لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «وقفات التأني عند آيات سورة السبع المثاني (الفاتحة)» في رحاب فاتحة الكتاب «الحلقة التاسعة عشرة»
إن عبادة الله وحده والاستعانة به وحده قياما بحق ربوبيته وحق إلهيته، كما جاء في دلالة الآية:« إياك نعبد وإياك نستعين» تستلزم عقلا أن يسعى العابد لربه إلى معرفة الأعمال النفسية والجسدية التي ترضي ربه في عبادته له، حتى لا يعمل عملا يسخطه وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فكان لا بد له من أن يدعو ربه سائلا أن يهديه إليها، بالبيان وبالتوفيق إلى أدائها، لكنه يدرك ببصيرته الإيمانية أن برنامج هذه الأعمال لا يكون إلا على صراط مستقيم جلي واضح لا عوج فيه ولا عثرات، لأن الله عز وجل عليم حكيم لا يرضيه من عباده في عبادتهم له إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم في عاجل أمرهم وآجله، وظاهر أن تحقيق الخير والسعادة العاجلة والآجلة لا يكون إلا بسلوك الصراط المستقيم الواضح الجلي المضيء الذي لا شر فيه ولا ظلمات.[1]
وبما أن العباد عاجزون عن تحديد هذا الصراط بكل عناصره، كان لا بد أن يسألوا ربهم أن يهديهم إليه، بما ينزل لهدايتهم معلما من شرائع وأحكام ونصائح ووصايا وبيانات، وحكمة الله جل جلاله في هذا التنزيل اقتضت أن ينزلها على رسول مصطفى لحمل رسالات الله لعباده، وحين تكون هذه الحقيقة حاضرة في تصور العبد المؤمن الحريص على أن يعبد الله بما يرضيه من عباده، وهو يعلم أنه واحد من الأمة الربانية المؤمنة المسلمة، التي يحرص كل فرد من أفرادها على أن يعبد ربه بما يرضيه، فإنه يدعو ربه شاعرا بمشاركته لكل فرد من أفرادها فيما تدعو ربها به فيقول:« اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم»[الفاتحة: 5][2]، فيكون هذا تمهيدا للدرس الثالث بعنوان:
العنوان الثالث:
الدين الذي اصطفاه الله لعباده الذين وضعهم موضع الامتحان في ظروف الحياة الدنيا، وجعله الصراط المستقيم لمن شاء أن يسلكه بغية الفلاح والفوز يوم الدين، يوم الحساب وفصل القضاء وتنفيذ الجزاء، وقد دل عليه صراحة وضمنا باللزوم الذهني ومقتضياته قول الله عز وجل: «اهْدِنَــــا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ»[الفاتحة:5][3].
فاهدنا: أي أعلمنا وأرشدنا ودلنا، ووفقنا أيضا وأوجد لدينا الوازع والدافع لنا، وصيغة: «اهدنا» أمر مستعمل في الدعاء[4]، وقد هَداه هُدًى وهَدْياً وهِدَايةً وهِديَةً وهَداه للدِّين هُدًى وهَداه يَهْدِيه فِي الدِّين هُدًى، وقال قَتادَة في قوله عزّ وجلَّ: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ»[فصلت: 17]؛ أي بَيَّنَّا لهم طريق الهُدى وطريق الضَّلالَة فاسْتَحَبُّوا أَي آثرُوا الضّلالة على الهُدَى. قال الليْثُ: لُغَةُ أَهل الغَوْرِ هَدَيْتُ لَكَ فِي مَعْنَى بَيَّنْتُ لَكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ»[السجدة: 26]؛ قال أَبو عمْرو بن العلاء: أَوَلم يُبَيِّنْ لَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ:أَنه قَالَ لِعَلِيٍّ سَلِ اللهَ الهُدَى[5]، وهَداه للطّريق وإلى الطريق هِدايةً وهَداه يَهْدِيه هِدايةً إذا دَلَّه على الطَّرِيقِ. وهَدَيْتُه الطّريق والبيتَ هِداية أَي عرَّفته، لُغَةَ أَهل الْحِجَازِ، وغيرهم يقول: هَدَيْتُه إِلى الطَّرِيقِ وإِلى الدَّارِ؛ حكاها الأَخفش. قال ابْنُ بَرِّيٍّ: يقال هَدَيْتُهُ الطَّريقَ بمعنى عَرَّفْتُهُ فيُعَدَّى إلى مفعولَين، ويقال: هَدَيْتُهُ إلى الطَّريق وللطَّريق على معنى أَرشَدْته إِليها فيُعدَّى بحرف الجرِّ كأَرْشَدْتُ، قال: ويُقال: هَدَيْتُ لَهُ الطريقَ على معنى بَيَّنْتُ لهُ الطَّرِيقَ، وعليه قوله سبحانه وتعالى: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ»، «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ»[البلد: 10]، وَفِيهِ: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ»، معنى طَلَب الهُدَى منه تعالى، وقد هَداهُم أَنهم قد رَغِبُوا منه تعالى التَّثبيت على الهُدَى، وفيه: «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ»[الحج: 24]، وَفِيهِ: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»[الشورى: 52][6]. وقد يستعمل فعل هداه بمعنى وفقه، وبمعنى أوجد لديه الدافع لالتزام الهدى والعمل به، وهذا