مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة الخامسة عشرة: روعة البيان القرآني في الآيتين: 211 و 212 من سورة البقرة

تمهيد:

من مداخل بيان إعجاز القرآن: المدخل البلاغي، وهو الذي يقوم على معرفة وجوه البلاغة في الآيات القرآنية للوقوف على سر الإعجاز فيها، ونقف في هذه الحلقة عند الآيتين 211 و 212 من سورة البقرة، لنستكشف روعة البيان القرآني فيهما.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (211)

– ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تتنزل من التي قبلها منزلة البرهان على معنى الجملة السابقة، فإن قوله: (هل ينظرون) [البقرة: 210] سواء كان خبرا أو وعيدا أو وعدا أم تهكما، وأيا ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة قد دل بكل احتمال على تعريض بفرق ذوي غرور وتماد في الكفر وقلة انتفاع بالآيات البينات، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غناء الآيات لديهم على كثرتها، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيمانا ضعيفا ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلا(1).

– قوله تعالى: (سَلْ): أمر للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد كما قال الزمخشري(2)، و«كم» اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام ويكون للإخبار، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم ولذلك تحتاج إلى مميز في الاستفهام وفي الإخبار، وهي هنا استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال، فالمسؤول عنه هو عدد الآيات(3).

وجوز الزمخشري أن تكون خبرية(4)، إلا أن أبا حيان أنكر ذلك، يقول: «وهو ليس بجيد، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى: سل بني إسرائيل، وما ذكر المسئول عنه، ثم قال: كثيرا من الآيات آتيناهم، فيصير هذا الكلام مفلتا مما قبله، لأن جملة: كم آتيناهم، صار خبرا صرفا لا يتعلق به: سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلا في الاستفهامية، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف، وهو المفعول الثاني: لسل، ويكون المعنى: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم أخبر تعالى أن كثيرا من الآيات آتيناهم»(5).

وهذا السؤال ليس سؤالا عما لا يعلم، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات، وإنما هو سؤال عن معلوم، فهو تقريع وتوبيخ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد: (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته).

وفي هذا السؤال أيضا تثبيت وزيادة، كما قال تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) أو: زيادة يقين المؤمن، فالخطاب في اللفظ له صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقومه لم يكونوا يعرفون شيئا من قصص بني إسرائيل، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه(6)، ومجيء التقرير بصورة الاستفهام لأنه أوقع في النفس وأدل على الإلزام، وهذا القسم من الاستفهام التقريري هو إنشاء من حيث اللفظ؛ لأن صيغة الاستفهام من أقسام الإنشاء، خبر من حيث المعنى؛ لأن معناه تثبيت الخبر وتحقيقه(7).

لذلك قال القرطبي: «قوله تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى»(8).

– قوله: (نِعْمَةَ اللَّهِ): آياته وهي أجل نعمة من الله؛ يريد أن ذكر نعمة الله هاهنا من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، للإشعار بتعظيم الآيات وتعليل قبح فعلهم بكفران تلك النعمة العظمى، وهو تبديلهم إياها(9).

– قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ): قَالَ الرَّاغِب فِي «المُفردات»: «والمجيء يقال اعتبارا بالحصول، ويقال: جاء في الأعيان والمعاني»(10). والمجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن، لأنها لوازم المجيء عرفا(11).

ومعنى (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) يعني: لا يصح تبديل الآيات إلا بعد مجيئها، فلِمَ صرح به؟ وما فائدة تصريحه؟ والجواب: ربما يوجد التبديل عن غير خبرة بالمبدل أو عن جهل به فيعذر فاعله، وهؤلاء على خلاف ذلك، والفائدة: مزيد التقريع والتشنيع، وإثبات المجيء للآيات من الاستعارة، ويحتمل أنواعاً منها، قال القاضي: وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، ولذلك قيل: تقديره: فبدلوها ومن يبدل(12).

وإنما جعل العقاب مترتبا على التبديل بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط(13)، فقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) ارتبطت بما قبلها (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ) فأفادت المبالغة والزيادة في التقريع الناتج عن فعل التبديل، وارتبطت بما بعدها بحيث ترتب عليها العقاب المستحق الناتج عن فعل التبديل بعد وضوح الآيات والتمكن من معرفتها حق المعرفة؛  فانظر إلى هذا السبك العجيب في المعاني.

