير البحر المحيط، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، تحقيق : الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق: د.زكريا عبد المجيد النوقي، د.أحمد النجولي الجمل، 1/144، دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2001 م.
[9] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، 1/30-31، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى - 1418 هـ.
[10] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/309-310.
[11] التحرير والتنوير، الطاهر محمد بن عاشور، 1/192-193، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997م.
[12] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/31.
[13] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/310.
[14] ديوان دريد بن الصمة، تحقيق: عمر عبد الرسول، ص: 70، والبيت الثاني ص: 65، دار المعارف.
[15] لسان العرب، ابن منظور، 1/648-649، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة-1414 هـ.
[16] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/311.
[17] لسان العرب، 11/390.
[18] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/311-312.
[19] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، 1/58، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[20] التحرير والتنوير، 1/193.
[21] بدائع التفسير الجامع لما فسره الإمام ابن قيم الجوزية، جمعه وخرجه: يسري السيد محمد، 1/71. دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى: 1427هـ.
[22] لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل السامرائي، ص:64-65، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، الطبعة: الثالثة، 1423 هـ - 2003 م.
[23] بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، 2/33، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
[24] لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، ص: 66.
[25] تفسير القرآن الكريم، ابن قيم الجوزية، تحقيق: مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية بإشراف الشيخ إبراهيم رمضان، ص: 16-17، دار ومكتبة الهلال – بيروت، الطبعة: الأولى- 1410 هـ.
[26] تفسير القرآن الكريم، ابن قيم الجوزية، ص: 18-19.
[27] دلالات التقديم والتأخير في القرآن الكريم دراسة تحليلية، الكتور منير محمود المسيري، ص: 166. مكتبة وهبة، 1426هـ/ 2005م.
[28] بدائع التفسير، 1/82-83.
[29] تفسير البحر المحيط، 1/152.
[30] بدائع الفوائد، 2/23-24.
[31] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، 1/47، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996م.
[32] مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، 1/215، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 هـ.
[33] تفسير القرآن الكريم، ص: 15.