من التوسع في دلالة اللفظ، وقد يستعمل فعل هداه بمعنى وجده مهديا فنسبه إلى الهدى، أو حكم له بأنه ذو هداية، ولكن هذا المعنى غير مراد هنا[7]، وهو فعل أمر مبني على حذف العلة، وهو هنا بمعنى الدعاء، و«نا» ضمير متصل في محل نصب مفعول به، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنت[8]، والفعل منه هدى بالفتح وأصله أن يعدى باللام كقوله تعالى: «إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»[الإسراء: 9]، أو إلى كقوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم»[الشورى: 52]، فعومل هنا معاملة: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ »[الأعراف: 155][9]. وفي هذا المقام يقول البيضاوي: وهداية الله تعالى تتنوع أنواعاً لا يحصيها عد كما قال تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها»[إبراهيم: 34] ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وقال: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى».
الثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإياها عنى بقوله: «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» وقوله: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ».
الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي، أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ». وقوله: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا». فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المرتبة عليه. فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به: أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك، والأمر والدعاء يتشاركان لفظاً ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل: بالرتبة.[10]
وقوله تعالى الصراط فقد جاء في القراءات المتواترات نطق الصاد سينا « سِراط» ونطقها مشمومة زايا «الظِّراط»[11]، قال الجوهري في الصحاح: الصِراطُ والسِراطُ والزِراطُ، لغة: الطريقُ[12]، قال الشاعر:
أَكُرُّ عَلَى الْحَرُورِيِينَ مُهْرِى /// وَأَحْمِلُهُمْ عَلَى وَضَحِ الصِّرَاطِ
وهو مشتق من سَرَطَ الطعام إذا ابتلعه، فكأنه يبتلع السَّابِلة؛ أي المارَّة به، وقُلبت السين صادا لتطابق الطاء في الإطباق، وقد تُشَمُّ زايا لقرب المخرج[13]، قال الواحدي النيسابوري في الوسيط: فمن قرأ بـ«السين» فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بــ«الصاد» فلأنها أخف على اللسان لأن الصاد حرف مطبق كالطاء، فيتقاربان ويحسنان في السمع، ومن قرأ بــ«الزاي» أبدل من السين حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء في الجهر، ويحتج بقول العرب «زقر» في «صقر»، ومن قرأ بــ«إشمام» الزاي فإنه لم يجعلها زايا خالصة ولا صادا خالصة لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما، وكلها لغات[14]. والصراط مفعول به ثان، أو منصوب بنزع الخافض؛ لأن هدى لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد، وتتعدى إلى الثاني باللام أو بإلى كما ذكرنا سالفا، ولكن غلب عليها الاتساع فعداها بعضهم إلى اثنين. وقد نظم بعض الظرفاء أبياتا ضمنها الأفعال التي تتعدى إلى واحد وإلى الثاني بحرف جر، وهي:
تعدى من الأفعال طورا بنفسه /// وحينا بحرف الجر للثَّان ما ترى
دعا في النِّدا سمّى كذا كنى /// وزوجه واستغفر اختار غيرا
أمرت صدقت الوعد كلت وزنته /// عفا وهدى منّى كذا سأل اذكرا
ومجموعها ستة عشر فعلا.[15]
وجاء إطلاق لفظ الصراط على الشرائع، والأحكام، والنصائح، والوصايا، وسائر البيانات الدينية، المتعلقة بسلوك العباد الباطن والظاهر في الحياة الدنيا عبادة لربهم، على سبيل الاستعارة القائمة على تشبيه البرنامج الموصل إلى السعادة التي هي أجل مقاصد أولي الألباب بالصراط الموصل إلى الغاية المطلوبة للسالكين في أسفارهم، وتنقلاتهم في حواضرهم وبواديهم[16]. وقد جاء لفظ المستقيم وصفا للصراط الذي يدعو العبد المؤمن المسلم ربه أن يهديه إليه تعليما وتوفيقا ودفعا ووزعا، والمستقيم هو الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق والخير وما هو الأفضل والأحسن والأصلح[17]، والمستقيم صفة للصراط، وهو معتل، وعين الفعل فيه واو، والأصل مستقوم، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى القاف، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.[18]