– الإظهار في مقام الإضمار: في قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: فإنه شديد العقاب، لإدخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلا بنفسه، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم، سمي عقابا لأنه يعقب الجناية(14).

– وذكر أبو حيان أن قوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط، تقديره: فإن الله شديد العقاب له، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين، فيغني عن الربط لقيامها مقام الضمير، والأولى أن يكون الجواب محذوفا لدلالة ما بعده عليه، التقدير: يعاقبه(15).

قال عبد القاهر في كتابه (دلائل الإعجاز): ترك هذا الإضمار أولى(16)، يعني بالإضمار شديد العقاب له، لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفا بأنه شديد العقاب، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب. لهذا، ولذلك سمي العذاب عقابا، لأنه يعقب الجرم(17).

– التذييل: في قوله تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)، وهو من أسباب الإطناب، وقد عرفوه بأنه تعقيب الجملة بجملة أخرى متفقة معها في المعنى تأكيدا للجملة الأولى(18)، وجملة التذييل هذه فيها تأكيد لمفهوم الجملة الأولى ومعناها وإن لم يكن هناك اشتراك باللفظ بين الجملتين.

لكنها أفادت أن المقصود أولا من هذا الوعيد هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله: (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ)، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلا لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء، فيغني مثله في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازا بديعا من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معا لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب، لأن من يبدل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكما جامعا يشمل المقصودين وغيرهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضا يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلا لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع(19).

ففي هذه الآية إيجاز بديع من إيجاز حذف الجمل وهذا القسم لا تكاد تجده إلا في كتاب الله تبارك وتعالى، ذلك أن الجملة ذات فائدة مستقلة، وحينما تحذف فإن ذلك سيحدث خللا في المعنى، ونقصا في الغرض المقصود، فلا يستطيع أحد أن يرتب كلامه بحيث إذا حذفت منه جمل مستقلة يؤدي الغرض المراد، لكن كلام رب العالمين يعطيك المعاني كاملة، وإنك مع ذلك تجد حلاوة الإيجاز في هذا الحذف ناشئة عن روعة الإعجاز(20).

ويلقي إيجاز القصر بظلاله على هذه الآية أيضا فلئن حذفت بعض الجمل التي قدرها المفسرون في الكلام إيجازا، فإن ما ذُكِر في تلك الألفاظ القليلة يتضمن معاني كثيرة وهو ما يسمى بإيجاز القصر، وهذا النوع كما قال ابن الأثير: «وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا، وأعوزها إمكانا، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا»(21)، ويكثر ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى ومنه في هذه الآية، ولذلك قال الطبري: «النعمة هنا الإسلام»، وهذا قريب من الأول، ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش الذين بُعِث محمد منهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا، والتوراة أيضا نعمة على بني إسرائيل أرشدتهم وهدتهم، فبدلوها بالتحريف لها وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم(22).

– وفي هذا التذييل أيضا مبالغات شتى:

إحداها: العموم في (مِنْ) ليدخل هؤلاء الذين بدلوا فيه دخولاً أولياً.

وثانيتها: إقامة المظهر موضع المضمر كما سبق.

وثالثتها: إضافتها إلى اسم الله تعالى.

ورابعتها: التتميم في قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ).

وخامستها: نسبة المجيء إلى الآيات على سبيل الاستعارة.

وسادستها: إيقاع (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) جزاء للشرط على تأويل الإخبار، يعني: تبديل الناس نعمة الله سبب لإخبار الله بكونه شديد العقاب، وهذا لا يصار إليه إلا عند فظاعة الشأن.

وسابعتها: إقامة المظهر موضع المضمر في الجزاء.

وثامنتها: تصدره بأداة التأكيد.

وتاسعتها: إضافة الشديد إلى العقاب.

وعاشرتها: التعميم في الجزاء(23).

ورد أبو حيان على دعوى بعض من جمع في التفسير: أن هذه الآية: (سل بني إسرائيل) مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: والتقدير: فإن زللتم إلى آخر الآية: سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ أي: أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.

قال أبو حيان مبطلا هذه الدعوى: «ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض، متلاحمة التركيب، واقعة مواقعها، فالمعنى: أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام، ثم أخبروا أن من زل جازاه الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، ثم قيل: لا ينتظرون في إيمانهم إلا ظهور آيات بينات، عنادا منهم، فقد أتتهم الآيات، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات، بقوله: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز، باللفظ البليغ الموجز، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار، وبنظم ذوي الانحصار، منزه عنها كلام الواحد القهار»(24).

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (212)

– هذه الآية استئناف بالرجوع إلى أحوال كفار العرب المعنيين من الآيات السابقة قصدا وتعريضا من قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) [البقرة: 210]، والمحتج عليهم بقوله: (سل بني إسرائيل) [البقرة: 211] استئنافا لبيان خلقهم العجيب المفضي بهم إلى قلة الاكتراث بالإيمان وأهله إلى الاستمرار على الكفر وشعبه التي سبق الحديث عنها، فعن ابن عباس المراد: رؤساء قريش، فهذا الاستئناف في معنى التعليل للأحوال الماضية، ولأجل ذلك قطع عن الجمل السابقة لا سيما وقد حال بينه وبينها الاستطراد بقوله: (سل بني إسرائيل) [البقرة: 211] الآية(25).

والاستئناف من دواعي الفصل، ومناسبتها لما سبقها أنه لما تقدم من الأمر بالسلم والتهديد على الزلل عنه ما يقتضي لزومه حتماً كان كأنه قيل: ما فعل من خوطب بهذه الأوامر وقمع بتلك الزواجر؟ فقيل: أبى أكثرهم، فقيل: إن هذا لعجب! ما الذي صدهم؟ فقيل: تقدير العزيز الذي لا يخالف مراده الحكيم الذي يدق عن الأفكار استدراجه، فقيل: كيف يتصور من العاقل كفر النعمة؟ فبين أن سبب ذلك غالباً الترفع والتعظم والكبر والبطر فرحاً بما في اليد وركوناً إليه وإعراضاً عما خبىء في خزائن الله في حجب القدرة فقال مستأنفاً بانياً للمفعول دلالة على ضعف عقولهم بأنهم يغترون بكل مزين(26).

– اختلف في فاعل فعل«زُيِّنَ» على أقوال ثلاثة:

أولها: أنه حُذف لفهم المعنى، وهو الله تعالى، يؤيد ذلك قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبي حيوة: «زَيَّنَ»، على البناء للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله: (فإن الله شديد العقاب). وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها، أو بالشهوات التي خلقها فيهم، وإليه أشار بقوله: (زين للناس حب الشهوات) الآية، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه، فأعجبهم بهجتها، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه(27).

وهذا رأي جماعة من المفسرين منهم الزمخشري في أحد قوليه، يقول: «ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم؛ بأن خذلهم»(28)، فهو من إطلاق المسبب على السبب، أو جعل إمهال المزين تزييناً، فالإسناد على هذا مجاز، نحو: بنى الأمير المدينة، وهزم الأمير الجند، وقال القاضي: والمزين على الحقيقة هو الله تعالى، إذ ما من شيء إلا هو فاعله، ويدل عليه قراءة «زَيَّنَ» على البناء للفاعل، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلق الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية، مزين بالعرض(29).

ثانيها: المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها(30)، وهذا رأي لبعض المفسرين(31) منهم الزمخشري أيضا في قول ثان، قال أحمد رحمه اللَّه في حاشيته على «الكشاف»: «وردت إضافة التزيين إلى اللَّه تعالى وإضافته إلى غيره في مواضع من الكتاب العزيز وهذه الآية تحتمل الوجهين، لكن الإضافة إلى قدرة اللَّه تعالى حقيقة، والإضافة إلى غيره مجاز. على قواعد السنة. والزمخشري يعمل على عكس هذا، فإن أضاف للَّه فعلا من أفعاله إلى قدرته جعله مجازا وإن أضافه إلى بعض مخلوقاته جعله حقيقة. وسبب هذا هو التعكيس باتباع الهوى في القواعد الفاسدة»(32).