التناسب الدلالي للألفاظ: [اهدنا- الصراط- المستقيم]:
إن مجيء قوله تعالى: « اهدنا الصراط المستقيم» بعد الثناء والتمجيد والعبادة والاستعانة ينسجم وجمالية التناسب التشكيلي في سياق الآيات والمعنى؛ اهدنا يا رب إلى الطريق الحق، يقول القرطبي: وجعل هذا الدُّعاء الّذي في هذه السّورة أفضلَ من الّذي يدعو به [الدَّاعِي] لأنَّ هذا الكلام قد تَكَلَّم به رَبُّ العالمين، فأنت تَدْعُو بدعاءٍ هو كلامُه الَّذِي تكلم به[19]. وما يستوقفنا في لغة التعبير القرآني التناسب الدلالي في الفعل «اهدنا»، إذ يحمل دلالات كبيرة ينبني عليها مقصد السورة؛ وقد تجلى في بلاغة أسلوب الأمر المجازي «اهدنا» وهو فعل أمر يقصد به الدعاء، بل الضراعة التي هي غاية التذلل من شدة الدعاء، والدليل على ذلك ما سبقه من استئناس باسم الله، وثناء عليه، واستمطار لرحمته، وتسليم بمطلق ملكه وربوبيته، وتخصيصه بالعبادة والاستعانة، إن هذا الذي سبق يجعل الدعاء ضراعة، لا مجرد دعاء، وإنما كان الأمر كذلك من أجل أن يكون أقرب إلى القبول والإجابة.[20]
واستعمل الفعل «اهدنا» دون غيره لأن له دلالة بلاغية؛ والهداية الدلالة بتلطف ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير، وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد، ويتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بــ«إلى» وبــ«اللام»[21]. ومن أوجه التناسب الدلالي في قوله تعالى: « اهدنا الصراط المستقيم» تعديته بنفسه وليس بحرف الجر للإطلاق؛ لأن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة، والثلاثة في القرآن:
فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله: « وَيَهْدِيكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا»[الفتح:2].
ومن المعدى بـ « إلى» قوله: « وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»[الشورى:52].
ومن المعدى باللام قوله قول أهل الجنة: « الحَمْدُ لله الّذِي هَدَانَا لِهَذَا»[الأعراف:43].
والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي: أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذ بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو: رَغِبْتُ عَنهُ، ورغِبتُ فِيه، وعَدَلْتُ إِلَيْه، وعَدَلْتُ عَنْه، ومِلْتُ إِلَيْهِ وعَنْهُ، وسَعَيْتُ إِلَيْهِ وبِهِ. وإن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو: قَصَدْتُ إليْه، وقَصَدْتُ لَهُ، وهَدَيْتُهُ إلى كَذَا، وهَدَيْتُهُ لِكذَا.
وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدي به معناه، وهذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى، وطريقة حذَّاق أصحابه يضمِّنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف[22].
وفي هذا المقام لم قال اهدنا ولم يقل اهدني؟
لأنه مناسب لسياق الآيات السابقة وكما في آيات الاستعانة والعبادة اقتضى الجمع في الهداية أيضا، فيه إشاعة لروح الجماعة وقتل لروح الأثرة والأنانية وفيه نزع الأثرة والاستئثار من النفس بأن ندعو للآخرين بما ندعو به لأنفسنا، الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة فإذا كثر السالكون يزيد الأنس ويقوى الثبات فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل أو يسقط أو تأكله الذئاب، فكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس[23].
أما عن التناسب البلاغي في لفظة «الصراط» فإننا نجد إيثار اللفظ والاستعارة والتعريف، وقد عبر بالصراط دون غيره لعدة أسباب، ذلك أن الصراط ما جمع خمسة أوصاف؛ وهي أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول[24]، واختيارُ كلمة «صراط» دون كلمة «طريق» أو «سبيل» له سببه، ذلك أن «صراط» على وزن «فِعال» من «صراط» وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالرباط والشِّداد، فيشتمل على كل السالكين، ولا يضيق بهم فهو واسع رَحْبٌ بخلاف كلمة «طريق» فإنها «فعيل» بمعنى «مفعول» من «طرق» بمعنى مطروق، وهذا لا يدل في صيغته على الاشتمال، فقد يضيق بالسّالكين ولا يستوعبهم.
وكذلك كلمة «السبيل» فهي كأنها «فعيل» بمعنى «مفعول» من أسبلَتِ الطريقُ إذا كثرت سابِلَتُها كالحكيم بمعنى المُحكَم، والسَّابلة من الطريق المسلوكةُ يقال: سبيل سابلة، أي: مسلوكة.