ثالثها: وهو قول للطاهر ابن عاشور في «التحرير والتنوير»، ومفاده أن حذف فاعل التزيين لأن المزين لهم أمور كثيرة: منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر، ومنها إلقاء حسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان باديا، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعد فاعلا للتزيين حقيقة أو عرفا، فلأجل ذلك طوي ذكر هذا الفاعل تجنبا للإطالة. ويجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته، إذ المزين لهم الدنيا أمر خفي فيحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافس أو التقليد حتى عموا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذات أو من الأضرار المختصة المغشاة بتحسين العادات الذميمة، وحملهم على الدوام عليه ضعف العزائم الناشئ عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات(33).

– وليس المراد بالذين كفروا أهل الكتاب من معلن ومنافق كما روي عن مقاتل، لأنه ليس من اصطلاح القرآن التعبير عنهم بالذين كفروا، ولأنهم لو كانوا هم المراد لقيل زين لهم الحياة الدنيا، لأنهم من بني إسرائيل، ولأن قوله: (ويسخرون من الذين آمنوا) يناسب حال المشركين لا حال أهل الكتاب(34).

– وجيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاء لحقي الدلالة على أن معني فعل التزيين أمر مستقر فيهم لأن الماضي يدل على التحقق، وأن معنى يسخرون متكرر متجدد منهم لأن المضارع يفيد التجدد، ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضا مستمر لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره، ويعلم أن ما كان مستمرا هو أيضا محقق؛ لأن الفعل لا يستمر إلا وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه، فيكون المعنى في الآية: زين للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثارا لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر، لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق، ليدل على ملكة واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم، إذ لا يليق بذي المروءة السخرية بغيره، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام، لأن الشيء المستمر لا يكون إلا متحققا(35).

وقيل: هو على الاستئناف أي: الفعل المضارع، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير: وهم يسخرون، فيكون خبر مبتدأ محذوف، ويصير من عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية(36)، للإشعار بأنه أتى بالأولى فعلية دلالة على التجدد والحدوث(37).

– عطف الجملة الإسمية على الفعلية: فقد عبر عن زينة الحياة الدنيا في نظر الذين كفروا وعن سخريتهم من المؤمنين بالفعلية إشارة الى الحدوث، وأن ذلك أمر طارئ لا يلبث أن يزول بصوارف متعددة. أما استعلاء الذين اتقوا عليهم فهو أمر ثابت الدّيمومة لا يطرأ عليه أي تبديل(38)، ولذلك عبر عنه بالجملة الإسمية.

– الإظهار في مقام الإضمار: في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ)؛ أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذبا وتلفيقا كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) [النجم: 19] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمدا أثنى على آلهتهم. فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني (الذين ءامنوا) لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سببا عظيما في هذه الفوقية، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دوما بين شدة الخوف وقليل الرجاء، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام(39)، وهي من عادات القرآن في عرض هداياته وإرشاداته، ومعرفة عادات القرآن من علوم القرآن المهمة التي تعين المفسر على اختيار القول الصحيح في تفسير القرآن والترجيح بين الأقوال التفسيرية.

– معنى «فَوْقَهُمْ» وما يتفرع عليها من معان: في قوله تعالى: (والذين اتقوا فوقهم)، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب، كما قال تعالى: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان: 24]، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخرة في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم، وكذلك خير مستقرا من هؤلاء في نعمة الدنيا، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وتحتمل الآيتان أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم كانوا يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل، وهذا كله من التحميلات حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك(40).

– التذييل: في قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تذييل قصد منه تعظيم تشريف المؤمنين يوم القيامة، لأن التذييل لا بد أن يكون مرتبطا بما قبله فالسامع يعلم من هذا التذييل معنى محذوفا تقديره والذين اتقوا فوقهم فوقية عظيمة لا يحيط بها الوصف، لأنها فوقية منحوها من فضل الله وفضل الله لا نهاية له، ولأن من سخرية الذين كفروا بالذين آمنوا أنهم سخروا بفقراء المؤمنين لإقلالهم(41)، وفي هذا التذييل أيضا تأكيد لقوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) «ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى»(42).