وقد جاء بالصراط مفرداً مُعَرَّفاً بتعريفين: بالألف واللام والإضافة، وموصوفاً بالاستقامة مما يدل على أنه صراط واحد، ليس ثمة صراط غيره، فإنه ليس بين النقطتين أكثر من مستقيم واحد[25]. ومن دواعي إيثار «الصراط» تذكير المسلمين بصراط الآخرة الممدود على جهنم الذي فيه النجاة إلى الجنة، وكذا الصراط المستقيم في الدنيا ففيه النجاة، ومن سار عليه طائعا لربه في الدنيا عَبَرَ صراط الآخرة ونجا من العذاب، وهذا من بديع التناسب، ولهذه المعاني استعار الصراط للإسلام؛ فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدق انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة؛ لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين، ووجه الشبه بينهما أن الله سبحانه وإن كان متعاليا عن الأمكنة، لكن العبد الطالب الوصول لابد له من قطع المسافات، ومس الآفات، ليكرم بالوصول والموافاة.[26]
فالمؤمن المسلم الذي أعلن أنه يعبد ربه وحده، ويستعين به وحده، ولا يشرك بربه شيئا في العبادة ولا في الاستعانة، والذي سأل ربه داعيا أن يهديه الصراط المستقيم الذي يوصله إلى مرضاة الله وإلى جنات النعيم بفضل الله عليه، لا بد أن يشعر بأنه فرد يتابع مسيرته في الحياة الدنيا على صراط الأمة الربانية الواحدة، في موكبها المتواصل منذ عهد آدم عليه السلام، ولا بد أن يشعر بأن هذه الأمة هي الأمة التي أنعم الله عليها فوفقها إلى سلوك صراط ربها المستقيم، وأنعم عليها فجعلها بفضله مجزية على إيمانها وإسلامها وصالحات أعمالها بجنات النعيم يوم الدين، وبرضوانه العظيم.[27]
وفي سورة الفاتحة يعلم الله عز وجل المؤمن المسلم العابد لربه أن ينظر هذه النظرة إلى تاريخ الموضوعين مثله موضع الامتحان في ظرف الحياة الدنيا، وأن يلاحظ أنهم عل ثلاثة أقسام رئيسية:
- قسم أنعم الله عليهم، على مراتبهم ودرجاتهم.
- وقسم غضب الله عليهم على منازلهم ودركاتهم.
- وقسم ضالون على اختلاف عوامل ضلالهم، واختلاف زمرهم وفئاتهم.
فجاء فيها بيان أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم مغايرون مغايرة تامة كلية للذين غضب الله عليهم، ومغايرون أيضا لفرق الضالين، فيقول المؤمن المسلم العابد لربه في ختام السورة: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين»[الفاتحة: 6-7][28]، فيكون هذا تمهيدا للعنوان الرابع والأخير من السورة والذي سنتحدث عليه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/300.
[2] نفسه، 300-301.
[3] نفسه، 1/286
[4] نفسه، 1/301
[5] لسان العرب، ابن منظور،15/354، دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ.
[6] نفسه، 15/355.
[7] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/301.
[8] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 1/30.
[9] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، العلامة أبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي ابن عجيبة الحسني، تحقيق: عمر أحمد الراوي، 1/37، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة: 2010م.
[10] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، 1/30، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى: 1418 هـ.
[11] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/301.
[12] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، 3/1139، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ - 1987م.
[13] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، 1/37.
[14] الوسيط في تفسير القرآن المجيد، الواحدي النيسابوري، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، والدكتور أحمد محمد عميرة، والدكتور أحمد عبد الغني الجمل، والدكتور عبد الرحمن عويس،1/68، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى: 1415هـ/1994م.
[15] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/30.
[16] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/302.
[17] نفسه،1/302.
[18] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/30.
[19] الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، 1/147، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.
[20] رياض القرآن تفسير في النظم القرآني ونهجه النفسي والتربوي، سمير شريف استيتية، 1/55، الطبعة الاولى: 1426هـ/2005م.
[21] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 1/187، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م.
[22] بدائع التفسير الجامع لما فسره الإمام ابن القيم الجوزية، ابن القيم الجوزية، تحقيق: يسري السيد محمد، صالح أحمد الشامي، 1/ 72-73.الطبعة الاولى: 1467هـ.
[23] لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل صالح السامرائي، ص: 17.
[24] بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، 2/16، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
[25] لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي، ص: 58-59، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان – الأردن، الطبعة: الثالثة، 1423 هـ - 2003 م.
[26] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 1/33.
[27] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/303.
[28] نفسه، 1/306-307