– الباء في قوله تعالى: (بِغَيْرِ حِسابٍ): ذكر أبو حيان أن الأولى أن تكون الباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بباء الحال، وعلى هذا يصلح أن تكون: للمصدر، وللفاعل، وللمفعول، ويكون الحساب مرادا به المحاسبة، أو العد، أي: يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق، أو: ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق. وكون الباء لها معنى أولى من كونها زائدة، وكون المصدر باقيا على المصدرية أولى من كونه مجازا عن اسم فاعل أو اسم مفعول وكونه مضافا لغير أولى من جعله مضافا لذي محذوفة(43).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- التحرير والتنوير 2/288.

 2- الكشاف 1/254.

3- التحرير والتنوير 2/289.

4- الكشاف 1/254.

5- البحر المحيط 2/349- 350.

 6- نفسه 2/347- 348.

7- انظر: البلاغة فنونها وأفنانها (علم المعاني) ص: 198.

8- الجامع لأحكام القرآن 1/28.

9- فتوح الغيب 3/328.

10- المفردات ص: 212.

11- التحرير والتنوير 2/292.

12- فتوح الغيب 3/330.

13- التحرير والتنوير 2/292.

14- نفسه 2/293.

15- البحر المحيط 2/351- 352.

16- انظر: دلائل الإعجاز ص: 152.

17- البحر المحيط 2/352.

18- انظر: البلاغة فنونها وأفنانها (علم المعاني) ص: 510.

19- التحرير والتنوير 2/291.

20- انظر: البلاغة فنونها وأفنانها (علم المعاني) ص: 484.

21- المثل السائر 2/117.

22- المحرر الوجيز 1/284.

23- فتوح الغيب 3/330- 331.

24- البحر المحيط 2/352.

 25- التحرير والتنوير 2/293- 294.

26- نظم الدرر 1/392.

27- البحر المحيط 2/353.

28- الكشاف 1/254.

29- فتوح الغيب 3/331.

30- الكشاف 1/254.

31- منهم ابن عطية، قال: «ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه»، انظر: المحرر الوجيز 1/284.

 32-  الانتصاف فيما تضمنه الكشاف لابن المنير الإسكندري، انظر: حاشية الكشاف 1/254.

33- التحرير والتنوير 2/294- 295.

34- نفسه 2/294.

35- نفسه 2/296- 297.

 36- البحر المحيط 2/354.

37- إعراب القرآن الكريم وبيانه 2/276.

38- نفسه 2/276.

39- التحرير والتنوير 2/297.

40- المحرر الوجيز 1/284- 285.

41- التحرير والتنوير 2/298.

42- مفاتيح الغيب 6/369.

43- البحر المحيط 2/357- 358.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، منشورات: دار الفكر، بيروت، عام: 1420هـ.

– البلاغة فنونها وأفنانها (علم المعاني)، للدكتور فضل حسن عباس، منشورات: دار النفائس، الأردن.

– التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، منشورات الدار التونسية للنشر، تونس، سنة النشر: 1984هـ.

– الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، راجعه وضبطه وعلق عليه: محمد إبراهيم الحفناوي، منشورات: دار الحديث، القاهرة، سنة 1428هـ/ 2007م.

– دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق: محمود محمد شاكر، الطبعة الثالثة: 1413هـ / 1992م، منشورات: مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة.

– فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي، مقدمة التحقيق: إياد محمد الغوج، القسم الدراسي: د. جميل بني عطا، الطبعة الأولى: 1434هـ/ 2013م، منشورات: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، منشورات: المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، عام النشر: 1420هـ.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، الطبعة الأولى: 1422هـ، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

– المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهانى، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، الطبعة الأولى: 1412هـ، منشورات: دار القلم، الدار الشامية، دمشق بيروت.

– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه: عبد الرزاق غالب المهدي، الطبعة الثالثة: 1427هـ/ 2006م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق